ربما تكون هذه الكلمة هتكًا لستر مسلم أو كشفًا لعيوبه أو تتبعًا لعوراته، وهذه هي الغيبة. وربما تحدث الوقيعة بين المسلمين وفساد ذات البين، وهذه هي النميمة، وربما تكون هذه الكلمة كذبًا أو نقل الكذب، فإن نقل الكذب مثل الكذب، وربما تكون قولاً على الله بغير علم، وهذا من أشد المحرمات؛ لأن صاحبه ربما تسبب في نشر بدعة أو خرافة أو ضلالة وهو لا يشعر ..
أما بعد: فقد قال الله تعالى: (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) [الحجرات:12].
فالغيبة من أشد آفات اللسان ضررًا وأعظمها إثمًا، فالإنسان إذا صان لسانه وفرجه فإنه ينجو، ولكنه إذا سلم من الزنا والفواحش فإنه قلما يسلم من الكذب أو الغيبة أو النميمة، فالسلامة من ذلك أصعب من السلامة من تلك. قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "من وقاه الله شر ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة".
كثير من الناس لا يلقون بالاً لمفاسد القول ولمخاطر الكلام، ولا يخافون من حصائد الألسنة، وإنما يكب الناس على مناخيرهم يوم القيامة حصائد ألسنتهم.
ومن حصائد الألسنة ما يهوي بالإنسان في النار سبعين خريفًا؛ قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد ليتكلم الكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار". وربما تكون هذه الكلمة هتكًا لستر مسلم أو كشفًا لعيوبه أو تتبعًا لعوراته، وهذه هي الغيبة. وربما تحدث الوقيعة بين المسلمين وفساد ذات البين، وهذه هي النميمة، وربما تكون هذه الكلمة كذبًا أو نقل الكذب، فإن نقل الكذب مثل الكذب، وربما تكون قولاً على الله بغير علم، وهذا من أشد المحرمات؛ لأن صاحبه ربما تسبب في نشر بدعة أو خرافة أو ضلالة وهو لا يشعر، ربما يكون من المبتدعين، والبدعة أكثر ضررًا من المعصية؛ لذلك روي أن المبتدع لا تقبل له توبة ولا صلاة. فليحذر الذين يتكلمون باسم الدين ويقولون على الله بغير علم، فليحذروا أن يكونوا من المبتدعين وهم لا يدرون.
ومما يكثر منه الناس وينتشر على الألسنة تعيير العاصي والمذنب على ذنبه في غيابه، فهذا -إلى جانب كونه وقيعة في عرض المسلم- فإن فيه إعانة للشيطان عليه، فإنه إذا بلغه ذلك تأذى منه، وربما يدفعه إلى التمادي في العصيان، فلا يجوز ذلك.
هذا ماعز الأسلمي -رضي الله عنه- لما جاء إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأقر عنده بالزنا وطلب من الرسول أن يطهره بالحد، فأمر به رسول الله أن يرجم، فرجم بعد أن تثبت النبي من إقراره وحاول أن يصرفه عنه، فرجم ثم سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلين يتحدث أحدهما إلى الآخر فيقول: ألم تر إلى ذلك الذي ستر الله عليه ثم لم تدعه نفسه حتى رُجِمَ رَجْمَ الكلب!! سمع الرسول ذلك ثم مر حتى جاء على جيفة حمار منتنة فقال: "أين فلان وفلان؟!"، ينادي الرجلين اللذيْن قالا تلك المقالة، ثم قال لهما: "انزلا فكلا من جيفة الحمار"، فقالا: غفر الله لك يا رسول الله، أيؤكل هذا؟! فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "فما نلتما من أخيكما آنفًا أشد أكلاً من هذه الجيفة، فوالذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها". صدق -صلى الله عليه وسلم-.
فحتى المسلم المذنب لا يجوز تعييره بذنبه في غيابه، بل الواجب على المسلم إذا رأى أخاه المسلم يتورط في معصية أن يستر عليه ولا يفضحه، الواجب عليه أن ينصحه فيما بينه وبينه ويخوفه عذاب الله مع ستر سره وحماية عرضه، هذا هو أدب الشرع في هذه الأحوال.
فإذا وقع المؤمن في الغيبة ثم ندم وأراد أن يكفر عن ذنبه ماذا عليه أن يصنع؟! قال بعض العلماء، عليه أن يخبر ذلك الذي اغتابه وأن يتحلل منه، وقال آخرون -وهو الصحيح-: بل لا يلزمه ذلك؛ لأن إخباره يؤدي إلى تنافر النفوس بدلاً من تصافيها، بل عليه أن يتوب إلى الله ويستغفره، وأن يمحو غيبته بأن يستغفر له ويدعو له بظهر الغيب ويثني عليه أمام الناس أو في نفس المجلس الذي اغتابه فيه، وأن يدافع عن عرضه، فإن في ذلك تكفيرًا وتطهيرا له: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) [الأحزاب:70].
أما بعد: فثلاثة لا تعد من الغيبة:
أولاً: ذكر الفاسق المجاهر بفسقه المعلن لمعصيته، ومن باب أولى أولئك الذين يروجون للفساد وينشرون الفاحشة كأصحاب المجلات الخليعة "سيدتي" و"الهدف" ومثلها، عربيةً كانت أم أجنبية، وكمنتجي الأفلام الرقيعة، وكأصحاب وكالات السفر والسياحة التي تستدرج شباب المسلمين ليشدوا رحالهم إلى أماكن الرذيلة، والممثلون والممثلات، والمغنون والمغنيات، والراقصون والراقصات، هؤلاء وأشباههم الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، هؤلاء -وإن كانوا مسلمين- لا حرمة لهم ولا لأعراضهم، لا غيبة لهم ولا كرامة، يجب كشف حالهم وفضح نواياهم وطواياهم وأهدافهم الخبيثة، فهم يهدمون جسم الأمة. أرأيتم لو أن مليونًا من شبابنا تربوا على روح الجهاد وعلى السلاح واستعماله، كيف يكونون سندًا للجيش المسلم، أيطمع حينئذ طامع فينا؟! ولكن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عن الفاروق عمر بن الخطاب قال: "لا حرمة لفاجر"، وعن الحسن بن علي: "ثلاثة لا غيبة لهم: صاحب هوى -المبتدع-، والفاسق المعلن لفسقه، والإمام الجائر".
ثانيًا: ذكر المبتدع وتحذير الناس منه ومن شره ومن بدعته، فإن خطر المبتدع قد تعدى إلى غيره، وربما يكون خطره على المسلمين عظيمًا؛ فإن البدعة أعظم ضررًا وخطرًا من المعصية، ففي البدعة خلل للعقائد، فإن المبتدع إذا أصر على بدعته لا تقبل له توبة، فيلقى الله على ذلك.
ثالثًا: ذكر عيوب الإنسان إذا كان في ذلك نصرة لمسلم استنصحك أو استشارك، فإذا أراد شخص أن يزوج آخر أو يودع عنده مالاً أو ما إلى ذلك، فإن كنت تعلم عن ذلك الآخر خيانة أو شيئًا فإن عليك أن تنصحه. والدليل على ذلك قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لفاطمة بنت قيس -رضي الله عنها- لما جاءته تخبره أن أبا جهم ومعاوية -رضي الله عنهما- قد خطباها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- لها: "أما أبو جهم فإنه رجل لا يضع عصاه عن عاتقه -أي إنه كثير الضرب يضرب كثيرًا-، أما معاوية فرجل صعلوك لا مال له".
وروى الحاكم في مستدركه أن أخًا لبلال -رضي الله عنه- خطب امرأة، فقال له ذووها: إن جاءنا بلال زوجناك، فأتاهم بلال فقال لهم: "أنا بلال وهو أخي، هو امرؤ سيئ الخلق والدين". وهو أخوه! ولكن للنصح أخبرهم بما فيه من عيب -رضي الله عنهم جميعًا-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي