وداعية الحق قد يبتلى بطاغية من الطواغيت عبَّد الناس له من دون الله تعالى ، وقد يخاف من بطشه وجبروته الخوف الطبيعي الذي هو من جبلة الإنسان وعادته، فعليه حينئذ أن يستعين بالله تعالى في دعوته، والنصرة عليه، وإظهار الحق له، ومن أخلص في ذلك أعانه الله تعالى.
الحمد لله الحفيظ العليم؛ أحاط علمه بعباده، وأسبغ نعمه على أوليائه، فاستخلفهم بعد الاستضعاف، ومكَّن لهم بعد الابتلاء (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ) [القصص:5-6] نحمده حمدا يليق بجلاله وعظيم سلطانه، ونشكره شكرا يزيد فضله وإنعامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ نصر أولياءه، وكبت أعداءه (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ) [غافر:51]،
وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله؛ أرسله الله تعالى بدين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة:151] صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه؛ أصلح هذه الأمة قلوبا، وأزكاهم أعمالا، وأكثرهم إخلاصا، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، اتقوا من خلقكم ورزقكم ويحييكم ويميتكم، وإليه مرجعكم، وعليه حسابكم (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) [فاطر:3] .
أيها الناس: قصص الأنبياء عليهم السلام، وما جرى لهم مع أقوامهم فيها تنبيه للغافلين، وعبر للمعتبرين، وقدوة صالحة للمؤمنين؛ فهم رسل الله تعالى إلى الناس، وهم الهادون الناصحون لهم، الحريصون المشفقون عليهم؛ ولذا قص الله تعالى أخبارهم في القرآن، وكرر ذلك وأعاد، وأمرنا بالتزام هديهم، والتأسي بهم (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام:90] وفي آية أخرى (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111].
وكليم الله تعالى موسى بن عمران عليه السلام هو أكثر رسل الله تعالى ذكرا في القرآن، وقصصه هي أشهر القصص، وما ذكرت قصة أحد في القرآن كما ذكرت قصته في ولادته ونشأته، وابتلائه وهجرته، ونبوءته ورسالته، ومناظراته مع فرعون، ومعالجته لبني إسرائيل، وغير ذلك مما هو مبسوط في القرآن.
لقد جعل الله تعالى خلاص بني إسرائيل على يد هذا الغلام منهم، فنجَّاهم سبحانه به من ظلم فرعون وجبروته، ومكَّن لهم في الأرض، وأظهر قدرته عز وجل في أن يعيش هذا الغلام في بيت فرعون، ويتربى أمام عينيه، وقدَّر هلاكه وزوال مملتكه على يديه، فسبحان من خلق كل شيء فقدره تقديرا.
ولما بلغ الفتى مبلغ الرجال آتاه الله تعالى حكما وعلما، وائتمر به ملأُ فرعون ليقتلوه لأنه قتل أحد الظلمة منهم، فنجاه الله تعالى من كيدهم بالهجرة إلى مدين، والعمل في رعي الغنم عند الرجل الصالح عشر سنوات ليزوجه ابنته، فأتم موسى عمله، وقضى أجله، واشتاق إلى أهله.
وما أصيب موسى عليه السلام بهذه الابتلاءات، ونالته المشقة، وتحمل أعباء المطاردة والغربة والهجرة والعمل إلا إعدادا من الله تعالى ليكون رسولا إلى أعتى الطغاة، وأقوى الجبابرة المستكبرين، وصدق الله العظيم حين خاطبه (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) [طه:39] وفي الآية الأخرى (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) [طه:41].
لقد أعده الله تعالى للرسالة برعي الغنم، وطول السفر، وشدة الغربة، وقوة الساعد، وصفاء النفس، ومعرفته لعدوه.
والنبوة لها أثقال ومؤونة لا يحملها ولا يستضلع بها إلا أهل القوة والعزم من الرسل بعون الله تعالى وتوفيقه؛ لما يلقون من الناس، وما يُرَدُّ عليهم مما جاءوا به عن الله عز وجل.
وأضحى موسى عليه السلام بهذه التربية والشدة مؤهلا للرسالة وأعبائها وأثقالها، قادرا على مواجهة أقوى الظلمة، وأعتى الجبابرة، فكانت النبوة والرسالة، وكان الاصطفاء والتكليم.
عاد موسى عليه السلام بعد هذه الهجرة الطويلة من مدين بزوجه متوجها إلى مصر حيث أمه وإخوانه، وأثناء طريقه، وفي ليلة مباركة، كالحة الظلمة، شديدة البرد أبصر نارا تأجج في جانب الطور، فذهب يلتمس لأهله نارا، فما كانت نارا ولكنْ كان نورا من الله تعالى، نال به موسى عليه السلام أعظم كرامة، وحظي بأعلى منزلة؛ إذ كلمه الله تعالى مباشرة بلا واسطة، فحمَّله رسالته، وأمره بأمانته، فما أعظمه من تشريف، وما أثقله من تكليف (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آَنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آَنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الوَادِ الأَيْمَنِ فِي البُقْعَةِ المُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ) [القصص:29-30] .
شرفه الله تعالى بكلماته، واصطفاه برسالاته، ورفع قدره، وأعلى شأنه، وأخبره في هذا المقام العظيم بأنه عز وجل ربه فقال سبحانه (يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ) [القصص:30] وهذا يدل على أن العبودية لله تعالى هي أشرف المقامات، وأعلى الوظائف؛ ولذا تُذكر في أجلِّ المواضع وأعلاها.
وفي موضع آخر عظيم مبارك من القرآن (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) [طه:11-16].
وفي موضع ثالث من القرآن العظيم (فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العَالَمِينَ يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ) [النمل:9].
ثم أيده الله تعالى بالمعجزات، وأجرى على يديه الآيات؛ ليكون أثبت لكلامه، وأقوى لحجته، وأدعى لتصديقه، ومن قدرة الله تعالى أن جعل هذه المعجزات مما مع موسى عليه السلام لا من غير ذلك؛ ليعلم أن الله تعالى يحيلها عن عادتها التي عرفها موسى إلى ما يريد الله تعالى؛ وذلك أبين في القدرة، وأقوى في البرهان والحجة (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآَرِبُ أُخْرَى قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى) [طه:17-21 ].
وفي آية النمل (وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ المُرْسَلُونَ) [النمل:10] وفي القصص (وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآَهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ ولا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآَمِنِينَ) [القصص:31] .
فهذه هي المعجزة الأولى لموسى عليه السلام، ومن قدر الله تعالى أنه سيكون لها شأن عظيم في مقارعة سحرة فرعون، وستقضي على سحرهم، وتكون سببا في إيمانهم، فما أجلَّها من معجزة! وما أعظمها من آية! ومن يقلب عصىً لا حراك فيها إلى حية حقيقية لا تخييل فيها ولا خداع إلا من يخلق من العدم، ويحيي الأموات، ويميت الأحياء (أَلا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ) [الأعراف:54].
وأما المعجزة الثانية فنور آتاه الله تعالى موسى في يده من غير بأس ولا مرض، يظهره لمن شاء متى شاء (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى لِنُرِيَكَ مِنْ آَيَاتِنَا الكُبْرَى) [طه:23] وفي آية النمل (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) [النمل:12] وفي القصص (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) [القصص:32].
إنها آيات كبرى لا يكذب بها إلا معاند، ولا يردها إلا مستكبر، ومع ذلك فإن موسى عليه السلام خاف أن يكذبه فرعون وقومه، وطلب من الله تعالى أن يبعث أخاه هارون معه، وشفع له عنده، فقبل الله تعالى شفاعة الكليم، وبعث معه أخاه هارون رسولا (قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآَيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ) [القصص:35] وفي آيات أخرى قال موسى عليه السلام (وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) [طه:29-36] .
وتلك هي أعظم شفاعة عرفها البشر في الدنيا وأنفعها حين شفع موسى لأخيه هارون بالرسالة، فقبل الله تعالى شفاعته فيه، وبعثه رسولا معه، وفي هذا يقول بعض السلف: ليس أحد أعظم منَّةً على أخيه من موسى على هارون عليهما السلام فإنه شفع فيه حتى جعله نبيا ورسولا معه إلى فرعون وملئه.
ولو لم يكن هارون أهلا للشفاعة لما شفع فيه موسى عليهما السلام.
وهذا يدل أيضا على علو منزلة موسى عند الله تعالى، وأنه ذو وجاهة؛ إذ قبل سبحانه شفاعته، وقد قال الله تعالى في موسى عليه السلام (وَكَانَ عِنْدَ الله وَجِيهًا) [الأحزاب:69].
وبلَّغ موسى وهارون عليهما السلام رسالات ربهما، وكذَّب فرعون وقومه رسوليهم، فأهلكهم الله تعالى وأنجى موسى ومن معه (وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا) [الفرقان:36] .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
الحمد لله حمدا يليق بجلال ربنا وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102] .
أيها المسلمون: في هذا الجزء المبارك من قصة موسى عليه السلام عبر ودروس ينبغي لمن قرأ القصة في كتاب الله تعالى أن يتدبرها وينتفع بها.
فقد دلت هذه القصة العظيمة على أن أعظم الأعمال القلبية وأزكاها عند الله تعالى توحيده سبحانه، وإخلاص الدين له، كما دلت على أن الصلاة أعظم العبادات العملية، فمن صح توحيده قُبل عمله، ومن قُبل عمله نجا، وهكذا الصلاة إذ هي أول ما يحاسب عليه العبد من عمله فإن قبلت فقد أفلح وأنجح، وإن ردت رد عليه سائر عمله؛ ولما كلم الله تعالى موسى عليه السلام أمره بالتوحيد والصلاة لعظيم منزلتهما، وفخامة شأنهما عنده عز وجل (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) [طه:14] .
وفي شريعة محمد عليه الصلاة والسلام كانت شهادة التوحيد أول أركان الإسلام، وكانت الصلاة ثانيها.
وتضمن كلام الله تعالى لموسى عليه السلام التذكير بالساعة للحساب والجزاء، وبيان أن أهل الأهواء من الكفار والمنافقين يصدون الناس عن التصديق بها، أو العمل لها، وما أكثر ما يفعلون ذلك في هذا العصر، وواجب على أهل الإيمان أن لا يطيعوهم في ذلك، وإلا هلكوا؛ ذلك أن أهل الأهواء من الكفار والمنافقين يوردون الناس المهالك (إِنَّ السَّاعَةَ آَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) [طه:16].
ومن يدعو إلى الحق يجب عليه أن يسعى في إكمال ما لديه من نقص في العلم أو الحجة أو البيان أو غير ذلك؛ ليكون أدعى لقبول الحق منه، ولئلا يتعلق أهل الباطل في صدِّ الناس عن الحق بما فيه من نقص، وعليه أن يتعلق بجناب الله تعالى في إكمال نقصه، ويسأله الإعانة والسداد.
ولما كان في لسان موسى عليه السلام احتباس يحول بينه وبين فصيح الكلام سعى في إكمال هذا النقص الذي فيه بأن طلب من ربه عز وجل أن يرسل أخاه معه ليعينه على إظهار الحق وبيانه فقال عليه السلام (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) [القصص:34] وفي آيات أخرى (قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ) [الشعراء:12-13].
وسأل الله تعالى أن يشرح صدره، ويعينه على مهمته، وأن يطلق بعض عُقَد لسانه؛ ليفهموا مقاله، فقال عليه السلام (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه:25-28].
قال العلماء: ما سأل موسى عليه السلام أن يزول ذلك بالكلية، بل بحيث يزول العي، ويحصل فهم ما يلقي عليهم، ولو سال الجميع لزال، ولكن الأنبياء عليهم السلام لا يسألون إلا بحسب الحاجة.
ومن عادة أهل الباطل أنهم يتعلقون بأي نقص في داعية الحق؛ ليلمزوه به، وينفروا الناس منه، ويصرفوهم عن دعوته، وقد كان فرعون يُعَيِّر موسى عليه السلام بهذا النقص في لسانه فيقول للناس (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ) [الزُّخرف:52].
وداعية الحق قد يبتلى بطاغية من الطواغيت عبَّد الناس له من دون الله تعالى ، وقد يخاف من بطشه وجبروته الخوف الطبيعي الذي هو من جبلة الإنسان وعادته، فعليه حينئذ أن يستعين بالله تعالى في دعوته، والنصرة عليه، وإظهار الحق له، ومن أخلص في ذلك أعانه الله تعالى، كما أعان موسى عليه السلام على فرعون وسطوته وجبروته، وأوصاه بما يذهب خوفه، فقال سبحانه (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [القصص:32] أي: اجعل يدك على فؤادك يسكن خوفك، ويذهب رهبك.
وكل هذه الدعوات والأعمال من موسى عليه السلام دليل على أن الأنبياء عليه السلام يأخذون بأسباب النصر، وإزالة الخوف، وقوة القلب، وتبليغ الحق، مع أنهم مؤيدون من الله تعالى، فهذه سنتهم التي ينبغي لدعاة الحق أن يلتزموها.
وفي شفاعة موسى لأخيه هارون عليهما السلام مشروعية الشفاعة، وإيصال النفع للقرابة، وأن ذلك من البر والصلة، ما لم يكن في الشفاعة إضرار بأحد، أو إعطاء من لا يستحق وحرمان من يستحق، كما هو السائد في أكثر شفاعات الناس في هذا العصر.
أيها الإخوة: وفي هذه القصة العظيمة ما هو أكثر من هذه الدروس والفوائد، يجدها من قرأ كتاب الله تعالى بحضور قلب وتدبر، واستعان ببعض كتب التفسير، فلا تحرموا أنفسكم هذا الخير العظيم؛ فإن أشرف العلوم وأجلها العلم بكتاب الله تعالى، وبأحوال ما قصَّ علينا فيه من أخبار رسله عليهم السلام، فخذوا حظكم من ذلك، ولا يشغلكم عنه شاغل.
وصلوا وسلموا...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي