أصبح التهافتَ على الدَّين ظاهرةً خطيرة في مجتمَعنا، فكثيرٌ من الناس لا يبالي بالاستدانةِ، لماذا؟! المصارفُ فتحَت لهم الأضواءَ بأنواعِ القروض الميسَّرة كما يقولون، وبأنواع البركة وبكذا وبكذا، سهَّلوا المهمَّةَ في الظاهر وقالوا: استقرِض منَّا قروضًا ميسَّرة ونعطيك رواتبَ سنةٍ كاملة وإلى غير ذلك، فربما حمَلَه الطمَع واطمأنَّ إلى قولهم فحمَّل ذمّتَه فوقَ ما يستطيعُ وفوقَ ما يقدِر عليه، ثمّ ماذا؟! ثم يعودُ بالصّفقَةِ الخاسِرة..
أمّا بعد:
فيا أيّها الناس: اتقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله: شريعةُ الإسلامِ نظّمَت المعامَلاتِ بين المجتمَع المسلِمِ بوَجهٍ يكفل التّعاوُنَ والمساعدة وأداءَ الحقوقِ ومَعرفةَ كلٍّ ما لَه وما عليه، والمسلمُ حينَما يتدبَّر نُصوصَ الكتابِ والسنّة يجِد نظامَ المعاملاتِ في الإسلامِ نظامًا كاملاً يحقِّق للفَردِ والمجتمَع معًا السّعادةَ والهناءَ والتفاهُم بَين الأفرادِ، ويشمَلُهم قولُه تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى) [المائدة:2].
أيّها المسلِم: في هذه الحياةِ لا يمكِن لأحدٍ أن يستقلَّ بكلِّ حاجاتِه، ولا أن تتوفَّر له أمورُه كلُّها دائمًا مهما يكن حالُ الإنسان، فالمعاملاتُ والداخِل في المعاملات لا بدَّ أن يكون له وعليه، فيومًا تراه مدينًا للآخرين، ويومًا ترى الناسَ مدينين له في حقوقٍ في ذِممهم، فما بين مستدين لنفسِه وما بين مدين لغيره، هذا أمرٌ لا بدَّ منه عند من يطرُق بابَ المعاملات ويلِج فيها ويأخُذ ويُعطي، ولكن شريعةُ الإسلام وجَّهت الفردَ المسلم أن يتّقيَ الله في نفسِه قبل كلِّ شيء، وأرشَدته إلى أن حقوقَ العبادِ لا بدَّ من أدائها، فهي مبنيّة على المشاحّةِ والمضايَقة، ولا يمكن التهاوُنُ بها، ومهما عمِل المسلم من عمَل فإنَّ حقوقَ العباد متعلِّقة برقَبَته حتى يؤدّيَها، وإن لم يؤدِّها في الدّنيا فنفسُه معلَّقَة يومَ القيامة بدَينه، وأعماله الصّالحةُ مهما كثُرت لا تسقِط حقوقَ الناس من ذمّته، هكذا بيّن النبيّ –صلى الله عليه وسلم- وأرشَدَ المسلم إلى أن يعلَمَ حُرمة الأموالِ وحرمةَ الدماء، وأنَّ حرمة الأموالِ قرينةٌ لحرمةِ الدماء، كما قرنَ بينهما النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في قوله: "إنّ دماءَكم وأموالَكم عليكم حرام".
أيّها المسلم: نبيُّنا –صلى الله عليه وسلم- كان يدعو بهذه الكلماتِ في دُبُر الصلاة، أي قبل أن يسلِّم، يقول في دعائه: "اللهمّ إني أعوذ بك من الهمِّ والحَزَن، والعَجز والكَسَل، والبُخل والجُبن، وغَلَبة الدّين وقَهرِ الرجال". فكان يستعيذ بالله من غَلَبة الدَّين، أي من الدَّينِ الذي يغلبه ويعجزُ عن قضائِه ويلقَى اللهَ وحقوقُ العبادِ في ذمّته، فالنّبيُّ يستعيذ من ذلك لأنّ حقوقَ العباد إذا لم تُؤدَّ في الدنيا أُدِّيَت يومَ القيامة من حسناتك؛ من صلاتك، من صيامك، من حجِّك، من بِرِّك، مِن فعلِك الخير.
حقوقُ العباد لا بدَّ من أدائها، فأدِّها في الدنيا لتبرَأَ منها ذمّتك، أدِّها في الدنيا لتسلمَ من عقوبةِ الله، أدِّها في الدنيا لتريحَ من بعدك من الوَرَثة حتى لا تؤخَذَ أموالهم من بين أيدِيهم فيعودون فقراءَ بعدما كانوا يؤمِّلون الغِنى من الله ثم ممّا خلَّفتَ.
حقوقُ العباد أدِّها في الدّنيا ليعرفَ الناسُ صدقَك، أدِّها ليعرفَ الناس أمانَتَك، أدِّها ليثقَ الناس بك، أدِّها ليدلَّ الأداءُ على صلاحٍ في نفسك وحبّ الخير لغيرك.
أيّها المسلم: حقوقُ الناس مكفولة مهما طالَ الزمن، فتقادُم الزمن لن يُعفيَك عنها، طولُ الزّمن لن يعفيَك عنها، غِيابُ أهلها لن يُعفيَك عنها، فبادِر بالأداء واتّق الله في ذلك.
أيها المسلم: نبيُّك -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إنَّ أعظمَ الذنب بعد الكبائِرِ التي نهى الله عنها أن يلقَى العبدُ الله بدَينٍ لم يترُك له قضاءً". فهي مصيبةٌ عظيمة وبلِيّة كبيرة، ولهذا استعاذ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- من غَلَبة الدين.
إذًا فالمؤمنُ يفكِّر عندما يريد أن يستدِين من الآخرين: أوّلاً ضروريّةُ هذا الدَّين، وهل هو ضرورة؟! ثم هل هو حاجة ملِحّة أم حاجَة كمَال وحاجةُ مجاراة وحاجَة لأمورٍ لا قيمةَ لها؟! فإن يكن ذلك الدَّين ضروريًّا لك أو حاجَةً ملِحّة أنت بحاجَةٍ إليها فخذ من الدَّين قدرَ ما يغلِب على ظنِّك قُدرتَك على الوفاء وقدرَتَك على التّسديد، وإلاّ فإن حمَّلتَ ذمَّتَك ما لا تطيق بُؤتَ بالإثم والغضَبِ من الله.
أخي المسلم: مع الأسَفِ الشّديد أصبح التهافتَ على الدَّين ظاهرةً خطيرة في مجتمَعنا، فكثيرٌ من الناس لا يبالي بالاستدانةِ، لماذا؟! المصارفُ فتحَت لهم الأضواءَ بأنواعِ القروض الميسَّرة كما يقولون، وبأنواع البركة وبكذا وبكذا، سهَّلوا المهمَّةَ في الظاهر وقالوا: استقرِض منَّا قروضًا ميسَّرة ونعطيك رواتبَ سنةٍ كاملة وإلى غير ذلك، فربما حمَلَه الطمَع واطمأنَّ إلى قولهم فحمَّل ذمّتَه فوقَ ما يستطيعُ وفوقَ ما يقدِر عليه، ثمّ ماذا؟! ثم يعودُ بالصّفقَةِ الخاسِرة.
أيّها المسلم: البعضُ من أولئِك يستدينُ، لماذا؟! قال: أستدينُ لأربَحَ في الدَّين وأشتغِل في الدَّين وآخُذُ الأسهمَ وأنافِس وأقتحِمَ ميادينَ التجارةِ، فلعَلَّ فرصةً سانحة أكونُ غنيًّا بعدما كنتُ فقيرًا، وأكون من رؤسَاءِ الأموالِ بعدما كان لا يحسَب لي حسابٌ. هذه أمنيّتُه التي تخالج نفسَه، فيدخُلُ بديونٍ وديونِ الناس ثمّ يقتحِم هذا الميدانَ، فرُبَّ صفقةٍ خاسِرة تمحَق كلَّ ماله، فيصبح مَدينًا ومَدينًا وأيّ دين؟! المصارِف أحيانًا سهّلت لهم المهمَّةَ وقالت: نعطيكُم أضعافَ ما تريدون، فلمّا حقّتِ الحاقّة ورأتِ المصارفُ بعضَ أوجُهِ الكَسادِ في بعضِ الأحوال انسَحَبت وأخذَت حقوقَها وعادَ هذا المسكينُ الذي كان في عافِيَةٍ عاد مُثقَلاً بحقوقِ الآخرين، ويا ليته سلِم من ديونِه كلِّها.
يا أخي: اقتحامُ التّجارة وخَوضُ ميادين التّجارة أمرٌ مطلوب، والله يقول: (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) [المزمل:20]، ولكنْ كلُّ شيءٍ بأصولِه، وكلّ شيء بضوابِطه، وكلّ شيءٍ على قدرِ نفسك -أيها المسلم-. اعرِف نفسَك أوّلاً واعرِف وضعَك واعرِف هل أنت ذو قدرةٍ على العمَل والتنافس أم أنت عاجز؟! ما كلُّ مَن ملَك مالاً يكون صاحبَ قُدرةٍ ومَهارة، فاعرِف نفسَك، وقيِّم نفسَك قبلَ أن يقوّمَك الآخرون، واعرف نفسَك قبل أن يعرفَك بوضعِك الآخرون.
أيّها المسلم: إنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- حذَّرنا فقال في دعائه: "اللهمّ إني أعوذ بك من غَلَبة الدَّين". غلبةُ الدَّين مصيبة، وإذا أُخِذتَ أخِذتَ بحقٍّ؛ لأنّك حمَّلتَ نفسَك ما لا تطيق، يُحجَر عليك في تصرّفاتِك، وإن يكن لك عقارٌ أُخِذَ العقار وحُجز ثم بيع في المزادِ ليُعطَى الناسُ حقوقَهم، وإذا هربتَ عن الناس بالحِيَل والخداع فستلقى الله يومَ القيامَة ويُمكَّن الغرماءُ من أخذِ حسناتك وهي أغلى ما عندك.
أيّها المسلم: الله -جلّ وعلا- قال لنا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة:282]، فأمَرَ بكتابةِ الدَّين وتسجيلِه ليسلمَ النّاس من التلاعُب وأكلِ بعضهم مالَ بعض.
أيّها المسلم: وعندما تلجِئُك الحاجةُ إلى الدَّين فاجعَل نيّةً صالحة في قلبِك يَعلمُها الله منك أنّك تريد قضاءَ الدَّين، في الحديث: "من أخَذ أموالَ الناس يريد أداءها أدّى الله عنه، ومَن أخذَها يريد إتلافَها أتلَفَه الله". قال العلماء: "أدّى الله عنه": يسّر أمورَه ومكّنه في الدنيا من الأداء أو هَيّأ له مَن يؤدّي عنه، أو تجاوَز الله يومَ القيامة وأرضَى الغرماءَ من فضلِه حتّى يَسمَحوا بها في ذمّتِه لهم، "وإن أخَذَها يريد إتلافَها أتلَفَه الله": أتلَف نفسَه، أتلَف صحَّته، أتلف مكاسِبَه، ضيَّق عليه الأمور، عسّر عليه الأسباب، حتى يصبِحَ في قلقٍ وشقاءٍ وهمٍّ وحزن، وفي الحديث: "مَن استدانَ دَينًا يعلَم الله من صاحبه الأداءَ فإنّ الله يؤدِّي عنه"، وإن علِمَ من صاحِبِه عَدمَ الوَفاءِ فإنّ الله يتلِف عليه ماله.
يا أخي المسلِم: ليس المهِمّ أن تجدَ من يُدينك ولا مَن يُقرضك ولا مَن يحمِّلك الحقوقَ، المهمّ أن تكونَ متبصِّرًا في أمورِك كلِّها قبل أن تستدينَ، متبصِّرًا في أمورِك، واقعيًّا في أحوالك، لا يغرنَّك كثرةُ الناس، ولا يغرنَّك أنّ هذا ربِح وذا ربح، لا، انظر نفسَك أنت أخصّ، انظر نفسَك ووضعَك وهل عندك القدرةُ الماليّة فيما لو استدَنتَ ثم فشِلتَ في هذه الصّفقة أنك قادِر على أن تعطيَ الناسَ من مال آخر؟! وأمّا رأسُ مالٍ تأخذه دَينًا لتظنَّ الربح فيه وأنت لستَ ذا خِبرةٍ ولا بصيرةٍ وليس لك تقيِيمٌ للأوضاع كما يُراد فإنّك بذلك تخسَر.
أيّها المسلم: كثيرٌ من أبناءِ المسلمين تراه يحمِل بطاقاتِ ديون: هذه سيّارَةٌ، هذا أثاثٌ، هذا للسَّفر، هذا لكذا، هذا لكذا.. لماذا يا أخي؟! لماذا تحمّل نفسَك ما لا تطيق؟! ليس الدَّين فَخرًا ولا شَرَفًا، إنما الفخرُ راحةُ الذمّة من الأمور، في الحديثِ يروَى أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تخيفُوا أنفسَكم بعد أمنها"، قالوا: كيف يا رسول الله؟! قال: "تخيفوها بالدَّين". فالدَّين همٌّ وحزنٌ وذلّ وصَغار، يطأطِئ رأسَ الإنسان عندما يتوجّه المدّعون عليه، يطلبونَه حقوقَهم ولا يرحمونَه ولا يحسِنون إليه.
فليتّقِ المسلم ربَّه، وليؤدِّ الذي عليه أداءً كاملاً، إنّ الله يقول لنا في كتابِه العزيز: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) [البقرة:283]، والله يقول: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) [النساء:58].
كان على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- دَين لأحدِ الأنصار، فأمَر أن يُعطى حقَّه، فلمّا أعطاه الأنصاريّ حقَّه، قال: ليس هذا حقّي، قال: هذا حقُّك، ألا ترضَى بقولِ رسول الله؟! قال: لا، وأولى الناسِ بالعَدل رسولُ الله، فلمّا سمع ذلك النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذرَفت عيناه وقال: "نعم، أنا أولى النّاس بالعدلِ، أعطوه حقَّه ووفّوه كاملاً".
فمحمّد -صلى الله عليه وسلم- كان حرِيصًا على قضاءِ الدَّين، ولما شاجَر رجلٌ النبيَّ وقال: يا كذا، فهمَّ الصحابةُ به، قال: "دعوه؛ فإنَّ لصاحب الحقّ مقالاً". فهذا الذي يطلُب النبيَّ أنكَرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- على الصحابةِ حين نهَروه قال: لا، هو تكلَّم عليّ لأنّ له حقًّا: "دعوه؛ فإنّ لصاحبِ الحقّ مقالاً".
وكان -صلى الله عليه وسلم- يُوفي الغريمَ حقَّه ويزيد، اقترَض مِن رجلٍ بكرةً فقال: "أعطوه"، قالوا: لا نجد إلا رباعيًا، قال: "أعطوه إياه؛ فإنّ خيارَ المسلمين أحسنُهم قضاءً".
فيا أخي المسلِم: اتَّق اللهَ في نفسِك، واتّقِ الله فيما تحمِّله ذمّتَك، واحذَر أن تلقى اللهَ بتبعاتٍ، أن تلقى الله بحقوقِ الخَلق وما أعطَيتَهم حقَّهم، اتّق الله ونَم مُرتاحًا بفَراغ ذمَّتك مِن حقوقِ الخلق، وإن اضطُرِرتَ فاكتُب وأشهِد واستوثِق واجعَل الأمرَ واضحًا لك ولمن بعدَك من ذرّيّتك؛ فإنَّ العبدَ لا يَدري متى يفجؤُه الأجَلُ وفي ذمّتِه حقوق الناس.
خطب النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فأخبَرَ عن ثوابِ المجاهدين، وأنَّ من قُتِل في سبيل الله مقبِلاً غيرَ مدبِر كفّر الله عنه خطاياه وأعادها، فقال رجلٌ: حتى الدين؟! فسكتَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "إلاَّ الدَّين؛ فإنّ جبريلَ أخبرني بذلك آنفًا"، يعني الشهادةَ في سبيل الله مع عِظمِها لا تكفِّر الدَّينَ ولا تخفِّف الدّين، فالشهيد يَلقَى الله بالشهادَةِ، ولكن دَينُ العِبادِ في ذمّته، فكيفِ بحالِنا نحن أيّها الإخوة؟! فالمطلوبُ منّا أن نتعاوَنَ على الخير، وأن لا نحمِّل أنفسَنا ما لا نطيق، وأن نحذَرَ من التهاونِ بحقوق النّاسِ مهما كانت حالُها.
أسأل اللهَ للجميع التوفيقَ لما يحبّه ويرضاه، إنّه على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58].
بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيمِ، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيمِ، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيم الجليلَ لي ولكم ولسائر المسلِمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحبّ ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محَمّدًا عبده ورَسوله، صَلَّى الله عَليه وعَلَى آله وصَحبِه، وسَلّمَ تَسلِيمًا كثيرًا إلى يومِ الدِّين.
أمّا بعد:
فيا أيّها الناس: اتّقوا الله تعالى حقَّ التقوى.
عبادَ الله: نبيُّكم -صلى الله عليه وسلم- كان يعظِّم الدَّينَ في نفوس أصحابِه تعظيمًا عظيمًا، قال جابرُ بن عبد الله: تُوفِّيَ رجل منَّا فغسَّلناه وحنَّطناه وكفّنّاه وأتينا به النّبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ليصلّيَ عليه، فخَطا خطَواتٍ ثم قال: "أعليه دَين؟!"، قالوا: ديناران يا رسول الله، فتأخَّرَ عنِ الصّلاةِ عليه وقال: "صَلّوا على صاحِبِكم"، فقال أبو قتادة: هما عليَّ يا رسولَ الله، قال له النبيُّ: "برِئَت ذمّةُ الغريم وحُقَّ الدين؟!"، قال: نعم يا رسول الله، فصلّى عليه النبيّ -صلى الله عليه وسلم-، ثم لقِيَ أبا قتادة في اليومِ الثاني قال: "يا أبا قتادةَ: ما فعَل الديناران؟!"، قال: يا رسول الله: إنما ماتَ بالأمس! ثمّ لقِيَه اليومَ الثاني وقال: "يا أبا قتادةَ: ما فعل الديناران؟!"، قال: يا رسول الله: دفعتُهما لصاحبهما، قال: "الآن برَدت عليه جِلدَته"، لمّا سُدِّد الديناران خفِّف الأمرُ عن ذلك الغريم الذي ماتَ وفي ذمّته هذان الديناران.
فيا أخي المسلم: هكذا علَّم النبيّ أمّته؛ ليعرفوا حقوقَ العباد ولا يظلِم بعضهم بعضًا ولا يتعدَى بعضهم على بعض.
أيّها المسلم: إذا كان غريمُك معسِرًا لا يستطيع الوفاءَ فإيّاك أن تشقَّ عليه، وإيّاك أن تشمتَ به، وإياك أن تشوِّهَ سمعته، واسمع الله يقول: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:280]. جاء في الحديث: "إنّ رجلاً كان يدايِن الناسَ، وكان يقول لغِلمانه: يسِّروا على الموسِرين وتجاوزوا عن المعسِرين، فقال الله: أنا أحقُّ بالتّجاوُز منك، فتجاوَزَ الله عنه".
يا أخي: لا بدَّ من عَفوٍ ومسامحةٍ للمعسِرين الذين أرادوا الوفاءَ لكن عجزوا، أن تيسِّروا عليهم ولا تحمِّلوهم ما لا يطيقون، ولا تعرّض بالكلام والمرافَعَة وأنت تعلَم وضعَه وحالَه. فعلى المسلِم أن يؤدِّيَ الحقوق، وعلى من عليه الحقّ أن يتّقيَ اللهَ في الوفاءِ ويستعينَ بالله على ذلك، ومَن صدَق الله في نيّته حقّق الله مرادَه بتوفيقٍ من الله ورَحمَة.
أيّها المسلم: إنّ الحرصَ على قضاء الدَّين عملٌ صالح ودليلٌ على الصِّدق والالتزام الحقّ، وأمّا من يماطِلُ بحقوقِ النّاس فلا ينفعُه أن يلتزمَ بالخير وهو يظلِم الناسَ ويجحد حقوقَهم، وتلك مصيبةٌ عظيمة، فلنتَّقِ الله في تعامُلنا مع عبادِ الله لنكونَ -إن شاء الله- على الخيرِ في ظاهرنا وباطِنِنا.
أيّها المسلم: إنّ نبيَّنا -كما سبَق- يعظِّم أمرَ الدين ويبيِّن أهمّيتَه وشأنه، فيذكر لنا -صلى الله عليه وسلم- خبرًا من أخبار الماضينَ، وهذا الخبرُ الذي أخبرَ به النبيّ -صلى الله عليه وسلم- إنّما حدّثنا به للعِظَة والاعتبار.
ذكر لنا -صلى الله عليه وسلم- أنّ رجلاً من بني إسرائيل استدانَ من آخر ألفَ دينار، أخذ دَينًا مقدارُه ألفُ دينار، وأعطاه صحيفةً مسجَّلاً فيها ذلك الدَّين، فأخذ صاحِبُ الحقّ الدَّين والصحيفةَ التي هي نسخةٌ تدلّ على ما في ذمّتِه، وقد وعدَه يومًا معيَّنًا يأتيه بالسّداد فيه، فلمّا جاء اليومُ المعيَّن خرج ذلك الرجُل ومعه الدنانير الألفُ والصحيفةُ يلتمِس مركبًا في البحرِ يركبُه حتى يصِلَ إلى صاحبِ الحقّ فيعطيَه حقَّه، مضى اليومُ ولم يأتِ مركَبٌ يركب فيه ولا يستطيع أن يخوضَ غِمار البحر، فماذا فعل؟! قال: أخَذ خشبةً ونجرَها ووضعَ فيها ذلك المالَ والصحيفةَ وزجَّها وربَطها وأكَّد وِكاءَها، ثم استقبل القبلة وقال: اللهمّ إن فلانَ ابنَ فلان أعطاني ألفَ دينار، وسألني شهيدًا فقلت: كفى بالله شهيدًا، وسأَلني كفيلاً فقلتُ: كفى بالله كفيلاً، أعطاني ثقةً بي، وقد وعدتُه هذا اليومَ، فتعلم أني لم أجِد مركبًا أركَب فيه، ثم ألقاها في البحر مما في نفسِه ورجَع إلى دارِه، خرج ذلك الرجلُ صاحبُ الحقّ يلتمِس لعلَّ مركبًا يأتي وفيه الدنانير الألفُ التي له، فمضى اليومُ ولم يجد أحدًا يأتي، لكنه وجَدَ تلك الخشبةَ على ساحلِ البحر، فأخذها لكي تكونَ حطبًا لغدائه أو عشائه، فلمّا نشرَها فإذا الألفُ دينار والصحيفةُ في تلك الخشَبَة، فأخذ دنانيرَه وصحيفتَه وحمِد الله على هذه النعمة، لكن ماذا فعل مَنْ عليه الدَّين؟! خرَج في يومٍ ثانٍ بألفِ دينار، ووجَد مركبًا فركب فيه، وأتى لصاحب الحقّ وقال: يا فلان: يعلم الله ما تركتُك إلاَّ أني لم أجِد مركبًا أركبه، هذه ألفُ دينار والصّحيفة التي بيني وبينك، قال: أما بَعَثتَ الخشبة لي؟! قال: يا فلان: والله ما وجدتُ مركبًا أركب فيه، قال: اذهَب راشدًا فقد قضَى الله عنك ما عَليك.
يا إخواني: هذهِ كلُّها من نبيِّنا ترغيبٌ لنا في الوفاءِ وحثٌّ لنا على الصّدق والتزامِ الموعد، فنسأل الله أن يجعلنا وإيّاكم ممّن يستمعون الحقَّ فيتّبعون أحسنَه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب.
واعلَموا -رَحِمكم الله- أنّ أحسنَ الحديث كتابُ الله، وخير الهديِ هدي محمّد -صلى الله عليه وسلم-، وشرّ الأمور محدثاتها، وكلّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعةِ المسلمين، فإنّ يدَ الله على الجماعةِ، ومن شذَّ شذّ في النار.
وصلّوا -رحمكم الله- على عبد الله ورسوله محمّد امتثالاً لأمر ربّكم حيث يقول: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولك محمّد، وارض اللهمّ عن خلفائهِ الرّاشدين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي