وشِدَّةُ الغضبِ تسوقُ المرءَ إلى مواطنِ الزَّللِ والعطبِ؛ فيقولُ ما لا يعلمُ، ويهذي بما لا يفهمُ، ويعملُ بما يُورثُ النَّدمَ، والعاقلُ حقًّا هو الذي لا يعملُ بمقتضى الغضبِ إذا حَصَلَ له، بل يجاهدُ نفسَه على تركِه وتركِ ما يأمرُ به؛ فإنَّ الغضبَ إذا مَلَكَ ابنَ آدمَ كانَ...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الحمدُ للهِ على جزيلِ نعمهِ، وَعظيمِ فَضْلِه وجودِه وكرمِه، أَحْمدُه -سبحانَه- حمدًا يليقُ بجلالِ وجههِ وعظيمِ سُلطانِه، وَأَشْهَدُ أن لا إِلَهَ إِلّا اللهُ وحدهُ لا شَرِيكَ لَهُ، حَثَّ عبادَه عَلَى أحسنِ الأَقوالِ والأَفعَالِ، ونَهَاهُم عَنِ سيِّئها، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّداً عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، أَعظمُ النَّاسِ حلمًا وصَبْراً، صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وصحبِهِ وسلّم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعدُ: فاتّقُوا اللهَ -أَيُّهَا المؤمنونَ-؛ (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران: 102].
عبادَ اللهِ: حثَّ الإسلامُ على أعدلِ الأخلاقِ وأجملِ الصفاتِ، ونهى عن مخالفتِها، وسعى إلى تربيةِ النَّفسِ على ما يُصلحُها ولا يُفسدُها.
وإنَّ من الظواهرِ السيئةِ التي حذَّر الشَّارعُ الحكيمِ منها الغضبَ، وهو من أذمِّ الصفاتِ وأشدِّها فتكًا بالإنسانِ، ومَنْ أَفرَطَ فِيه وتمادَى معَ أسبابِ حُصولِه وقعَ في عواقبَ وخيمةٍ، ونتائجَ أليمةٍ؛ فهو مدخلٌ من مداخلِ الشيطانِ الكبرى، ومكيدةٌ من مكائدِه العظمى، وإذا تمكَّن الشيطانُ من زرعِ بذورِ الغضبِ في قلبِ الإنسانِ؛ أهاجَه وأثَارَه حتَّى يُخْرجَهُ عن شعورِه، فيهوي به الغضبُ إلى وادٍ سحيقٍ، ويُوقعُه في عظائمِ الأمورِ، من سفكِ الدماءِ، والوقوعِ في الطلاقِ والفراقِ، والظلمِ والإيذاءِ والفسادِ، وقطيعةِ الأرحامِ، والعداوةِ والخصامِ والشحناءِ والبغضاءِ.
وقد حذَّر النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- من الغضبِ أشدَّ التحذيرِ؛ فقد روى البخاريُّ عن أبي هريرةَ -رضي اللهُ عنه-: أنَّ رَجُلًا قالَ للنَّبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: أوْصِنِي، قالَ: "لا تَغْضَبْ, فَرَدَّدَ مِرارًا، قالَ: لا تَغْضَبْ"(رواه البخاري)؛ قال ابنُ حجر: "ومن تأمَّل هذه المفاسدَ في مقدارِ ما اشتملتْ عليه هذه الكلمةُ اللطيفةُ من قَولِه -صلى الله عليه وسلم-: "لَا تَغْضَبْ" من الحكمةِ، واستجلابِ المصلحةِ، ودرءِ المفسدةِ، مما يتعذَّرُ إحصاؤه والوقوفُ على نهايتِه، وهذا كلُّه في الغضبِ الدنيويِّ لا الغضبِ الدينيِّ"(فتح الباري).
وشِدَّةُ الغضبِ تسوقُ المرءَ إلى مواطنِ الزَّللِ والعطبِ؛ فيقولُ ما لا يعلمُ، ويهذي بما لا يفهمُ، ويعملُ بما يُورثُ النَّدمَ، والعاقلُ حقًّا هو الذي لا يعملُ بمقتضى الغضبِ إذا حَصَلَ له، بل يجاهدُ نفسَه على تركِه وتركِ ما يأمرُ به؛ فإنَّ الغضبَ إذا مَلَكَ ابنَ آدمَ كانَ كالآمرِ النَّاهي له، ونُهىَ أَنْ يَقضِيَ إنسَانٌ بَيْنَ اثنَيْنِ أَو يَفْصِلَ بَيْنَ مُتَنَازِعَيْنِ وهُوَ غَضْبَانٌ؛ لقوله-صلى الله عليه وسلم-: "لاَ يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ"(رواه البخاري ومسلم).
واعلموا -رَحمِكمُ اللهُ- أنَّه ليسَ كلُّ غضبٍ مذمومًا؛ بل منه المحمودُ وهو ما كانَ في الحقِّ؛ غيرةً على دينِ اللهِ أن تُنْتَهكَ محارِمُه، فهذا النَّوعُ من الغضبِ صفةُ كمالٍ, فعن عائشةَ -رضي اللهُ عنها- قالتْ: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلم- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ فَيَنْتَقِمَ لِلهِ -عَزَّ وَجَلَّ-"(رواه مسلم).
أَيُّهَا المُؤْمِنوْنَ : إِنَّ لِلغَضَبِ أَضرَارًا كثيرةً جدًّا, يجبُ الحذرُ منها، ومن ذلك:
أنَّه يوقعُ صاحبَه في الكَلامِ القبيحِ، كالسَّبِ والَّلعنِ، والغيبةِ، والذَّمِ، وقولِ السوءِ.
ومنها: أنَّه يُغيِّرُ من صفاتِ صاحبِه، فيقلبُ حالَه من الهدوءِ إلى الانفعالِ، ومن الحلمِ إلى الغضبِ، ومن طيِّبِ القولِ إلى سيئِّهِ.
ومنها: الغضبُ يُفسدُ أخلاقَ الأولادِ وتعاملَهم مع والديْهم.
ومنها: الغضبُ يُفسدُ العلاقاتِ بَيْنَ النَّاسِ، ويَقْطَعُ مَا بَيْنَهُم مِنْ روابطٍ وصِلاَتٍ.
ومنها: الغضبُ يُدمِّرُ العَلاَقَاتِ الزَّوجيةِ ويُسبِّبُ الطلاقَ والفراقَ، وتَشتَّتَ الأسرةِ والأولادِ.
ومنها: الغضبُ إذا تمكَّنَ من صاحبِه؛ أَضعفَه وأوهاهُ، وربَّما أهلَكهُ وأرداهُ، وقد ثَبَتَ طبيِّا أَنَّه يُسبِّبُ بَعْضَ الأَمرَاضِ المزمنةِ، وحَالاَتِ الاكتِئَابِ.
ومنها: الغضبُ يوقعُ صاحبَه في كثيرٍ من المهالكِ، والعديدِ منَ المآزقِ.
ومنها: الغضبُ يَحْرمُ صاحبَه حقَّه الطبيعيَّ منَ الحياةِ الطيبةِ الهادئةِ؛ فتجدُه دائمَ الانفعالِ والعصبيةِ، والهمِّ والقلقِ.
ومنها: الغاضبُ يتحاشَاهُ الناسُ، ويجتنبونَ مجالستَه ومصاحبتَه.
أعوذُ باللهِ من الشيطانِ الرجيمِ: (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)[الشورى: 37].
باركَ اللهُ لي ولكمْ في القرآنِ العظيمِ, ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذِّكرِ الحكيمِ، فاسْتَغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
فاتَّقوا اللهَ -أيُّها المؤمنون-، واعلموا أنَّ من أسبابِ دفعِ الغضبِ ما يأتي:
معرفةُ فضلِ كظمِ الغيظِ والعفوِ والحلمِ، عن سَهلِ بنِ مُعَاذٍ عَن أَبِيهِ -رضي اللهُ عنه-: أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَنْ كَظَمَ غَيْظًا، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنْفِذَهُ؛ دَعَاهُ اللهُ -تبارك وتعالى- عَلَى رُؤُوسِ الْخَلَائِقِ؛ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ الْحُورِ شَاءَ"(رواه أبو داود وحسنه الألباني).
ومنها: الاستعاذةُ باللهِ من الشَّيطانِ الرجيمِ، فعن سُلَيمَانَ بنِ صُرَدٍ -رضي اللهُ عنه- قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلانِ عِنْدَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- ونَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وأَحَدُهُما يَسُبُّ صاحِبَهُ، مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وجْهُهُ، فَقالَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لو قالَها لَذَهَبَ عنْه ما يَجِدُ، لو قالَ: أعُوذُ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ", فَقالوا لِلرَّجُلِ: ألا تَسْمَعُ ما يقولُ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-؟, قالَ: "إنِّي لَسْتُ بمَجْنُونٍ"(رواه البخاري).
ومنها: تغييرُ هيئةِ الغاضبِ من القيامِ إلى الجُلوسِ أو إلى الاضطجاعِ، فعن أَبِي ذَرٍّ -رضي اللهُ عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ قَائِمٌ فَلْيَجْلِسْ، فَإِنْ ذَهَبَ عَنْهُ الْغَضَبُ وَإِلَّا فَلْيَضْطَجِعْ"(رواه أبو داود وصححه الألباني 4782)؛ قال الخطَّابي: "القائمُ متهيئٌ للحركةِ والبطشِ, والقاعدُ دونَه في هذا المعنى, والمضطجعُ ممنوعٌ منهما, فيشْبُه أن يكونَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- إنَّما أَمَرَه بالقُعودِ؛ لئلا يبدرَ منه في حالِ قيامِه وقعودِه بادرةٌ يندمُ عليها فيمَا بعدُ"(عون المعبود شرح سنن أبي داود97).
ومنها: السكوتُ، قالَ -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْكُتْ"(رواه أحمدُ وصحَّحه الألبانيُّ)، قالهَا ثلاثًا، فهذا أيضًا دواءٌ عظيمٌ للغضبِ؛ لأنَّ الغضبانَ يَصدُرُ منهُ في حالةِ غضبهِ منَ القولِ ما يَندَمُ عليهِ في حالِ زوالِ غضبهِ, فإذا سكتَ زالَ عنهُ هذا الشرُّ كلُّهُ.
ومنها: التأسيِّ بهديْ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- في الغضبِ, فعنَ أنسٍ -رضي اللهُ عنه- قالَ: كُنْتُ أَمْشِي مع النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وعليه بُرْدٌ نَجْرانِيٌّ غَلِيظُ الحاشِيَةِ، فأدْرَكَهُ أَعْرابِيٌّ فَجَذَبَهُ جَذْبَةً شَدِيدَةً، حتّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عاتِقِ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- قدْ أَثَّرَتْ به حاشِيَةُ الرِّداءِ مِن شِدَّةِ جَذْبَتِهِ، ثُمَّ قالَ: مُرْ لي مِن مالِ اللَّهِ الذي عِنْدَكَ، "فالْتَفَتَ إلَيْهِ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ له بعَطاءٍ"(رواه البخاري ومسلم).
فاحذروا -يا عبادَ اللهِ- من شرِّ الغضبِ وأسبابِه؛ فهوَ طريقُ شقاءٍ وعذابٍ لصاحبِه في الدنيا قبلَ الآخرةِ , أعاذنَا اللهُ وإيَّاكُم منه.
هذا, وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفَى, والقدوةِ المجتبى؛ فَقَد أمَرَكُم اللهُ بذلكَ فقالَ -جلَّ وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي