لا بد لنا أن نبعد عن فلذات أكبادنا ما يلهب غرائزهم، ونغرس فيهم تقوى الله وخشيته والخوف من عقابه؛ لتكون حواجز أمامهم في طريق المعاصي، ونعلمهم أمثال هذه القصة، ونستخرج لهم منها العبرة، ونعلمهم الإخلاص؛ فيوسف كان من المخلصين؛ كما قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)
الحمد لله؛ عالم السر والنجوى، وكاشف الغم والبلوى؛ أحمده، وأشكره، وأتوب إليه، وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
اتقوا الله تعالى؛ فالتقوى وصية للأولين و الآخرين.
قال سبحانه وتعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ) [النساء: 13].
عباد الله!
قال تعالى:(وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ) [هود: 120].
عباد الله!
إن في القصص القرآني تثبيتاً للإيمان وعبراً للمعتبرين.
قال تعالى:(لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى) [يوسف: 111].
عباد الله!
وما أحوجنا أن نستلهم الدروس والعبر من القصص القرآني في هذا الزمن؛ لتنير لنا الطريق؛ لتزول فيه سحب الظلام.
عباد الله!
ومن تلكم القصص قصة نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام، التي قال الله تعالى فيها: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ) [يوسف: 3].
قصة ذلكم الشاب المتمسك بدينه، العاضَّ عليه بالنواجذ، الذي كيد له منذ نعومة أظافره وريعان شبابه ممن يفترض منهم ولايته ونصرته.
وظلم ذوي القربى أشد مرارة على المرء من وقع الحسام المهند
فقد تم التآمر عليه من أقرب الناس إيه وهو إخوته؛ (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) [يوسف:8-10].
ويلقونه في البئر، ويرحمه الله تعالى من الآفات، ويطمئنه مولاه بظهوره عليهم، (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [يوسف: 15].
ويتعرض بعد هذا لاسترقاق رقبته، يباع ويشترى، وهو نبي ابن نبي، الكريم بن الكريم، بل ولما قد يكون أشدة فتنة من ذلك، وهو العيش في داخل قصر الملك، (وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ) [يوسف:21].
ويبتلى بعد ذلك ليوقع في عفافه وسلوكه، فيعافيه الله من ذلك، قال تعالى: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف:23-24].
ويهدد بعد بالسجن إن لم يفعل ما طلبته منه امرأة العزيز ذات المنصب والجمال، فيأبى، ويبقى على عفافه وطهره، (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) [يوسف: 33].
ورغم ظهور نزاهته وصدقه يأبى الفجور والطغيان –كما هي عادته- إلا أن يتمادى في غيه، (ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) [يوسف:35]، وذلكم تغطية للكذب لما ادعي به عليه.
عباد الله!
انظروا إلى هذه الفتنة التي حصلت للكريم بن الكريم، وهي مراودة امرأة العزيز له، وتفهموا خطورة وجود الرجل الأجنبي في محيط النساء.
وهنا أود أن أهمس في أذن من مكنوا السائقين من ولوج بيوتهم والتردد عليها في غيبتهم بحجة إيصال الحاجيات أو الذهاب بالنساء... أو أولئك المزارعين الذين يجعلون نساءهم يختلطن بالعمال عند قطف المحاصيل أو غير ذلك... أقول لهم تذكروا هذه القصة، وأنه: "ما خلا رجل بامرأة؛ إلا كان الشيطان ثالثهما"... ومَنْ مِنْ هؤلاء كطهر يوسف وعفافه؟! من منهم سيقول: معاذ الله! إنه ربي أحسن مثواي؟!
أين من لا يبالون بالاختلاط بين الجنسين؟!
أين من يرمون بناتهم في مجامع الرجال؟!
أما يتقون الله ويحفظون أعراضهم ويبعدون الأجانب عن بيوتهم؟!
شباب الإسلام!
يوسف عليه السلام تعرض لمحنة في عرضه فاستعلى عليها وملك غرائزه؛ لأن الرجل الرشيد يسير غرائزه ولا تسيره، ولذلك عدّ الرجل الذي دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
أين هذا ممن كانت الشهوة هي المسيرة له، فضايق نساء المسلمين في الشوارع والأسواق، بل وحتى في البيوت، ومن خلال الهاتف، باحثاً عن متعة حرام، فاعلاً كل ما يلهب غرائزه، من نظر إلى الصور الفاتنة، أو نظر إلى النساء، والأفلام... أو غير ذلك.
أمة الإسلام!
لا بد لنا أن نبعد عن فلذات أكبادنا ما يلهب غرائزهم، ونغرس فيهم تقوى الله وخشيته والخوف من عقابه؛ لتكون حواجز أمامهم في طريق المعاصي، ونعلمهم أمثال هذه القصة، ونستخرج لهم منها العبرة، ونعلمهم الإخلاص؛ لأنه من أكبر الأسباب لحصول كل خير واندفاع كل شر؛ كما قال تعالى: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف: 24].
فيوسف أصبح من المخلَصين لأنه كان من المخلِصين.
وانظروا كيف أقام الله الشاهد الصغير من أهلها وأنطقه بالحق، فتبين صدق يوسف وكذبها.
اللهم! نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضي،والقصد في الفقر والغنى.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون!
شباب الإسلام!
لقد كان يوسف عليه الصلاة و السلام أثناء محنته يعيش هم الدعوة إلى الله، مهتماً بترسيخ التوحيد الخالص في النفوس، الذي هو وظيفته ووظيفة آبائه من قبل.
قال سبحانه وتعالى: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [يوسف:38-40].
واعلموا عباد الله أن الشدة إذا استحكمت؛ فقد قرب انفراجها.
اشتدي أزمة تنفرجي قد آذن ليلك بالبلج
وبعد هذه المحن العظمى؛ محنة التآمر على يوسف بالقتل التي خففت إلى إلقائه بالبئر، ومحنة تعرضه للاسترقاق، ومحنة ابتلائه في عفافه، ومحنة لبثه في السجن بضع سنين.. بعد هذا كله تظهر براءته...، (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) [يوسف: 51].
ثم يعلي الله شأنه وأمره،
(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ ) [يوسف: 56].
وفي ظل هذا العز والتمكين يأتي إليه أولئك الذين تآمروا عليه من قبل، وهم في حالة ضعف مادي ومعنوي، فيفاتحهم قائلاً: (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف:89-92].
وفي هذا الموقف الرهيب –موقف عز يوسف وذل أخوته –لم ينس نعم الله عليه: (وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف:100-101].
أين من نسي نعمة الله في حال الرخاء والسراء؟!
شباب الإسلام!
معاشر الدعاة إلى الله!
يا من أجبتم داعي الله!
إن لكم في ثنايا التاريخ أسلافاً من رسل الله وأتباعهم بإحسان، أعطوا قلوبهم لخالقها، فكانت العقبى لهم؛ فاستعينوا بالله واصبروا، والله جاعل لكم من كل همَّ فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً.
اللهم! إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضى، والقصد في الفقر والغنى.
اللهم! أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم! آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها.
اللهم! ردَّنا إليك ردّاً جميلاً.
اللهم! اهدي ضال المسلمين!
اللهم! آمنا في أوطاننا، وأصلح ولاة أمورنا، وارزقنهم البطانة الصالحة، واجعلهم نصرة للحق وأهله، حرباً على الباطل وأهله.
اللهم! أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين على اختلاف طوائفهم يا رب العالمين!
اللهم! انصر المجاهدين الصادقين في سبيلك.
اللهم! انصر المجاهدين في أفغانستان وفي فلسطين، واجعل جهادهم لإعلاء كلمة الله.
اللهم! أعد المسجد الأقصى إلى رحاب الإسلام، وطهره من إخوة القردة الخنازير.
اللهم! صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عباد الله!
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكره على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي