وحُبُّ الوَطَنِ يَسْتَوْجِبُ على المُسْلِمِ طَاعَةَ وَلِيِّ أَمْرِهِ بالمَعْرُوف؛ تَعَبُّدًا لا تَزَلُّفًا، وَرِضىً للرَّحْمَن، لا بالَهَوى والعِصْيَان؛ فَلَا يَتَحَقَّقُ أَمْنُ الوَطَن، وحَقْنُ الدِّمَاء، وإِقْامَةُ الشَّرْع؛ إلا بالطَّاعَةِ، وَلُزُوْمِ الجَماعَة...
أَيُّهَا الكِرَام: حُبُّ الوَطَن؛ أَمْرٌ فِطْرِي غَرِيْزِيّ؛ فَهُوَ المَكَانُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ الإِنْسَان، وتَفَيَّأَ في ظِلَالِه، وَتَرَعْرَعَ في أَحْضَانِه، وَقَدْ كانَ -صلى الله عليه وسلم- إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلَى جُدُرَاتِ الْمَدِينَةِ؛ أَوْضَعَ نَاقَتَهُ، وَإِنْ كَانَ عَلَى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا! (رواه البخاري). قالَ ابْنُ حَجَر: "فِي الْحَدِيثِ دِلَالَةٌ عَلَى فَضْلِ الْمَدِينَةِ، وَعَلَى مَشْرُوعِيَّة حُبِّ الوَطَن، والحَنِينِ إِلَيْهِ".
وَحُبُّ الوَطَن كَحُبِّ الحَيَاة، وإِخْرَاجُ الإنسانِ مِنْ وَطَنِه؛ كإِخْرَاجِهِ مِنْ الحَيَاة! ولهذا قَرَنَ اللهُ بَيْنَهُمَا في كِتَابِه؛ قال تعالى -في حَقِّ اليَهُود-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ)[النساء:66].
وحُبُّ الوَطَن فُرْصَةٌ للتَّعَارُفِ والائتِلاف، لا للتَّنَازُعِ والاخْتِلاف، والشَّرِيْعَةُ تَدْعُو إلى الأُلْفَة، وَتُحَذِّرُ مِنْ الفُرْقَةِ؛ قال تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)[الحجرات:13].
وحُبُّ الوَطَن فُرْصَةٌ لدَعْوَةِ الحَقّ، والرَّحْمَةِ بالخَلْق؛ فالأَقْرَبُونَ مِنْ أَهْلِ الوَطَن هُمْ أَوْلَى النَّاسِ بالدَّعْوَة. والاشْتِرَاكُ في الوَطَنِ واللُّغَةِ مِنْ أَسْبَابِ قَبُوْلِ الدَّعْوة، قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)[إبراهيم: 4].
وحُبُّ الوَطَنِ يَسْتَوْجِبُ على المُسْلِمِ طَاعَةَ وَلِيِّ أَمْرِهِ بالمَعْرُوف؛ تَعَبُّدًا لا تَزَلُّفًا، وَرِضىً للرَّحْمَن، لا بالَهَوى والعِصْيَان؛ فَلَا يَتَحَقَّقُ أَمْنُ الوَطَن، وحَقْنُ الدِّمَاء، وإِقْامَةُ الشَّرْع؛ إلا بالطَّاعَةِ، وَلُزُوْمِ الجَماعَة؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ)[النساء:59].
وَحُبُّ الوَطَنِ يَحُثُّ على الدُّعَاءِ بِصَلاحِ مَنْ يَحْكُمُه؛ فَإِنَّ الحَاكِمَ أَحْوَجُ مَنْ يُدْعَى لَه؛ لأَنَّ صَلَاحَه؛ صَلاحٌ للوَطَنِ وأَهْلِه، قال الفُضَيلُ بنُ عِيَاض: "لَوْ كَانَ لي دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؛ ما جَعَلْتُهَا إلا في السُّلْطَان!".
وحُبُّ الوَطَنِ يَقْتَضِيْ حِمَايَةَ سَفِيْنَتِهِ مِنْ خُرُوْقَاتِ الفَسَاد؛ فَإِنَّ التَّوَاصِي على الحقِّ؛ والتَّحْذِيرَ مِنَ الشرِّ؛ حِمَايَةٌ لِسَفِيْنَةِ الوَطَنِ مِنَ الغَرَق، قال -صلى الله عليه وسلم-: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ، وَالوَاقِعِ فِيهَا؛ كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا، وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ؛ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا! فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا؛ هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ؛ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا"(رواه البخاري).
وحُبُّ الوَطَنِ لَيْسَ شَعَارًا فَقَط! بَلْ لا بُدَّ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلى عَمَلٍ مُخْلِص، ونَصِيحَةٍ صَادِقَة، مَعَ لُزُوْمِ الجَمَاعَة، وأَدَاءِ الأَمَانَة، وعَدَمِ الخِيَانَة؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَايَحَةُ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومُ جَمَاعَتِهِمْ"(رواه الترمذي، وصححه الألباني).
والمَعَنَى: أَنَّ المُؤْمِنَ لا يَخُونُ في هَذِهِ الثَّلَاثَة، وأَنَّ مَنْ تَمَسَّكَ بِهَا طَهُرَ قَلْبُهُ مِنَ الغِلِّ والفَسَاد.
وَحُبُّ الوَطَن؛ يُحَتِّمُ أَنْ نَكُونَ يَدًا وَاحِدَة أَمَامَ العَابِثِيْنَ بِأَمْنِ الوَطَنِ ودِيْنِه؛ (وَأَعِدُّوا لَهُم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِن قُوَّةٍ وَمِن رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ)[الأنفال:60].
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:
عِبَادَ الله: الاِنْتِمَاءُ إلى وَطَنِ الحَرَمَينِ الشَّرِيْفَيْن نِعْمَةٌ وَمَسْؤُولِيَّة؛ فاشْكُرُوا هذهِ النِّعْمَةَ الجَلِيّة، وَكُوْنُوا على قَدْرِ المسؤولية؛ فَهِيَ قِبلَةُ المُسْلِمِيْن، ومَوْطِنُ النَّبِيِّ الأَمِين، قال -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللهِ إِنَّكَ لَخَيْرُ أَرْضِ اللهِ، وَأَحَبُّ الْبِلَادِ إِلَى اللهِ، وَلَوْلَا أَنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ"(رواه الترمذي، وصححه الألباني)
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي