توفيق الله لعباده المتقين

أسامة بن عبدالله خياط
عناصر الخطبة
  1. الطريق إلى الله تعالى واحد لا تعدد ولا اختلاف فيه .
  2. كل الشرائع السماوية ترجع لأصل واحد .
  3. اختلاف طرق الناس في الوصول لرضوان الله تعالى .
  4. فوز وفلاح من يسلك جميع الطرق الموصلة لرضوان الله تعالى .
  5. فتوحات وبركات إقبال الله على العبد السالك إليه .

اقتباس

إنَّ الله إذا أقبَل على عبدِه السالكِ إليه استنارَتْ حياتُه، وأشرقت ظُلُمَاتُه، وظهَر عليه آثارُ إقباله من بهجةِ الجلال ونضرة الجَمال، وتوجَّه إليه أهلُ الملأ الأعلى بالمحبَّة والموالاة؛ لأنهم تَبَعٌ لمولاهم -سبحانه-، فإذا أحبَّ عبدَه أحبُّوه...

الخطبة الأولى:

الحمد لله الكريم الرحيم، أحمده -سبحانه-، على فضله السابغ وخيره العميم، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، يدعو إلى دار السلام ويهدي مَنْ يشاء إلى صراط مستقيم، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، صاحب النهج الراشد والخُلق القويم، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعدُ: فاتقوا الله -عباد الله-، وارقِبوه، واذكروا أنكم موقوفون بين يديه؛ (يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ)[النَّبَإِ: 40]، (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى)[النَّازِعَاتِ: 35]، (يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)[الْفَجْرِ: 23].

أيها المسلمون: إنَّ الطريقَ إلى الله -تعالى في الحقيقة- واحدٌ لا تعدُّدَ فيه، وهو صراطُه المستقيمُ، الذي نصبَه موصِلًا لِمَنْ سلَكَه إليه وإلى رضوانِه وجنَّاتِه، كما قال سبحانه: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الْأَنْعَامِ: 153]، فوحَّد -سبحانه- سبيلَه؛ لأنه في نفسه واحد لا تعدُّد فيه، وجمَع السبل المخالِفة له؛ لأنها كثيرة متعددة، كما جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والدارمي في سننه بإسناد حسَن عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطَّ خطًّا مستقيمًا ثم قال: "هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله ثم قال: هذه السُّبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)[الْأَنْعَامِ: 153]؛ فالطريق إلى الله واحد، وبيان ذلك كما قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "أنه -سبحانه- الحقُّ المبينُ، والحق واحد مرجعه إلى واحد، وأما الضَّلال فلا ينحصر"، ومِن هنا يُعلَم أن الشرائع مع تنوُّعِها واختلافها ترجع كلُّها إلى دينٍ واحدٍ، مع وحدَةِ المعبودِ ووحدةِ دينِه، ومنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم -رحمهما الله- في صحيحيهما، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "الأنبياء إخوة لعَلَّات، أمهاتهم شتَّى ودِينُهم واحد"، فأولاد العَلات من كان والدهم واحدًا، وأمهاتهم متعددة، فشبَّه -صلوات الله وسلامه عليه- دين الأنبياء بالأب الواحد، وشبه شرائعهم بالأمهات المتعددة؛ فإنها -أي: هذه الشرائع- وإن تعددت فمرجعها لأب واحد.

وإذا تقرَّر هذا فمن الناس مَنْ يكون العلم والتّعليمُ سيِّدَ عملِه وطريقَه إلى الله، قد وفَّر عليه زمانَه مُبتغِيًا به وجهَ اللهِ، فلا يزال كذلك عاكفًا على طريق العلم والتعليم، عامِلًا بما عَلِمَ حتى يَصِلَ من تلك الطريق إلى الله، أو يموت في طريق طلبِه، فيُرجَى له الوصول إلى مطلبِه بعد مماته كما قال سبحانه: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[النِّسَاءِ: 100] الآيةَ، ومِنَ النَّاس مَنْ يكون الذِّكُرُ وتلاوةُ القرآنِ سيِّدَ عمله، الغالبَ على أوقاتِه، قد جعَلَه زادَه لمعادِه ورأسَ ماله لمآله، فمتى فَتُرَ عنه أو قصَّر رأى أنَّه قد غُبِنَ وَخَسِرَ، وَمِنَ الناس مَنْ يكون سيِّد عمله الصلاة، فمتى قصَّر في وِرْدٍ منها أو مضى عليه وقتٌ وهو غيرُ مشغولٍ بها أو غيرُ مستعدٍّ لها أظلَم عليه قلبُه وضاق صدرُه، ومِنَ النَّاس مَنْ يكون طريقه الإحسانَ والنفعَ المتعدِّيَ؛ كقضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وإغاثةِ اللّهفان، وأنواع الصَّدقات، قد فُتِح له في هذا، وسلَك منه طريقَه إلى ربِّه، ومِنَ النَّاس مَنْ يكون طريقُه الصومَ، فهو متى أفطَر تغيَّر قلبُه وساءت حالُه، ومنهم مَنْ يكون طريقه الذي نفَذ منه الحجَّ والاعتمارَ.

ومنهم الجامعُ لتلك المنافِذ، السالِكُ إلى الله في كلّ وادٍ، الكادِحُ إليه من كلّ طريقٍ، فهو قد جعَل وظائفَ عبوديَّتِه قِبلةَ قلبِه، ونُصْبَ عينِه، يَؤمُّها أين كانت، ويسيرُ معَها حيث سارَت، قد ضرَب مع كلّ فريقٍ بسهم، فأينَ كانت العبوديَّة وَجَدْتَهُ، إن كان علمٌ وجدتَه مع أهله، أو صلاةٌ وجدتَه في القانتين، أو ذكرٌ وجدتَه في الذَّاكرين، أو إحسانٌ وجدتَه في زُمرةِ المحسنينَ، أو محبَّةٌ ومراقَبةٌ وإنابةٌ إلى الله وجدتَه في زمرة المحبِّين المنيبينَ، يَدِينُ بِدِينِ العبوديَّةِ أنَّى استقلَّتْ ركائبُها، ويتوجَّه إليها حيثُ استقرَّتْ مضارِبُها؛ فهذا -يا عباد الله- هو العبدُ السالكُ إلى ربّه، النافذُ إليه حقيقةً نفوذًا يتَّصل به قلبُه، ويتعلَّق به تعلُّقَ المحبوب التّامّ المحبّةِ بمحبوبِه، حتى يَسْلُوَ به عن جميع المطالبِ سِوَاهُ؛ فلا يبقى في قلبِه إلَّا محبَّةُ اللهِ ومحبَّةُ أمرِه، فكان عاقبةَ ذلك أن قرَّبه ربُّه واصطفاه، وأخَذ بقلبه إليه وتولَّاه في جميع أموره، في دِينه ومعاشه، ومَن ذاق شيئًا من ذلك، وعرَف طريقةً موصِلةً إلى الله ثمَّ ترَكَها، فحياتُه عَجزٌ وغمٌّ وحُزنٌ، وموته كدَرٌ وحَسرةٌ، ومَعادُه أَسَفٌ وندامةٌ؛ ذلك بأنَّه عرَف طريقَه إلى ربِّه ثمَّ ترَكَها، ناكِبًا عنها، مُكِبًّا على وجهه، فلو نال بعضَ حظوظه وتلذَّذ براحاته فهو مقيَّدُ القلبِ عن انطلاقه في فسيحِ التَّوحيدِ، وميادينِ الأُنسِ، ورياض المحبَّة، وموائد القرب، فمَنْ أعرَض عن الله بالكلِّيَّة يا عباد الله أعرَض اللهُ عنه بالكلّيّة، ومَنْ أعرَض اللهُ عنه لَزِمَهُ الشقاءُ والبؤسُ في أعمالِه وأحوالِه؛ فالمحروم كل المحروم إِذَنْ هو مَنْ عرَف الطريقَ إليه ثمَّ أعرَض عنها، أو وجَد بارقةً مِنْ حُبِّه ثمَّ سُلِبَها، ولم يَنفُذ إلى ربِّه منها، وصدق سبحانه إذ يقول: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى)[طه: 124-126].

نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسُنَّة نبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، أقول قولي هذا وأستغفِر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولكافَّة المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله مُعِزّ مَنْ أطاعَه، مُذِلّ مَنْ عصاه، أحمده -سبحانه-، لا ربَّ غيره ولا إلهَ سواه، وأشهد ألَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، المتفرِّد في علاه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، وخِيرتُه مِنْ خَلقه ومصطفاه، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن اقتفى أثرَه واتَّبَع هداه.

أما بعدُ، فيا عبادَ اللهِ: إن الله إذا أقبل على عبدِه السالكِ إليه استنارت حياتُه، وأشرقت ظُلُمَاتُه، وظهَر عليه آثارُ إقباله من بهجةِ الجلال ونضرة الجَمال، وتوجَّه إليه أهلُ الملأ الأعلى بالمحبَّة والموالاة؛ لأنهم تَبَعٌ لمولاهم -سبحانه-، فإذا أحبَّ عبدَه أحبُّوه، كما جاء في الحديث، الذي أخرجه الشيخان في صحيحيهما، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله -تعالى- إذا أحبَّ عبدًا دعا جبريل فقال: إني أُحبُّ فلانًا فأَحِبَّه، فيُحِبُّه جبريلُ، ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله -تعالى- يُحِبُّ فلانًا فأَحِبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السماء، ثم يُوضع له القبولُ في الأرض"، ويجعل اللهُ قلوبَ أوليائه تفِد إليه بالودِّ والمحبَّةِ والرَّحمةِ، وناهيكَ بمن يتوجَّه إليه مالكُ الْمُلك ذو الجلال والإكرام بمحبَّتِه، ويُقبِل عليه بأنواع كرامتِه، ويلحَظ إليه الملأُ الأعلى وأهلُ الأرض بالتَّبْجِيل والتَّكريم؛ وذلك فضلُ اللهِ يؤتيه مَنْ يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

فاتقوا الله -عبادَ اللهِ- واعملوا على كل ما تبلغون به محبةَ الله بإخلاص العمل لله، ومتابَعة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، واذكروا على الدوام، أن الله -تعالى- قد أمركم بالصلاة والسلام على خير الورى فقال جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنكَ حميدٌ مجيدٌ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الآل والصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وإحسانك، يا أكرم الأكرمين.

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واحمِ حوزة الدين، ودمِّر أعداء الدين، وسائر الطغاة والمفسدين، وألِّف بين قلوب المسلمين، ووحِّد صفوفهم، وأصلِح قادتهم، واجمَعْ كلمتَهم على الحق يا رب العالمين.

اللهم انصر دينك وكتابك وسُنَّةَ نبيكَ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعبادكَ المؤمنينَ المجاهدينَ الصادقين، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلِحْ أئمتَنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامَنا ووليَّ أمرنا، وهيِّئ له البطانة الصالحة، ووفِّقه لما تحب وترضى، يا سميع الدعاء، اللهم وفِّقه ووليَّ عهده إلى ما فيه خير الإسلام والمسلمين، وإلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا مَنْ إليه المرجع يوم التناد.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنتَ وليُّها ومولاها، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شر.

اللهم أحسِن عاقبتَنا في الأمور كلها، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك، وفُجاءة نقمتك، وجميع سخطك.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، اللهم اكفنا أعداءك وأعداءنا بما شئت يا رب العالمين، اللهم إنا نجعلك في نحور أعدائك وأعدائنا ونعوذ بك من شرورهم.

اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يرضيك آمالنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون والجذام، وسيئ الأسقام.

(رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23]، (رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي