فعلى قدر حفظك لله؛ يكون حفظ الله لك, والله أكرم!، فيحفظك في دينك ودنياك وأولاك وأخراك, وأهلك ومالك ونفسك؛ لأن الله -تعالى- يجزي المحسنين بإحسانهم، والله عنده حسن الثواب، والجزاء من جنس العمل...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله الحفيظ يحفظ عباده، ويحفظ عليهم أعمالهم، ويوفيهم أجورهم؛ (وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ)[سبأ: 21]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، هدى اللهُ به من الضلالة, وأنقذ به من الغواية، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليما مزيداً إلى يوم القيامة.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-؛ فقد أوصى الله بها جميع السّابقين واللّاحقين: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ)[النساء: 131].
عباد الله: إن من عيون الوصايا النبوية للأمة المحمدية، وهي أعظم وأقصر وصية، وكان السلف يتواصون بها في حضرهم وسفرهم، وصية في كلمات تمنحك السعادة حتى الممات: "احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ"، ومن أسماء الله الحسنى: "الحفيظ" و"الحافظ"، ومعناه: الذي يحفظ على الخلق أعمالهم، ويحصي عليهم أقوالهم، ويعلم نياتهم، وما تكن صدورهم، وهو الذي يحفظ أولياءه من مواقعة الذنوب، ويحرسهم من مكائد الشيطان، ويحفظهم من المهالك، ومن مصارع السوء، وحفظه -سبحانه- لعباده خير من حفظهم لأنفسهم؛ (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 64].
"احْفَظ اللَّهَ" احفظ حدوده، وحقوقه، وذلك بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، فمن فعل ذلك، فهو من الحافظين لحدود الله الذين مدحهم الله في كتابه، قال -تعالى-: (هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)[ق: 32، 33], وفسر الحفيظ هاهنا بالحافظ لأوامر الله، وبالحافظ لذنوبه؛ ليتوب منها.
ومن أعظم ما يجب حفظه من أوامر الله: الصلاة، وقد أمر الله بالمحافظة عليها، فقال: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ)[البقرة: 238]، ومدح المحافظين عليها بقوله: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)[المعارج: 34]، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خَمسُ صَلواتٍ, كتبَهُنَّ اللَّهُ علَى العبدِ في اليَومِ واللَّيلةِ, فمَن حافظَ علَيهنَّ؛ كانَ لَهُ عندَ اللَّهِ عَهْدٌ أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ, ومَن لم يحافظْ علَيهنَّ؛ لم يَكُن لَهُ عندَ اللَّهِ عَهْدٌ, إن شاءَ عذَّبَهُ, وإن شاءَ غفرَ لَهُ", وقال -صلى الله عليه وسلم-: "من حافظ عليها؛ كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة".
وكذلك المحافظة على الطهارة؛ فإنها مفتاح الصلاة، وشطر الإيمان، قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن".
ومما يؤمر العبد بحفظه: الأيمان والعهود، قال -تعالى-: (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ)[المائدة: 89].
وما يؤمر العبد بحفظه: حفظ الفروج من اللواط والزنا، ونحو ذلك، وقد أخبر الله في كتابه أن حفظ الفروج من صفات المؤمنين المفلحين: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ)[المؤمنون: 5], ثم قال -تعالى-: (أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[المؤمنون: 10، 11].
"احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ" أعظم بشارة، فعلى قدر حفظك لله؛ يكون حفظ الله لك, والله أكرم!، فيحفظك في دينك ودنياك وأولاك وأخراك, وأهلك ومالك ونفسك؛ لأن الله -تعالى- يجزي المحسنين بإحسانهم، والله عنده حسن الثواب، والجزاء من جنس العمل.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "احفظ الله تجده تجاهك", تجد الله معك على أي حال, فالله يحفظك ويُعينك, وينصرك ويؤيدك ويكلؤك؛ (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ)[النحل: 128]، ومَن يتق الله فهو حسبه، ومَن كان الله معه، فمعه الفئة التي لا تُغلب, والحارس الذي لا ينام, والهادي الذي لا يضل، ومَن كان الله معه فإن الله -عز وجل- يُسدده ويُعينه ويوفقه لأمور دينه ودنياه.
يحفظ الله المؤمن التّقي ويُعينه، ويرزقه، ويكون معه؛ (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)[البقرة: 194], (فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[يوسف: 64]، يحفظ الغائب، ويرد القريب، ويهدي الضال، ويعافي المبتلى، ويشفي المريض، ويكشف الكرب، وإذا حفظك الله فلا ينالك عدو، ولا يغلبك حاسد، ولا يعلو عليك حاقد، ولا يجتاحك جبار، فتوجه إلى الله وتوكل عليه؛ فالتوفيق منه, ولا تنسَ الله وآيات الله فتنسى.
ومن حفظ الله في صباه وقوته؛ حفظه الله في حال كبره وضعفه، ومتّعه بسمعه وبصره وحوله وقوّته وعقله، كان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو مُمتّعٌ بقوّته وعقله، فوثب يوماً وثبةً شديدةً، فعوتب في ذلك، فقال: "هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر؛ فحفظها الله علينا في الكبر"، وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخاً يسأل الناس فقال: "إنّ هذا ضعيفٌ ضيّع الله في صغره؛ فضيّعه الله في كبره"(ذكره ابن رجب).
فمما يحفظ للعبد جوارحه وسلامة حواسه مع تقدم العمر حفظه لها حال الشباب, من استعمالها فيما حرم ﷲ، ومما يُشاهد في الحياة رؤية بعض كبار السن ممن مدَّ ﷲ في عمره وهو لا يزال ممتعاً بحواسه، وآخرون أعمارهم تقصر عن ذلك, وقد اعترى جوارحهم وحواسهم من الضعف ما اعتراها.
اللهم احفظنا بعينك التي لا تنام, واحرسنا بعزك الذي لا يضام يا ذا الجلال والإكرام, أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله وكفى, وسلام على عباده الذين اصطفى.
وبعد: فاتقوا الله -عباد الله- حق التقوى, واعلموا أنه ما من عبدٍ مسلم أكثر الصلاة على محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ إلا نوَّر الله قلبه، وغفر ذنبه، وشرح صدره، ويسّر أمره، فأكثروا من الصلاة عليه؛ فمن صلى عليه صلاة واحدة, صلى الله عليه بها عشرا.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا وولي عهده لكل خير، اللهم اصرف عنا شر ما قضيت، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن, اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وموتى المسلمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي