ومن دقيق حب الشرف طلب الولايات لمجرد علو المنزلة على الخلق، والتعاظم عليهم، وإظهار صاحب هذا الشرف حاجة الناس وافتقارهم إليه، وذلهم في طلب حوائجهم منه، فهذا نفسه مزاحمة لربوبية الله وإلهيته، وربما تسبب بعض هؤلاء في إيقاع الناس في أمر يحتاجون فيه إليه ليضطرهم بذلك إلى رفع حاجاتهم إليه وظهور افتقارهم واحتياجهم إليه ..
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
عن كعب بن مالك الأنصاري –رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما ذئبان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه".
فهذا مثل عظيم جدًّا ضربه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لبيان فساد دين المرء مع حرصه على المال والشرف أي الرفعة في الدنيا، وأن فساد الدين بذلك ليس بأقل من فساد الغنم التي غاب عنها رعاؤها وأرسل فيها ذئبان جائعان، ومعلوم أنه لا ينجو من الغنم من إفساد الذئبين المذكورين والحالة هذه إلا قليل.
فأما الحرص على المال فهو نوعين: أحدهما: شدة محبة المال مع شدة طلبه من وجوهه مع الجهد والمشقة، ولو لم يكن في الحرص على المال إلا تضييع العمر الشريف الذي يمكن أن يشتري به صاحبه الدرجات العلى والنعيم المقيم، في طلب رزق مضمون مقسوم لا يأتي منه إلا ما قدر وقسم، ثم لا ينتفع به بل يتركه لغيره.
قيل لبعض الحكماء: "إن فلانًا جمع مالاً، قال: فهل جمع أيامًا ينفقه فيها؟! قيل: لا، قال: ما جمع شيئًا".
كان عبد الواحد بن زيد يقول: "يا إخوتاه: لا تغبطوا حريصًا على ثروته وسعته في مكسب ولا مال، وانظروا له بعين المقت له في اشتغاله اليوم بما يرديه غدًا في المعاد ثم يتكبر".
وكان يقول: "الحرص حرصان: حرص فاجع وحرص نافع، فأما النافع فحرص المرء على طاعة الله، وأما الحرص الفاجع فحرص المرء على الدنيا، وهو مشغول معذب لا يسر ولا يلذ بجمعه لشغله، فلا يفرغ من محبة الدنيا لآخرته".
قال بعضهم:
لا تغبطن أخا حرص على طمع *** وانظـر إليه بعين الماقت القالي
إن الـحريص لمشغـول بثروته *** عن السرور لما يحوي من المال
قال آخر:
يا جامعًا مانعًا والـدهر يرمقه *** مفكرًا أي باب منه يغلقه
جمعت مالاً ففكر هل جمعت له *** يا جامع المال أيامًا لتنفقه
المال عندك مـخزون لوارثه *** ما المال مالك إلا يوم تنفقه
إن القناعة من يحلل بساحتها *** لم يأل في طلب مما يؤرقه
كتب بعض الحكماء إلى أخ له كان حريصًا على الدنيا: "أما بعد: فإنك قد أصبحت حريصًا على الدنيا تخدمها، وهي تخرجك عن نفسها بالأعراض والأمراض والآفات والعلل، كأنك لم تر حريصًا محرومًا، أو زاهدًا مرزوقًا، ولا ميتًا عن كثير، ولا متبلغًا من الدنيا باليسير".
عاتب أعرابي أخًا له على الحرص فقال له: "يا أخي: أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته، وتطلب من قد كفيته".
وأنشد بعضهم:
حتى متى أنت في حل وترحال *** وطـول سمـع وإدبـار وإقــبال
ونازح الـدار لا ينفك مـغتربًا *** عـن الأحبـة لا يـدرون بالحال
بمشرق الأرض طورًا ثم مغربها *** لا يخطر الموت من حرص على بال
ولو قنعت أتاني الرزق في دعة *** إن الـقنوع الـغنى لا كـثرة المال
النوع الثاني من الحرص على المال أن يزيد على ما سبق ذكره في النوع الأول حتى يطلب المال من الوجوه المحرمة ويمنع الحقوق الواجبة، فهذا من الشح المذموم؛ قال الله تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9].
وفي سنن أبي داود عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالفجور ففجروا".
وفي صحيح مسلم عن جابر –رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "اتقوا الشح؛ فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
أما الحرص على الشرف فهو أشد إهلاكًا من الحرص على المال، فإن طلب شرف الدنيا والرفعة فيها والرياسة على الناس والعلو في الأرض، أضر على العبد من طلب المال، وضرره أعظم والزهد فيه أصعب، فإن المال يبذل في طلب الرياسة والشرف.
والحرص على الشرف نوعان:
أحدهما: طلب الشرف بالولاية والسلطان والمال، وهذا خطر جدًّا، وهو في الغالب يمنع خير الآخرة وشرفها وكرامتها وعزها، قال تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا للَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص:82].
وقلّ من يحرص على رياسة الدنيا بطلب الولايات فيوفق، بل يوكل إلى نفسه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لعبد الرحمن بن سمرة: "يا عبد الرحمن: لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها من مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها".
قال بعض السلف: "ما حرص أحد على ولاية فعدل فيها".
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعمت المرضعة وبئست الفاطمة".
وفيه أيضًا عن أبي موسى الأشعري –رضي الله عنه- أن رجلين قالا للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله: أمِّرنا، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنا لا نؤتي أمرنا هذا من سأله، ولا من حرص عليه".
ومن دقيق حب الشرف طلب الولايات لمجرد علو المنزلة على الخلق، والتعاظم عليهم، وإظهار صاحب هذا الشرف حاجة الناس وافتقارهم إليه، وذلهم في طلب حوائجهم منه، فهذا نفسه مزاحمة لربوبية الله وإلهيته، وربما تسبب بعض هؤلاء في إيقاع الناس في أمر يحتاجون فيه إليه ليضطرهم بذلك إلى رفع حاجاتهم إليه وظهور افتقارهم واحتياجهم إليه، ويتعاظم بذلك ويتكبر به، وهذا لا يصلح إلا لله وحده لا شريك له كما قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام:42].
وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وّالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) [الأعراف:94].
فهذه الأمور أصعب وأخطر من مجرد الظلم، وأدهى وأمرّ من الشرك، والشرك أعظم الظلم عند الله.
ومن دقيق الحرص على الشرف كذلك أن يحب ذو الشرف والولاية أن يحمد على أفعاله، ويثنى عليه بها ويطلب من الناس ذلك، ويتسبب في أذى من لا يجيبه إليه، وربما كان ذلك الفعل إلى الذم أقرب منه إلى المدح، وهذا يدخل في قوله: (لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ) [آل عمران:188].
ومن هنا كان أئمة الهدى ينهون عن حمدهم على أفعالهم، وما يصدر منهم من الإحسان إلى الخلق، ويأمرون بإضافة الحمد على ذلك لله وحده لا شريك له، فإن النعم كلها منه.
وكان عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- شديد العناية بذلك، وكتب مرة إلى أهل الموسم كتابًا يقرأ عليهم وفيه أمر بالإحسان إليهم وإزالة المظالم التي كانت عليهم، وفي الكتاب: "ولا تحمدوا على ذلك إلا الله؛ فإنه لو وكلني إلى نفسي كنت كغيري".
وحكايته مع المرأة التي طلبت منها أن يفرض لبناتها اليتامى مشهورة، فإنها كانت لها أربع بنات ففرض لاثنتين منهن وهي تحمد الله، ثم فرض للثالثة فشكرته، فقال: "إنما كنا نفرض لهن حيث كنت تولين الحمد أهله، فمري هذه الثلاث يواسين الرابعة".
والنوع الثاني من الحرص على الشرف، طلب الشرف على الناس بالأمور الدينية:
وهذا أفحش من الأول وأقبح وأشد إفسادًا وخطرًا، فإن العلم والعمل والزهد إنما يطلب به ما عند الله من الدرجات العلى والنعيم المقيم.
قال الثوري: "إنما فضل العلم لأنه يتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء". وقد روى أحمد وأبو داود وابن ماجه عنه قال: "من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرض الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة".
يعني ريحها، وسبب هذا -والله أعلم- أن في الدنيا جنة معجلة، وهي معرفة الله ومحبته والأنس به والشوق إليه وخشيته وطاعته، والعلم النافع يدل على ذلك، فمن دله علمه على دخول هذه الجنة المعجلة في الدنيا دخل الجنة في الآخرة، ومن لم يشم رائحتها لم يشم رائحة الجنة في الآخرة.
ولهذا كان أشد الناس حسرة يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه، حيث كان معه آلة يتوصل بها إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات فلم يستعملها إلا في التوصل إلى أخس الأمور وأدناها وأحقرها، فهو كمن كان معه جواهر نفيسة لها قيمة فباعها ببعرة أو شيء مستقذر لا ينتفع به، فهذا حال من طلب الدنيا بعلمه.
ومِنْ طلب الشرف بالدين أن يطلب العبد بالعلم والعمل والزهد الرياسة على الخلق والتعالي عليهم.
عن ابن مسعود قال: "لا تعلموا العلم لثلاث: لتماروا به السفهاء، أو لتجادلوا به الفقهاء، أو لتصرفوا به وجوه الناس إليكم، وابتغوا بقولكم وفعلكم ما عند الله؛ فإنه يبقى، ويفنى ما سواه".
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أول الخلق تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة"، منهم العالم الذي قرأ القرآن ليقال: قارئ، وتعلم العلم ليقال: عالم، وأنه يقال له: قد قيل ذلك، وأمر به فسحب على وجه حتى ألقي في النار.
ومن طلب الشرف بالدين الجرأة على الفتيا، والحرص عليها، والمسارعة إليها، والإكثار منها.
قال علقمة: "كانوا يقولون: أجرؤكم على الفتيا أقلكم علمًا".
وعن البراء قال: "أدركت عشرين ومائة من الأنصار، من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يسأل أحدهم عن المسألة، ما منهم من رجل إلا ود أن أخاه كفاه. وفي رواية "فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول".
وقال ابن مسعود: "أعلم الناس بالفتاوى أسكتهم، وأجهلهم بها أنطقهم"، وقال بعضهم: "إنما العالم الذي إذا أفتى فكأنما يقلع ضرسه".
وقال بعضهم: "العلم ثلاثة: حلال، وحرام، ولا أدري".
وقال الإمام أحمد: "ليعلم المفتي أنه يوقع عن الله أمره ونهيه، وأنه موقوف ومسؤول عن ذلك".
وكان ابن سيرين إذا سئل عن الشيء من الحلال والحرام تغير لونه وتبدل حتى كأنه ليس بالذي كان.
وكان النخعي يُسأل فتظهر عليه الكراهة ثم يقول: "ما وجدت أحدًا تسأله غيري؟!". وقال: "لقد تكلمت، ولو وجدت بدًّا ما تكلمت، وإن زمانًا أكون فيه فقيه أهل الكوفة لزمان سوء".
وقال بعض العلماء لبعض المفتين: "إذا سألت عن مسألة فلا يكن همّك تخليص السائل، ولكن تخليص نفسك أولاً".
وقال الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا الّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات:1]، وقال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِن الذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) [النحل:116].
ومن طلب الشرف بالدين كذلك الدخول على الملوك والدنو منهم، وهو الباب الذي يدخل منه علماء الدنيا إلى نيل الشرف والرياسات فيها.
خرّج الإمام أحمد وأبو داود نحوه من حديث أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وفي حديثه: "وما ازداد أحد من السلطان دنوًّا إلا ازداد من الله بعدًا".
ومن أعظم ما يخشى على من يدخل على الملوك الظلمة، أن يصدقهم بكذبهم، ويعينهم على ظلمهم، ولو بالسكوت عن الإنكار عليهم.
وقد خرج الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث كعب بن عجرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سيكون بعدي أمراء، فمن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، وليس بوارد عليّ الحوض، ومن لم يدخل عليهم ولم يعنهم على ظلمهم ولم يصدقهم بكذبهم، فهو مني وأنا منه وهو وارد علي الحوض".
ومن طلب الشرف بالدين محبة الشهرة والسعي إليها، كان السلف -رضي الله عنهم- يكرهون الشهرة أشد الكراهة، منهم أيوب والنخعي وسفيان وأحمد وغيرهم من العلماء الربانيين، وكذلك الفضيل وداود الطائي وغيرهم من الزهاد والعارفين، وكانوا يذمون أنفسهم غاية الذم، ويسترون أعمالهم غاية الستر.
كان محمد بن واسع يقول: "لو أن للذنوب رائحة، ما استطاع أحد أن يجالسني".
وكان إبراهيم النخعي إذا دخل عليه أحد وهو يقرأ في المصحف غطاه.
وكان أويس وغيره من الزهاد إذا عُرفوا في مكان ارتحلوا عنه.
وقد تبيّن بما ذكرناه أن حب المال والرياسة والحرص عليهما يفسد دين المرء حتى لا يبقى منه شيء.
واعلم أن النفس تحب الرفعة والعلو على أبناء جنسها، ولكن العاقل ينافس في العلو الدائم الباقي الذي فيه رضوان الله وقربه وجواره، ويرغب عن العلو الفاني الزائل الذي يعقبه غضب الله وسخطه وانحطاط العبد وسفوله، قال الله تعالى: (فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [النازعات:37].
قال الحسن: "إذا رأيت الرجل ينافسك في الدنيا فنافسه في الآخرة".
وقال وهيب بن الورد: "إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل".
ففي درجات الآخرة الباقية يشرع التنافس وطلب العلو في منازلها، والحرص على ذلك والسعي في أسـبابه، وأن لا يقنع الإنسان منها بالدون مع قدرته على العلو؛ قال الله -عز وجل-: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين:26].
وأما العلو الفاني المنقطع الذي يعقب صاحبه غدًا حسرة وندامة وذلةً وهوانًا وصغارًا، فهو الذي يشرع الزهد فيه والإعراض عنه، وللزهد فيه أسباب عديدة:
فمنها: نظر العبد إلى سوء عاقبة الشرف في الدنيا بالولاية والإمارة لمن لا يؤدي حقها في الآخرة، فينظر العبد إلى عقوبة الظالمين والمكذبين ومن نازع الله رداء الكبرياء.
وفي السنن عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل مكان، فيساقون إلى سجن في جهنم يقال له: بُوْلس، تعلوهم نار الأنيار، يسقون من عصارة أهل النار طينة الخبال".
استأذن رجل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في القصص على الناس فقال: إني أخاف أن تقص عليهم فتترفع عليهم في نفسك حتى يضعك الله تحت أرجلهم يوم القيامة.
ومنها: نظر العبد إلى ثواب المتواضعين لله في الدنيا بالرفعة في الآخرة، فإنه من تواضع لله رفعه.
ومنها: وليس هو في قدرة العبد ولكنه من فضل الله ورحمته، ما يعوض الله عباده العارفين به الزاهدين فيما يفنى من المال والشرف مما يجعله الله لهم في الدنيا من شرف التقوى، وهيبة الخلق لهم في الظاهر، ومن حلاوة المعرفة والإيمان والطاعة في الباطن، وهي الحياة الطيبة التي وعدها الله لمن عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن، وهذه الحياة الطيبة لم يذقها الملوك في الدنيا ولا أهل الرياسات والحرص على الشرف كما قال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله-: "لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف".
ومن رزقه الله ذلك اشتغل به عن طلب الشرف الزائل والرياسة الفانية قال الله تعالى: (وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف: 25]، وقال: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) [فاطر:10].
والله -عز وجل- هو العزيز، ومن أراد العزة فليطع العزيز.
كان حجاج بن أرطأة يقول: "قتلني حب الشرف"، فقال له سواء: "لو اتقيت الله شرفت". وفي ذلك قيل:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم *** وحـبك للدنيا هو الـذل والسـقم
ولـيس على عبد تقي نقيصة *** إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
قال بعضهم: "من أشرف وأعز ممن انقطع إلى من ملك الأشياء بيده".
كان الحسن لا يستطيع أحد أن يسأله هيبة له، وكذلك كان مالك بن أنس يهاب أن يُسأل حتى قال فيه القائل:
يَدَعُ الجواب ولا يراجع هيبة *** والسائلـون نواكس الأذقان
نور الوقار وعز سلطان التقى *** فهو المهيب وليس ذا سلطان
قال محمد بن واسع: "إذا أقبل العبد بقلبه على الله، أقبل الله عليه بقلوب المؤمنين".
وكتب وهب بن منبه إلى مكحول: "أما بعد: فإنك أصبت بظاهر علمك عند الناس شرفًا ومنزلة، فاطلب بباطن علمك عند الله منزلة وزلفى، واعلم أن إحدى المنزلتين تمنع من الأخرى". ومعنى هذا أن العلم الظاهر من تعلم الشرائع والأحكام والفتاوى والقصص والوعظ ونحو ذلك مما يظهر للناس، يحصل به لصاحبه عندهم منزلة وشرف، والعلم الباطن المودع في القلوب من معرفة الله وخشيته ومحبته ومراقبته والأنس به والشوق إلى لقائه والتوكل عليه والرضا بقضائه، والإعراض عن عرض الدنيا الفاني والإقبال على جوهر الآخرة الباقي، كل هذا يوجب لصاحبه عند الله منزلة وزلفى، وبكل حال فطلب شرف الآخرة يحصل معه شرف في الدنيا وإن لم يرده صاحبه ولم يطلبه.
قال الله -عز وجل-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدّاً) [مريم:56]. أي مودة في قلوب عباده.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين، اللهم أعزنا بالإسلام وأعز الإسلام بنا، اللهم إنا نسألك الجنة ما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي