غض البصر

محمد بن عبدالرحمن العريفي

عناصر الخطبة

  1. قصص عجيبة من سوء الخاتمة
  2. خطورة إطلاق البصر
  3. تحريم إطلاق البصر في الحرام
  4. حرص السلف على حفظ أبصارهم وصيانة قلوبهم عن النظر الحرام
  5. ذم خائنة الأعين
  6. حكم نظر الأجانبِ من الرجال والنساء بعضهم إلى بعضٍ
  7. حث الإسلام على حفظ الأبصارِ ومنعِ الاختلاطِ المحرّم
  8. عواقب النظر الحرام
  9. أسبابُ إطلاق البصر
  10. وسائل علاج فتنة النظرِ.

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أحاط بكل شيءٍ خُبراً وجعل لكل شيء قَدراً، وأسبل على الخلائق من حفظه ستراً، أحمدُه سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله إلى الناس كافة عذراً ونذراً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، أخلدَ الله لهم ذكراً وأعظم لهم أجراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الإخوة الكرام: هل سمعتم بخبر ذلك الشاب الذي قيل له عند موته: قل لا إله إلا الله فصاح بأعلى صوته قائلاً:

أسلمُ يا راحةَ العليلِ *** ويا شفاءَ المُدنِفِ النَحيلِ

حُبكَ أشهى إلى فُؤادي ***من رحمةِ الخالقِ الجليلِ

ثم لا يزال يردِّد هذه الأبيات حتى مات!!

أم هل سمعتم بخبر الآخر الذي قيل له عند موته: قل لا إله إلا الله فجعل يردد قائلاً:

يا رُبَّ قائلةٍ يوماً وقد تَعِبت *** كيفَ الطريقُ إلى حمامِ مِنجابي

وماتَ وهو يُرددّ ذلك عياذاً بالله.. وحيلَ بينه وبين لا إله إلا الله..

فما هو السبب الذي أهوى بهم في الهاوية؟ إنه إطلاقُ البصر الذي حذَّر الله –تعالى- منه، وحذَّر النبي -صلى الله عليه وسلم- من أليمَ ضرَره، فكم فسدَ بإطلاق البصر من عابد!

وكم ضلّ من ناسكٍ وزاهد، وكم فسدَ بعدَ صلاحٍ شبابٌ وفتياتٌ كانوا حمائِمَ في المساجد، وفوارسَ في حلقاتِ تحفيظِ القرآن!

إنه إطلاقُ البصر الذي حذَّر الله منه فقال -سبحانه وتعالى-: ﴿قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ﴾ [النور: 30]؛ وقال سبحانه: ﴿وقُلْ للمُؤمِناتِ يَغْضُضْنَ مِن أبصَارِهِنَّ ويحفظْنَ فُروجَهنَّ﴾ [النور: 31]، قال ابن القيم -رحمه الله-: “أمرَ الله بِغَضِّ البصرِ، ثم أمرَ بحِفظِ الفَرج؛ بياناً بأنَّ مَن أطلقَ بصرهُ جَرَّهُ ذلك إلى إطلاقِ فرجه“.

أيها المؤمنون: أمَّا خبرُ ذلك الشابّ فقد ذكرَ ابنُ القيم في كتابه الداءُ والدواءُ أنَّ شاباً كان يُطلِقُ بصره في الحرام فوقعَ بصرُه يوماً على غلامٍ جميلٍ اسمه أسلم، فتعلَّق بهِ قلبُه، فلما أكثرَ مجالَستَه والأُنْسَ به تاقتْ نفسُه لما فوقَ ذلك من الحرام.

فتَمنّعَ عليه الغُلام وفارقَه وتركَ مجالسته فمرِض العاشِقُ واشتدّ شَوقُه وهامَ فُؤاده ولعِب العِشق بقلبه وعقله.. حتى صارَ طريحَ الفِراشِ لا يكادُ يَهنأُ بنومٍ ولا طعامٍ أو شرابٍ فلما رأى بعضُ أصحابهِ ذلك وأنَّه أوشكَ على الهلاكِ..

مَضَوا إلى ذلك الغلامِ وتكلَّموا معَه حتى رَضِيَ أن يزورَ العاشِقَ زيارةَ المرضى، فقيلَ للعاشق قد عطفَ أسلمُ عليك وهو في الطريق إليك.. فهشَّ وبشَّ وفرح وطلبَ طعاماً وشراباً وجعل يأكل ويشرب وهو فرحٌ مسرور.

فلما كاد ذلك الغلام أن يصل إلى بابِ العاشقِ قال: أعوذُ بالله كيف أضعُ نفسي موضعَ ريبةٍ وفتنةٍ، ثم وَلَّى البابَ ظهرَه ومضى.

والعاشقُ ينتظرُ رؤيتَه.. فلمّا أبطأ عليه.. دخل عليه أصحابه وقالوا له: قد وصل أسلم للباب ثم تولى ورجع فصاح العاشق بأعلى صوته وقال: أسلم فلم يرد عليه.

قال: يا أسلم فلم يرد عليه، فصرخ بأعلى صوته قائلاً:

يا أسلمُ يا راحةَ العليلِ **** ويا شفاء المدنفِ النحيل

حبك أشهى إلى فؤادي **** من رحمةِ الخالق الجليل

ثم مات عياذاً بالله على ذلك.

وذكر ابنُ القيم أيضاً: أن رجلاً كان واقفاً يوماً على بابِ دارهِ فمرَّت امرأةٌ ذاتَ جمالٍ وهَيئَةٍ وقالت له: كيف الطريق إلى حمامِ مِنجاب – والحمامات في عصرهم هي بيوتٌ يوفّر فيها الماءُ وغيره يأتي إليه النساء فيغتسِلْن، وربما جاء الرجال في أيام منفصلات، فأعجبته هيئتُها وفُتن بمَنظَرها فأشار لها إلى باب دارهِ قال: هذا حمام منجاب.

فدخلت المرأةُ إلى الدار وقد ظنت أنه الحمام، فدخل الرجلُ وأقفلَ البابَ وراودَها على نفسِها، فعلمت المرأةُ أنها لا تنجو منه إلا بحيلةٍ فاحتالت عليه فقالت: ينبغي أن يكون بيننا طعامٌ وشرابٌ، قال: نعم أحضرُ ذلك الآن، فخرج من الدار مسرعاً إلى السوق ونسيَ أن يُقفل البابَ بالمفتاح، فخرجت المرأةُ إلى بيتها هاربة.

فلما رجع الرجل لم يجد المرأة فأصبح يهيمُ في الشوارع وقد تاقت نفسه إليها وعشِقها قلبُه وشُغِلَ بها فؤاده حتى جعل يلتمسها وينظر إليها ويطلق بصره في كل امرأة رجاء أن يصيبها فكان يمشي في الشوارع ويردِّد قائلاً بأعلى صوته:

يا رُبَّ سائلةٍ يوماً وقد تعبت *** كيف الطريقُ الى حمامِ منجابي

فأطلّت عليه امرأة يوماً من نافذةِ دارها فسمعته يقول:

يا ربَّ سائلة يوماً وقد تعبت **** كيف الطريق الى حمام منجابي

فقالت:

هلاّ جعلتَ سريعاً إذ ظفِرتَ بها **** حِرزاً على الدارِ أو قُفلاً على الباب

فلما سمع هذا الصوت تاقت نفسه إليها وشَهِق وسقط على الأرض ميتاً.

أيها الأحبة الكرام:

إنَّ إطلاق البصر في الحرام سهمٌ من سهام إبليس، فمن أطلق بصره في الحرام جرّه ذلك إلى أنواع الفواحش؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: “العينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجل زناها الخُطا…” (متفق عليه واللفظ لمسلم).

وجعل -عليه الصلاةُ والسلام- يعدِّد زنا الجوارحِ ثم قال -عليه الصلاةُ والسلام-: “والفرجُ يُصدِّقُ ذلك أو يُكذِّبُه“.

أيها المسلمون: النظرةُ تولِّدُ خَطْرةً والخطرةُ تولد فِكرةً والفِكرةُ تولِّد شهوةً والشهوةُ تولد همّاً، والهمُّ يولّد إرادةً ثم تشتدّ الإرادةُ فتصيرُ عزيمةً جارفة.

فيقعُ الفِعلُ ولابدّ مالم يمنع من ذلك مانع.

فالصبر على غضِّ البصر أيسرُ من الصبر على ألم ما بعدَه.

كلُّ الحَوادِثِ مَبدَأُها من النظَرِ ***ومُعظمُ النارِ من مُستَصغرِ الشررِ

كم نظرةٍ فتكَت في قلبِ صاحبِها *** فَتكَ السِّهامِ بلا قوسٍ ولا وتر

والعبدُ مادامَ ذا عينٍ يقلِّبُها *** في أعيُنِ الغيدِ موقوفٌ على الخطرِ

يسُرُّ مُقلَته ما ضرَّ مهجتَه *** لا مرحباً بسرورٍ عادَ بالضررِ

جعل الله –تعالى- في الرجالِ شهوةً تجاه النساء، وهي تعلو شهوةَ النساء في النظر إلى الرجال لذا أمر الله النساء بالحجابِ وأمرهُنَّ بسترِ الزينةِ ولم يأمر الرجال بذلك؛ لأن الداعي في قلبِ الرجل بنظرهِ للمرأةِ أقوى من الداعي في قلب المرأةِ بنظرها للرجل، وعندما ينظر الرجل إلى أيّ امرأة سواء كانت مسلمةً أو كافرةً أو صالحةً أو فاجرةً فإنّ الشيطانَ يثيرُ في قلبهِ ويوسوسُ والحلُّ هو غضُّ البصر، ففي الصحيحين قال -صلى الله عليه وسلم-: “ما تركتُ بعدي فتنةً أضرُّ على الرجالِ من النساء“.

ولا يعني أن النساء شرارُ الخلق، كلا، فمنهنَّ تقياتٌ صالحاتٌ لكن الشرَّ هنا فيمن يطلقُ بصرَه فيهنّ.

وروى مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: “فاتقوا الدنيا واتقوا النساء“، يعني دعوا الانشغال بالدنيا والغفلة عن آخرتِكم، “واتقوا النساء“، يعني اتقوا الخَلوةَ بهنّ والاختلاطَ والفتنةَ، فإنَّ أولَ فتنةَ بني إسرائيلَ كانت في النساء.. نعم.. بنو إسرائيل لما افتتنوا بالنظر للنساء جرَّهم ذلك إلى تتبعهنَّ وجرّ نساءهم إلى إظهار الزينة و التغنُّجِ؛ فوقعت الفواحشُ وأنواعُ الآفاتِ فافتتنوا بذلك.

وفي حديث جرير بن عبدالله -رضي الله تعالى عنه- قال: “سألتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفُجاءةِ؟ يعني النظرةَ الأولى من الرجل للمرأة من غير قصد، ولا يعني أن لكلِّ إنسانٍ نظرةً ينظُرها إلى المرأةِ فيُطيلُ النظرَ ويقول: النظرةُ الأولى لي.. كلا.. بل نظرةُ الفَجأةِ مثل لو دخل إلى أيِّ مكانٍ فنظرَ إلى امرأةٍ بزينتها فجأةً فهل هو مؤاخذٌ على هذه النظرةِ أم لا؟ قال جرير: “سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفُجاءةِ؛ فأمرني أن أصرفَ بصري” (رواه مسلم).

وروى الترمذي أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: “يا عليُّ لا تُتبعِ النظرةَ النظرةَ؛ فإنَّ لك الأولى وليست لك الآخرة“.

يعني النظرة الأولى الواقعة دون قصدٍ أنت غيرُ مؤاخذٍ عليها لأنك لم تتعمد، لكنَّ النظرة التي بعدها أنت مؤاخذٌ عليها فحذَّره أن يُتبع النظرة النظرة، وذلك بتكرار النظر، يدفعُ الشيطانُ المرءَ لأن يتخيّلَ شكل المرأة ومفاتِنَها ويوقعُ بقلبه الخطرات والوساوس ويؤجِّجُ الشهوةَ فاقطع الطريق على الشيطان من أولّه واصرف بصرك.

وفي الصحيحين قال -عليه الصلاة والسلام-: “العينان تزنيان“؛ إذن الزنى ليس خاصاً بالفرج بل العينان تزنيان، عجباً! تزنيان؟ نعم، تزنيان، العينان تزنيان وزناهما النظر.

كان السلف -رحمهم الله تعالى- لهم شأن عظيم في حفظ أبصارهم وصيانة قلوبهم عن النظر الحرام.

الربيعُ بن كثيرٍ كان شاباً وسيماً فمرت به نساءٌ فأغمضَ عينيه وجعل يعبثُ بأصبُعهِ يشغلُ نفسه عنهن فلمّا نظرنَ إليهِ ظننّ أنه أعمى، جعلت كل واحدةٍ تقول: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكَ به، نعوذُ بالله من العمى، نعوذ بالله من العمى، حتى جاوزنه.

وكان يذهب إلى صديقٍ له فيطرق عليه الباب فإذا خرجت الجاريةُ أنزل بصرَه للأرضِ وأغمضَ عينَه وقال: ادعي سيِّدَكِ. فتدخلُ الجاريةُ إلى سيّدها وتقول: صاحبٌ لك بالباب يريدك. فيقول: من هو؟ فتقول: لا أدري، لكنه أعمى.

وحسانُ بن سلام خرج في يوم عيدٍ ليصلي العيد، فلما رجع لبيته قالت امرأتُه كم من امرأة جميلةٍ نظرت إليها اليوم يا حسان؟ فقال: والله ما جاوزَ بصري موضعَ قدمي حتى رجعتُ إليكِ.

نعم.. فهم لما حفظوا أبصارهم.. صانوا قلوبهم.. لذلك كانوا إذا صلوا خشعوا، وإذا قرأوا القرآن بكوا، وإذا ذُكّروا تذكروا، وإذا وُعظوا زاد إيمانُهم؛ ذلك لأنهم لم يفسدوا رِقّة قلوبهم بإطلاق البصر..

يامن يَرى سَقَمي يزيدُ *** وعِلّتي أعيَت طبيبي

لا تعجبنّ فهكذا تجني *** العيونُ على القلوبِ

سُئِلَ ابن عباسٍ -رضي الله عنهما- عن قوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]، فقال: هو الرجلُ يكونُ في القومِ فتمُرُّ بهم المرأةَ فيُريهم أنَّه يغُضُّ بصرَه عنها فإذا انشغلوا عنهُ رفعَ بصرَه فنظرَ إليها، وقد اطلع الله –تعالى- من قلبه أنه وَدَّ لو ينظرُ إليها.

أيها المسلمون: كما لو جلسَ رجلٌ بينَ أصحابهِ أمامَ تلفازٍ فظهرت امرأةٌ فأظهرَ لهم أنَّه غاضٌّ بصرَه عنها.. وهوَ يلحظُها ببصره إذا غفلوا عنه.. أو ربّما كانت صورةً في جريدةٍ أو نحوها، واللهُ “يعلمُ خائنةَ الأعينِ وما تخفي الصدور“.

فاللحظاتُ تكونُ كالحسراتِ أوَّلها أسَفٌ وآخِرُها تَلَفٌ، فمن طاوعَ طرْفَهُ تابعَ حَتْفه.

قال الحافظ أبو بكر العامري: إنَّ الذي أجمعت عليه الأمةُ واتفق على تحريمه علماءُ السلف

والخلف من الفقهاءِ وعلماءِ الأمةِ هو أنَّ نظرَ الأجانبِ من الرجال والنساء بعضهم إلى بعضٍ حرام”.

معاشرَ المؤمنين: مجرَّدُ النظرِ للمرأةِ والخَلوةِ بها سواءٌ في عملٍ وظيفي أو غيره حرامٌ، سواءٌ جرّ ذلك إلى فاحشةٍ أو لم يجرّ.. والله –تعالى- لما وجّه الصحابةَ كيف يتكلمون مع الصحابياتِ قال: ﴿وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ﴾ [الأحزاب: 53]؛ فالآية تأمرُ أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلياً وغيرَهم من الصحابةِ الثقاتِ الأخيارِ أن إذا أراد أحدهم أن يتحدث مع صحابيةٍ؛ مع عائشةَ وحفصةَ وأسماءَ فيُكلمها من وراءِ حجاب. لماذا؟ ذلكم أطهرُ لقلوبكم وقلوبهن”.

ومن حرصهِ -صلى الله عليه وسلم- على حفظ الأبصارِ ومنعِ الاختلاطِ المحرّم، فقد روى البخاري أنه -صلى الله عليه وسلم- كان إذا انتهى من الصلاة بالناس.. قال للرجال: “احتبسوا يعني اجلسوا لا تستعجلوا بالخروج حتى تخرجَ النساء”، وذلك ليس فقط لئلا يتزاحموا عند الباب، كلا.. لأنه في حديث آخر قال -صلى الله عليه وسلم-: “لو تركنا هذا الباب للنساء“؛ فالنساء لهنّ باب مخصَّص لكنه يريد إذا خرجت النساء وانتشرن في الطريق ألّا يراهن الرجال.

ومن ذلك أنّه -صلى الله عليه وسلم-: أمرَ النّساءَ إذا صلَينَ مع الرجال ألّا يرفعنَ رؤوسهنَّ من السجودِ أو الركوعِ قبل الرجال؛ وذلك أنه قد تحرِّكُ الريحُ إزار أحدهم فيظهرُ منه شيء.

وكذلك نهى النبي -صلى الله عله وسلم- المرأةَ إذا خرجت إلى المسجد أن تتطيبَ أو تصيبَ بخوراً”.

فما بالك بغير المسجد كالمستشفى والسوق لأنَّ الطيبَ ذريعةٌ لأن يشمها الرجالُ وتجذب أبصارهم إليها.

وقال -صلى الله عليه وسلم-: “إن المرأة إذا استعطرت، فمرّت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية” (رواه أبو داود).

وأمر -عليه الصلاة والسلام- النساء ألّا يكونَ لهنَّ وسطُ الطريق” يعني: أنها إذا مشت فتكون في جانبِ الطريق؛ حتى لا تصادِمَ الرجال.

بل نهى النبي -عليه الصلاةُ والسلام- المرأةَ أن تُفْضيَ إلى المرأةِ وتنظرَ لحسنِها وجمالها ثم تحدِّثُ زوجَها، فهذا حرامٌ حتى لا تتوقَ نفسُه إلى أن ينظرَ إلى تلكَ المرأةِ بعدَما صوَّرها في مخيِّلَته.

وفي الصحيحين أنه -صلى الله عليه وسلم-: “نهى عن الجلوسِ في الطرُقات“، وذلك أن الناس لضيقِ بُيوتهم ربّما اجتمعَ ضُيوفُ الرجلِ عندَ بابهِ وجلسوا معه.. قالوا: يا رسول الله هيَ مجالسُنا ما لنا منها بُدٌّ نتحدثُ فيها، أي: لا يوجدُ مكانٌ آخر نجتمعُ فيه.

قال عليه الصلاةُ والسلام: “إنْ أبَيتُم إلّا ذلك يعني اضطررتُم إلى ذلك فأعطوا الطريقَ حقَّهُ“، قالوا: وما حقُّ الطريق؟ قال: غضُّ البصرِ وكفُّ الأذى وردُّ السلام”.

والله -جلَّ وعلا- العليمُ بالضمائرِ والسرائرِ والذي يعلم ما يجذب الرجلَ للمرأةِ، وما يجذب المرأةَ للرجل.. قال في كتابه: ﴿وقُلْ للمُؤمِناتِ يَغضُضنَ من أبصارِهنَّ ويحفظنَ فُروجَهنَّ ولا يُبدينَ زينتَهنَّ﴾ [النور: 31]، ثم قال في آخر الآية: ﴿وَلَا يَضْرِبْنَ بأرجُلِهنَّ ليُعلَمَ ما يُخْفِينَ مِن زِينتِهنَّ﴾ [النور: 32]، بمعنى: أنَّ المرأةَ إذا كانت لابسةً خلاخِلَ في قدميها والخلاخلُ حليٌّ مثلَ الأساورِ تُلبس في الرِجل، وربما كان فيها قطعُ حديدٍ أو ذهبٍ يكون لها صوتٌ مع المشي.

فأمرَ الله –تعالى- المرأةَ إذا مرَّت أمامَ رجالٍ، وقد لبِست خلاخلَ في قدميها ألّا تضربَ برجلِها بقوةٍ خشيةَ أن يسمع الرجالُ صوت الخلاخل فيلتفتون إليها.

فإذا كان إسماعُ الرجلِ صوتَ خلاخلِ المرأةِ حراماً، فما بالُك بمن ينظرُ إليها أو يتبعُها بصرَه أو يحادثُها الساعاتِ الطوال بأنواع الكلام المعسول.

نسأل الله –تعالى- أن يحفظنا من أنواع الفتن ما ظهر منها وما بطن.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله على إحسانِه والشكرُ له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلّا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه الداعي إلى رضوانه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وخِلاّنه ومن سار على نهجه واقتفى أثرَه واستنَّ بسنته إلى يوم الدين.

أما بعد: أيها الأحبةُ الكرام: إنَّ النظرَ الحرامَ يورثُ الحسرات والزفرات؛ فيرى العبدُ ما ليس قادراً عليه ولا صابراً عنه وهذا من أعظم البلاء.

يا رامياً بِسهامِ اللحْظِ مجتَهداً *** أنتَ القتيلُ بما ترمي فلا تُصَبِ

وباعثُ الطرفِ يرتادُ الشفاءَ لَهُ *** احبِس رسولَك لا يأتيكَ بالعَطَبِ

نعم..

وكنتَ متى أرسلتَ طَرفَكَ رائِداً *** لقلبِكَ يوماً أتْعبَتكَ المناظِرُ

رأيتَ الذي لا كُلَّهُ أنتَ قادرٌ *** عليهِ ولا عن بعضِهِ أنتَ صابرُ

أيها المسلمون: من عقوباتِ النظرِ: فسادُ القلبِ، وذهابُ النورِ والخشيةِ والخشوعِ.

قال شجاعُ الكرماني: “من عَمَّر ظاهرهُ باتباعِ السنةِ وباطنهُ بدوامِ المراقبةِ وغضَّ بصرَه عن الحرام، وكفّ نفسه عن اتباع الشهوات وأكلَ الحلالَ لم تخطِئْ له فِراسةٌ“.

ومن عواقبِ النظرِ الحرامِ: أنه يحرِمُ المرءَ من العلم.

نظر أحدُ طُلابِ وكيعٍ القاضي يوماً إلى امرأةٍ حسناءَ فتتبَّعها ببصرِه ثم انصرف.. فلاحظَ أنَّ فهمَه وحِفظهُ تشتّتَ؛ فاشتكى أمرَه إلى وكيعٍ، فقال له: غُضَّ بصرَك عن الحرام.

فقال هذا الطالبُ:

شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حِفظي *** فأرشَدني إلى تَركِ المعاصي

وأخبَرني بأنَّ العِلمَ نورٌ *** ونورُ اللهِ لا يُؤتاهُ عاصي

نعم.. ونورُ اللهِ لا يُؤتاه عاصي.

من عواقبِ النظر الحرام: أنه يجعلُ المرءَ ذليلاً لشهَواتِه، فقد يتعلَّق بصورةٍ يعشقُها خاصةً إذا كانت العينُ تُدمِنُ النظرَ إلى القنواتِ الفاسِدةِ التي تُظهر المرأةَ والرجلَ بأبهى صورةٍ، وهم في رقصٍ وتغَنُّجٍ وإغراءٍ حتى ربّما فُتن بذلك الرجال والنساء، فإذا تعلق القلب ذلّت النفس وصار العاشق المعجب يجمع الصور ويتتبع الأخبار، ومن تعلق قلبُه شيئاً وُكّلَ إليه.

قيل للإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: يا إمام فلانٌ تابَ. قال: الحمد لله.

قالوا له: وهو يقولُ لو ضُربَ ظهري بالسِّياطِ ما دخلتُ في معصية الله.

قالوا: إلّا أنه لا يصبر عن النظرِ، يعني: هذا الرجلُ تابَ من معاصٍ كان مقيماً عليها، والآن هو مُصلٍّ قائمٍ لليلِ ومُتصدقٍ غيرَ أنَّه لا يصبرُ عن النظرِ الحرامِ للنساءِ والغِلمان.

فقال الإمامُ أحمد: سبحان الله أيُّ توبةٍ هذه!!

أخيراً: أسبابُ إطلاقِ البصرِ مُتَعدِّدةٌ.

أولها: اتباعُ الهوى وطاعةُ الشيطان.

ومن ذلك: مشاهدةُ المسلسلاتِ والأفلامِ والبرامج والصورِ الفاتنة.

ومن ذلك تبرُّجِ النساءِ في الأسواق والمستشفيات، ذلكَ أنَّ بعضَ النساء تُشجّع الرجلَ للنظرِ إليها؛ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النور: 19].

وعلاجُ فتنةِ النظرِ معروفٌ، أولُه: غَضُّ البصرِ وصَرفُه عن الحرام.

ومن العلاج: أن تُفكِّرَ في الأشياءِ القبيحةِ في المعشوقِ لا الأشياءَ الحسنة.

فلا تنظُر لجمالِ العَينينِ والخدَّين إنما تخيَّلْ ما يخرُجُ من مخاطٍ من أنفهِ وبُصاقٍ من فَمهِ ورائِحةِ نَتَنِ فمه وغائطهِ وبولهِ.

لو فكَّر العاشقُ في مُنتهى **** حُسنِ الذي يَسبيهِ لم يَسبِه

ومن ذلك: أن تعلم أنَّ الله –تعالى- مدحَ من غَضَّ بصره عن محاسنِ امرأةٍ ووعدهُ بحلاوةِ الإيمان.

فمن غضَّ بصره عن محاسن امرأةٍ وهو قادرٌ على أن ينظر إليها أورَثَه اللهُ إيماناً يجدُ حلاوتَه في قلبه.

ومن العلاج: دعاءُ الله تعالى أن يحفظَ البصرَ والقلبَ عن الحرامِ والفِتن.

أسألُ الله تعالى بمنّه وكرمه أن يُعيذَنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهمّ إنا نعوذُ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

اللهمّ وفِّقنا لفِعل الخيرات وتركِ المنكرات وحُبِّ المساكين وإذا أردتَ بعبادكَ فتنةً فاقبضنا إليك غير خزايا ولا مفتونين.

اللهمّ إنّا نسألك من الخيرِ كُلِّه ونعوذُ بك من الشرِّ كلِّه.

اللهمّ صلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ وبارك على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ إنَّك حميدٌ مجيد.

سبحانَ ربِّك رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يصفونَ وسَلامٌ على المُرسلينَ والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين


تم تحميل المحتوى من موقع