صفات العلماء الربانيين

صالح بن محمد آل طالب
عناصر الخطبة
  1. التحذير من اليأس والقنوط في مراحل الضعف الفتن .
  2. صبر الأنبياء -عليهم السلام- .
  3. فضل العلماء الربانيين .
  4. صفات الربانيين وأعمالهم .
  5. الصلاح والإصلاح والجهاد .
  6. ما تحتاجه الأمة في هذا العصر .

اقتباس

والجهاد الهائل الذي قام به خاتمُ الأنبياء هو صُنع أمةٍ راجحةِ الكِفَّة في كل ميدانٍ من ميادين الحياة، إن الله أنزل عليه الوحي وشرَّفه هذا القرآن، ثم كلَّفه أن يفتح بهذا القرآن أقفالاً، وأن يُنير به آفاقًا، وعن طريق المسجد ربَطَ الناسَ بالله، ورصَّ صفوفهم لتتماسك بعدُ في ميادين الحرب والسلام، مُعليَةً كلمات الله، وكلماتُ الله لا يُعليها رجالٌ صغار، إنما يُعليها رجالٌ كبار، وإن رفع الناس إلى مستوى الوحي -أعني مستوى الفهم والتنفيذ- جهدٌ هائلٌ لا يقدرُ عليه إلا الأقلُّون، وهم الربانيون ..

 

 

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله؛ فهي الحِصنُ الحصين، والحِرزُ المكين، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

اتقوا الله بفعل ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجَر، تزوَّدوا من الصالحات، واستكثِروا من الحسنات، ولا ينبغي لمؤمنٍ أن يزهَد في قليلٍ من الخيرِ أن يأتيَه، ولا في قليلٍ من الشرِّ أن يجتنِبَه؛ فإنه لا يعلم الحسنةَ التي يرحمُه الله بها، ولا السيئةَ التي يسخطُ عليه بها، (وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].

عباد الله: في زمن الفتن والاضطراب، وكثرة المخالفات والمعاصي، وتسلُّط الفُسَّاق، قد يتسلَّل اليأسُ والقُنوط إلى بعض النفوس، فتضعُف وتستكين، وتتخاذلُ وتلين، ناسيةً أن الدنيا دار ابتلاءٍ وامتحان، وأن طريق الدعوة والإصلاح طريقٌ طويلٌ شاقٌّ، مملوءٌ بالإيذاء والابتلاء، حافلٌ بالعوائق والمُحبِطات، والصوارِف والعقبات، ناحَ لأجله نوح، ورُمِي في النار الخليل، وأُضجِعَ للذبح إسماعيل، وبِيعَ يوسف بثمنٍ بخسٍ ولبِثَ في السجن بِضع سنين، ونُشِر بالمنشار زكريا، وذُبِح السيدُ الحصورُ يحيى، وقاسَى الضُّرَّ أيوب، ولاقَى محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- من ألوان الأذى ما لاقَى؛ أوذِيَ وكُذِّب، وطُرِدَ وقُوتِل، ومات من يُناصِره ويُؤازِرُه، حتى سُمِّي ذلك العام: عام الحُزن.

بل رُمِي -صلى الله عليه وسلم- في عِرْضِه، لم تصفُ له الحياة من الكَدْر والتعب، ومع ذلك يتجدَّد نشاطُه في نشر رسالة ربه، والتبشير بها، وهو صابرٌ مُحتسِب، وبقِيَ في كل الأحوال النبيَّ الناصحَ، والرسولَ المُبلِّغ، والمُعلِّمَ الرحيمَ، (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21].

فالأمر الذي تُندَبون له أمرٌ عظيمٌ، ومن قبلكم مرَّ الأنبياءُ بالشدائد والصِّعاب.

أيها المسلمون: والعلماء هم ورثةُ الأنبياء، فلا بُدَّ أن يأخذوا نصيبَهم من هذا الميراث، ولا بُدَّ أن يُصيبَه ما أصابَ مُورِّثيهم من ألوان الأذى، هذا هو الأمرُ المُطَّرِدُ في كل دعوة، ومع أتباع الأنبياء في كل شِرْعة.

ولقد ضربَ الله لنا المثلَ بالربانيين من أتباع الأنبياء قبلَنا ليربطنا نحن المؤمنين بموكِب الإيمان، ويُقرِّر قرابةَ المؤمنين للمؤمنين، ويُقِرَّ في أخلادهم أن أمر العقيدة كله واحد، ويُعلِّمنا أدبَ الربانيين مع الله وهم يُعانون في سبيله ما يُعانون، فقال -عز وجل-: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا) [آل عمران: 146]، ما ضعُفَت نفوسهم لما أصابَهم من البلاء والكرب والشدة والجِراح، وما ضعُفت قواهم عن الاستمرار في الكفاح، وما استسلموا للجزع ولا للأعداء.

هذا هو شأن المؤمنين المُنافِحين عن العقيدة والدين، والله يحبُّ الصابرين، هنيئًا للصابرين في ميادين الدعوة والإصلاح الذين لا تضعُف نفوسهم، ولا تتضعضَعُ قواهم، ولا تلينُ عزائمُهم، ولا يستكينون أو يستسلمون، ولا يتهرَّبون من الميدان، ولا يتخلَّون عن المهمة، هنيئًا لهم محبة ربهم، إنها المحبة التي تأسو الجِراح، وتمسح على القَرْح، وتُعوِّضُ عن كل ما يُصيبهم في هذا الطريق.

إن الربانيين من أتباع الرسل قبلنا لم يطلبوا مقابل دعوتهم وجهادهم وصبرهم نعمةً ولا ثراءً؛ بل لم يطلبوا ثوابًا ولا جزاءً، لم يطلبوا ثواب الدنيا، لقد كانوا أكثر أدبًا مع الله وهم يتوجَّهون إليه بينما هم يجاهدون في سبيله، (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 147].

فلم يطلبوا منه سبحانه إلا غُفران الذنوب، وتثبيت الأقدام، والنصر على الكافرين، حتى النصر لا يطلبونه لأنفسهم، إنما يطلبونه هزيمةً للكفر وعقوبةً للكافرين.

وهؤلاء الذين لم يطلبوا لأنفسهم شيئًا أعطاهم الله من عنده كل شيء، أعطاهم كل ما يتمنَّاه طلاَّبُ الدنيا وزيادة، وأعطاهم كذلك كل ما يتمنَّاه طلاَّبُ الآخرة ويرجونه، (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران: 148]، شهِد لهم سبحانه بالإحسان؛ فقد أحسَنوا الأدب وأحسَنوا الجهاد، وأعلنَ حبَّه لهم، وهو أكبر نعمةٍ وأكثر ثواب.

أيها المؤمنون: هؤلاء هم الربانيون، وهذه أخلاقُهم أمام الابتلاء، لذلك أضافهم الله إلى نفسه، ونسبَهم إلى ربوبيته، فأكرِم بها من نسبةٍ، وأعظِم بها من إضافة.

عباد الله: ولقد دعاكم ربُّكم إلى أن تهتدوا بهديِ مَنْ سبقكم من الربانيين، وأن تسيروا على خُطاهم، فقال -عز وجل-: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) [آل عمران: 79]، كل مؤمنٍ على وجه الأرض مأمورٌ بأن يكون ربَّانيًّا، بأن يُطيعَ ربَّه في كل أمرٍ، ويحمَده على كل حال، ويذكُره في كل حين، وأن يكون لسانُ حاله ومقاله: (إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ) [الأنعام: 162، 163].

المؤمن الرباني مع ربه -جلّ جلاله- في كل أمرٍ يأمره به، أو قضاءٍ يُقدِّرُه عليه، أو نعمةٍ يمنحه إياها، إن أمره الله بأمرٍ امتثلَ أمر ربه بإخلاصٍ واتباع، وإذا نهاه عن شيءٍ اجتنَبَ ما نُهِيَ عنه بخضوعٍ ومحبةٍ وتسليم، وإذا أصابَتْه مصيبة فهو الصابر الشاكر لربه، الراضي عن مولاه، يعلمُ أن اختيار ربه له خيرٌ من اختياره لنفسه، وأن رحمته به أعظم من رحمة أمه، فيرضى ويُسلِّم.

وإذا فعل فاحشةً أو ظلمَ نفسَه بادرَ إلى الله تائبًا مُنيبًا، ووقف في مقام الاعتذار والانكسار، عالمًا بأنه لا يغفِرُ الذنوب إلا الله، ولا يقيه من السيئات أحدٌ سواه، يعوذُ برضاه من سخَطه، وبعفوه من عقوبته، وإذا أنعم ربُّه عليه فهو الحامدُ الشاكر، ينسبُ نعمةَ الله إلى الله، ويُثنِي بها عليه، ويستعملها فيما يُقرِّبُ إليه، ولا تزيدُه النعمُ إلا محبةً للمُنعِم، وكلما جدَّد له نعمةً أحدَثَ له عبوديةً ومحبةً وخضوعًا وذُلاًّ، وكلما وقع في ذنبٍ أحدَثَ لذلك توبًا واعتذارًا وانكسارًا، وإذا منعه ربُّه شيئًا قابَلَ ذلك بالرضا عنه سبحانه، والثقة برحمته وحكمته؛ فهذا هو المؤمن الرباني، وهذه هي حياتُه.

أيها المؤمنون: لقد وصف الله الربانيين بالثبات في الجهاد، والصبر على البلاء: (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146]، ووُصِفوا بتحكيم الشريعة: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) [المائدة: 44]، ووُصِفوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ) [المائدة: 63]، ووُصِفوا بتعليم الكتاب والسنة ودلالة الخلق على ما دلَّهم عليه الأنبياء: (وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران: 79].

قال البخاري -رحمه الله- في باب: "العلم قبل القول والعمل": "وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ)؛ أي: حكماء فقهاء، ويُقال: الرباني: الذي يُربِّي الناس بصِغار العلمِ قبل كِباره، وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: حكماء علماء، وقال ابن جُبير: حكماء أتقياء".

إن هذا الخطاب يتَّجِه للمؤمنين عامة، وللعلماء والصالحين خاصة، والذين يتبوأون مراكز التوجيه، ويتصدَّرون ساحات الجهاد في الحياة لا بُدَّ أن يأخذوا أنفسهم بالعزيمة ليُحسِنوا أداء دور الرسل، فالرسل أولو عزمٍ، وهو نداءٌ لدعاة الخير وشُداة الإصلاح: أن خُذوا الكتابَ بقوة، استمسِكوا بالذي أُوحِي إليكم؛ فأنتم على صراطٍ مستقيم، تحمَّلوا العِبءَ، وانهَضوا بالأمانة في قوةٍ وعزمٍ بلا ضعفٍ ولا تهاوُن، ولا تراجُعٍ عن تكاليف الدعوة، ولا انهزامٍ أمام مشاقِّ الطريق، حتى تكونوا ربانيين.

ومن دعاء عباد الرحمن: (وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74]؛ أي: قدوةً في الخير والصلاح والاستقامة والتقوى، أئمةً في التقوى، نأتمُّ بمن قبلنا، ويأتمُّ بنا مَن بعدَنا.

وقد أمر اللهُ رسولَه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بالاقتداء بالأنبياء قبله، فقال سبحانه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90]، وإن لم يكن المؤمنون على هذا المستوى من الأُسوة حُرِموا الاستخلاف في الأرض، قال إبراهيم -عليه السلام-: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [البقرة: 124]، قال الله: (لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة: 124].

وإن الذي يُسابِقُ في الملذَّات لن يرقَى في سُلَّم الطاعات، فلم نُخلَق للخلود في الدنيا ولا للإخلاد إلى الأرض، وإنما خُلِقنا واللهِ لأمرٍ عظيم، فلا تغُرَّنَّكم الحياة الدنيا، ولا تُلهيَنَّكم عن الآخرة؛ فأتباعُ الأنبياء لا يُزاحِمون على طلب المتاع والتعلُّق بالدنيا.

ولا تيأسوا من كثرة الهالكين أو تسلُّط الفاسقين: (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا) [المائدة: 105].

إن المسلمين منذ فجر الرسالة لم يصفُ لهم الجو ولا خلا لهم الطريق، والابتلاء سنةٌ ماضية، وكل استرخاءٍ أو تخاذُل سيستغِلُّه شياطين الجن والإنس للنَّيْل من الحق والانحراف بالخلق.

إن الصلاح هو تزكية النفس، والإصلاح هو تزكية المجتمع، والمسلم الحقيقي هو الذي يتعهَّد نفسَه بالتقوى، ويُقبِل في الوقت نفسِه على المجتمع ليُؤازِر الحق ويعوقَ الباطل.

والجهاد الهائل الذي قام به خاتمُ الأنبياء هو صُنع أمةٍ راجحةِ الكِفَّة في كل ميدانٍ من ميادين الحياة، إن الله أنزل عليه الوحي وشرَّفه هذا القرآن، ثم كلَّفه أن يفتح بهذا القرآن أقفالاً، وأن يُنير به آفاقًا، وعن طريق المسجد ربَطَ الناسَ بالله، ورصَّ صفوفهم لتتماسك بعدُ في ميادين الحرب والسلام، مُعليَةً كلمات الله، وكلماتُ الله لا يُعليها رجالٌ صغار، إنما يُعليها رجالٌ كبار، وإن رفع الناس إلى مستوى الوحي -أعني مستوى الفهم والتنفيذ- جهدٌ هائلٌ لا يقدرُ عليه إلا الأقلُّون، وهم الربانيون أتباع الأنبياء.

عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أهل الجنة يتراءون أهلَ الغُرَف من فوقهم كما يتراءون الكوكب الدُّرِّي الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضُل ما بينهم". قالوا: يا رسول الله: تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرُهم، قال: "بلى، والذي نفسي بيده؛ رجالٌ آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين". متفق عليه.

وفي عصرنا هذا توجد ألف طريقةٍ لخدمة الإسلام وإنعاش الأمة المُغمَى والمُغَمَّى عليها، وتثبيت أقدامها على الطريق التي مرَّت به مراكبُ السلف، ولا تصح هذه الطرق إلا بعد رفع أمتنا إلى مستوى الوحي، وتصحيح إنسانيتها، وفتح عينها المُغلَقة كي تمشي على سَناه، (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) [الإنسان: 23، 24].

بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله تعالى لي ولكم.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إلا الله وحده لا شريك له، الملكُ الحق المبين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

أيها المسلمون.. أيها المُصلِحون الربانيون: إن الأمة اليوم بحاجةٍ إلى أن تُسيِّر حياتها على الإيمان بالله وحده، وهو ما تواصَت به جميعُ الرسالات السماوية، قال الله -عز وجل-: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) [الأنبياء: 25].

وثانيًا: على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإخلاص في ذلك، وهو ما شرَعه الله لكل الأمم على اختلاف الأزمنة، قال الله -عز وجل-: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة: 5].

ومما لا شك فيه أن الصلاة شعيرةٌ عظيمة لتصفية النفس الإنسانية، ووصلها بالسماء، وأن الزكاة فريضةٌ لدعم التكافُل الاجتماعي، وإقرار الأُخُوَّة.

وثالثًا: حراسة الفضيلة وإشاعتها، وكُره الرذيلة ومحو براثينها، وهذه هي حقيقة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي شاعَت في كل دين، وكُلِّف بها جمهور المؤمنين، وقد لعنَ الله أقوامًا قبلنا بقوله: (كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة: 79].

ثم نحتاج أيضًا إلى معاملة البشر كافةً بضميرٍ رحيم وخُلُق فاضل، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، يتلو ذلك: إشاعةُ العدالة والرحمة والسلام في الأرض، وهذه تعاليم شاعَت في الكتب السماوية كلها تلقَّفَتْها القلوب الحية من البشر، وتروَّت بها النفوس النبيلة من كُبَراء الناس وأمرائهم؛ لذا فقد كان الحكم والسلطان في منطق البشر واحةً للناس في مهامِهِ بيدائهم، ومنهلاً رقراقًا يُطفِئُ في الهَجير ظمأهم، فالحكم والسلطان مرحمةٌ للناس وعافيةٌ لهم، وويلٌ للناس ثم ويلٌ لهم إن جاءهم البلاء من تلك العافية، وانفجر عليهم العذابُ من تلك المرحمة.

وإن من واجب العلماء الربانيين: دلالة الأمة على الحق في زمن الفتن، وطمأنتَها حالة الخوف، وتسكينها عند الاضطراب، وتصبيرها عند البلاء، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران: 200].

هذا، وصلُّوا وسلِّموا على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغُرِّ الميامين، وارضَ اللهم عن الأئمة المهديين، والخلفاء المَرْضِيِّين: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك أجمعين، ومن سار على نهجهم واتبع سنتهم يا رب العالمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا مطمئنًّا وسائر بلاد المسلمين. اللهم من أرادنا وأراد بلادنا بسوءٍ أو فُرقة فرُدَّ كيدَه في نحره، واجعل تدبيرَه دمارًا عليه.
 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي