بالاعتبار يحيا الإنسان حياة كاملة لأنه يسدُّ خللها ويجبر كسرها ويكمل نقصها، فإذا نسي الإنسان فليس للنسيان علاج إلا التذكير بالاعتبار، يقول تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) الذاريات:55، وكان صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة ما بين الحين والحين.
الحمد لله الذي كان بعاده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق كل شيء فقدره تقديراً، وجعل العباد إما شاكراً وإما كفوراً، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، أرسله الله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وسلم كلما اغتنمت الأعمار وكلما حفظ الليل والنهار.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون اتقوا الله الذي (لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة: من الآية255].
ملأ الحياة بالعبر والمواعظ ففتح بها قلوباً غلفاً وأعيناً عمياً وآذاناً صماً، وهدى بها إلى الصراط المستقيم وحفظ بها من طريق أهل الجحيم، وهذا يدل على أننا مطالبون بالاعتبار لنكون من أولي الأيدي والأبصار، وعند الله من المصطفين الأخيار، نعتبر بالثواب على الطاعة وبالعقاب بالمعصية، ونعتبر بنجاة المؤمنين وبهلاك الكافرين، ونعتبر بالمواعظ اليومية في الصباح والمساء، والمواعظ الأسبوعية والشهرية والسنوية، ولأهمية الاعتبار أمرنا الله تعالى به فقال:(فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ) [الحشر: من الآية2]، وأمرنا الله وأمرُ الله إذا جاء لا يعصى بل يجب الانقياد والاستسلام لأن الإيمان لا يتحقق إلا بالامتثال، يقول تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة:285]، ويقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) [الأحزاب:36].
ولأهمية الاعتبار أنزل الله القرآن للتدبر والتفكر والاعتبار، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) [صّ:29]، وذكرنا فيه بقصص السابقين لنأخذ منها عبرة، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ) [يوسف: من الآية111].
وبالاعتبار يحيا الإنسان حياة كاملة لأنه يسدُّ خللها ويجبر كسرها ويكمل نقصها، فإذا نسي الإنسان فليس للنسيان علاج إلا التذكير بالاعتبار، يقول تعالى: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) [الذاريات:55]، وكان صلى الله عليه وسلم يتخول أصحابه بالموعظة ما بين الحين والحين.
وبالاعتبار تكون الآخرة هم الإنسان فيعمل لها وكأنها يراها رأي العين فيجمع الله شمله ويجعل غناه في قلبه وتأتيه الدنيا وهي راغمة، يقول الله تعالى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) [الشورى:20]، ويقول: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً) [الإسراء:18]، (وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) [الإسراء:19]، ويقول صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة".
ويذكر عن إبراهيم بن أدهم أنه صلى العشاء يوماً من الأيام فراقبه رجل يريد أن يعرف قيامه وتعامله مع ليله، فوضع إبراهيم جنبه على فراشه ولم ينقلب طوال ليله ولم يقم حتى أذن للفجر، فقام من فراشه وذهب للمسجد بلا وضوء، فقال له الرجل الذي يراقبه: يرحمك الله يا أبا إسحاق راقبتُك البارحة لأعرف قيامك من الليل فوجدتُك نائماً طوال الليل وذهبت إلى الفجر بلا وضوء! قال: والله لولا أن تسيء بي الظن ما أخبرتك، اعلم أنني لما وضعتُ جنبي على الفراش تذكرتُ الجنة والنار، فكنتُ أفكر في النار مرة وفي الجنة مرة حتى طلع الفجر، فلم أنم وصليتُ بوضوء العشاء.
ورأى عمر بن عبد العزيز شاباً قد نحل جسمه واصفر لونه فقال له: ما الذي أصابك؟ قال: اعفني يا أمير المؤمنين. قال: عزمتُ عليك أن تخبرني. قال: يا أمير المؤمنين أصبحت وقد عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأتُ نهاري بالصيام وأسهرت ليلي بالقيام وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً وكأني أنظر إلى أهل الجنة وهم يتزاورون وإلى أهل النار وهم فيها يتعاوون.
وأهل الاعتبار في القرآن هم الذين اتصفوا بثلاث صفات: الصفة الأولى الخشية، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى) [النازعـات:26] وأهل الخشية هم الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة وهم من الساعة مشفقون، وهم خير البرية، وهم العلماء العاملون قلوبهم وجلة وجلودهم مقشعرة وعيونهم تذرف بالدمع.
يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) [البينة:7-8] والصفة الثانية العقل، قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ) [يوسف: من الآية111].
وأهل العقول هم أولو الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، وهم أهل القلوب الذين يتذكرون ويتعظون، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [قّ:37].
وأهل العقول هم الذين يعقلون الحق فيتبعوه وينعقلون عن الباطل فيجتنبوه.
ولأهمية العقل جعله الله شرطاً في جميع العبادات البدنية، بل وجعل التكليف مناطاً به والكتابة متعلقة به، وميّز به الإنسان عن الحيوان والصغار عن الكبار.
والصفة الثالثة: البصيرة في القلب والعين، يقول الله تعالى: (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ) [آل عمران: من الآية13].
وأهل البصيرة هم الذين رزقهم الله نوراً في قلوبهم يبصرون به ما لا يبصرون بعيونهم (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ) [النور: من الآية40]. وهم الذين رزقهم الله لذة في العبادات، يقول قائلهم: لو نشرت بالمناشير وقرضت بالمقاريض ما تركتُ هذه العبادة، ويقول قائلهم: ما تلذذ المتلذذون بمثل طاعة الله، وهم الذين رزقهم الله نصراً على الشيطان يفرُّ من ظلَّهم قبل أن يرى أشخاصهم.
وإن مما ينبغي الاعتبار به مرور الأعمار ونقصها ورحيل أيامها ودنو آجالها وخسارة الكثير من الناس لها، وأيام العمر خلفة يخلف بعضها بعضاً، نهارها يخلف ليلها وليلها يخلف نهارها لحكمتين؛ الحكمة الأولى التذكير الذي يحتاج إلى سلامة القلب وسلامة اللسان وسلامة الجوارح، ويحتاج إلى قلوب يفقهون بها وإلى أعين يبصرون بها وإلى آذان يسمعون بها، يذكر الإنسان زوال الليل بظلامه ورحيل النهار بضيائه، يتذكر حقيقة الدنيا التي ذكرها الله في معرض الذم وسماها دنيا لدناءتها وحقارتها، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء، وهي أهون عنده من الميتة عند أهلها، ورصفها باللهو واللعب والزينة والتفاخر والتكاثر، وبين أنها غرور وأنها متاع، وهي كأرض نزل عليها الغيث فاخضرت ثم اصفرت ثم يبست ثم تكسرت ثم تفتتت ثم سلطت عليها تفرقها في كل مكان، قال تعالى: (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: من الآية33].
وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الدنيا حلوة خضرة وإنّ الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء"، ويقول: "الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالماً أو متعلماً".
وليست الدنيا في الآخرة إلا قليل، ومما يروى أنّ نوحاً عليه السلام سئل عن الدنيا بعد عمر يزيد على ألف عام فقال: وجدتها كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر.
وأما الحكمة الثانية فالشكر، نشكر الله تعالى الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، وجعلنا من بني آدم الذين كرمهم وحملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات وفضلهم على كثير ممن خلق تفضيلاً، ونشكره يوم أن هدانا للإسلام وهو أعظم نعمة أنعم الله بها علينا، قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة:6] وقال: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلامَ دِيناً) [المائدة: من الآية3] ، ونشكره يوم أطال العمر وأحسن العمل، يقول صلى الله عليه وسلم: "خير الناس من طال عمره وحسن علمه" يقول أبو الدرداء عن حياة الشكر: "لولا ثلاث ما أحببتُ العيش أبداً: الظمأ لله في الهواجر، والسهر لله في الليل، ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر". ويبكي معاذ عند مفارقته لحياة الشكر ويقول: "لا أبكي على الأموال والأولاد ولا على الأنهار والأشجار، ولكن أبكي على أربع: أبكي على فراق قيام الليل فمن يقوم عني! وأبكي على صيام النهار، وأبكي على مفارقة الصالحين، وأبكي على مجالس الذكر".
وأهل الشكر قليل، يقول تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سـبأ: من الآية13]، وقد تكفل الله لأهل الشكر بكرامات منها الرضوان والزيادة وبيوت الحمد في الجنة، يقول الله تعالى عن هاتين الحكمتين: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً) [الفرقان:62].
واعلموا عباد الله أن أيام العمر هي المراحل التي نقطعها إلى الدار الآخرة، فنحن كل يوم مسافرون إلى الآخرة، كل يوم يقربنا إلى القبور ويبعدنا عن القصور، نودع كل يوم الدنيا ونخلفها وراءنا ونستقبل الآخرة فهي أمامنا، ولكن الحال أننا جعلنا الآخرة خلفنا والدنيا أمامنا، وهذا من الانتكاسة والتعاسة، هذه المراحل نعلم كم معنا منها ولا نعلم كم بقي منها، وليس المهم أن نعلم كم بقي ولكن المهم أن نستعد بالعمل الصالح.
جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: متى القيامة؟ قال: "وما أعددت لها؟" قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام، إلا أني أحب الله ورسوله، قال: "أنت مع من تحب". ويقول علي رضي الله عنه: "إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة وإنّ الآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب بلا عمل".
أيام العمر خزائن الأعمال فانظروا ما الذي وضعتم فيها: الدعاء والاستغفار أم وضعتم أذكار المساء وصلاة المغرب وحلقات الذكر وصلاة العشاء وقيام الليل أم وضعتم اللهو واللعب والقيل والقال والسهر على الشاشات المحرمة والأغاني الماجنة والجلوس في الطرقات أو المقاهي أو الملاهي. وانظروا ما الذي وضعتم في خزانة النهار هل صلاة الفجر في المسجد وأذكار الصباح وصلاة الضحى وصلاة الظهر والعصر في المسجد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله تعالى وبذل المعروف وأداء حقوق المسلمين، أم وضعتم النوم والكسل وخبث النفس وأكل الحرام ومصاحبة الأشرار ونحو ذلك، واعلموا أنّ هذه الخزانة ستفك يوم القيامة ويجد منها العبد كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ويطلع على عمله، فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، قال أبو بكر لعمر: "واعلم أن لله عملاً بالليل لا يقبل بالنهار وأن لله عملاً بالنهار لا يقبله بالليل، وأن الله لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة" ، وقال عمر بن عبد العزيز: " الليل والنهار خزانتان فانظر ما الذي تضع فيهما" .
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية :
إن الحمد لله نحمد ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك طريقه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيام العمر أيام معظمة عظمها الله تعالى فأقسم بها، ولا يقسم إلا بعظيم، قال تعالى: (وَالْعَصْرِ) [العصر:1] ، أي الزمن وقال: (وَالْفَجْرِ) [الفجر:1] وقال: (وَالضُّحَى) [الضحى:1] وقال: (وَاللَّيْلِ) [المدثر: من الآية33]، وقال: (وَالنَّهَارِ ) [البقرة: من الآية164]، وجعلها أيام العمل فلا عمل قبلها ولا عمل بعدها، فمن لم يستثمرها خسر خسراناً مبيناً.
وهي أيام إنزال الكتب، فما أنزل كتاب إلا فيها، وهي أيام إرسال الرسل، وهي أيام المجاهدة التي يجاهد فيها الإنسان نفسه وشيطانه وعدوه، فأكرم بها من أيام تجمع الفضائل كلها.
وهي أيام الغنيمة يغنم فيها الإنسان حياته قبل موته، لأن الحياة عمل والموت جزاء، الحياة مزرعة والموت ثمرة، والدنيا غربة وسفر والآخرة إقامة وطمأنينة، يقول صلى الله عليه وسلم لابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".
وقال ابن مسعود: "ما ندمتُ على شيء كندمي على يوم مضى من عمري ولم يزد عملي" . وقال أحد السلف: "من كان يومه كأمسه فهو المغبون، ومن كان يومه أحسن من أمسه فهو المغبوط".
ومن لم يغتنم حياته ندم في موضعين؛ الموضع الأول: عند الموت يقول: (رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المنافقون:10-11].
والموضع الثاني: في الآخرة قال تعالى: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر:37].
ويغتنم شبابه قبل هرمه فإن الشباب قوة وفتوة وجهاد وانتصار على النفس وعلى الأهواء وعلى الشهوات، وهو ثوب يبلى في الدنيا.
ويغتنم صحته قبل سقمه فبالصحة يصوم ويصلي ويقوم الليل ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويجاهد ويتعلَّم ويعلّم.
ويغتنم الغنى قبل الفقر ينفس عن الآخرين وييسر عليهم وينال البر ويفتح أبواب الخير، يطهر النفس والمال.
ويغتنم الفراغ قبل الشغل فإنه يستطيع اليوم محاسبة نفسه وغداً غيره يحاسبه، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا.
يقول صلى الله عليه وسلم: "اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وشبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك". ومن اغتم هذه الخمس كافأه الله بأربع مكافآت: الحياة الأبدية التي لا تموت بعدها، والشباب الأبدي، والصحة الأبدية، والنعيم الأبدي.
ففي الحديث: "ينادي منادٍ أهل الجنة: إنّ لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإنّ لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإنّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً".
أيام العمر نعمة من نعم الله يغبن فيها كثير من الناس لأنهم يبذرون في أيامها ويبذرون في أعمالها، والمبذرون إخوان الشياطين يسرفون في إضاعتها وعدم إشغالها بالطاعة، والله لا يحب المسرفين. والواجب أن نحفظ النعمة، قال صلى الله عليه وسلم: "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ".
أيام العمر ما مضى منها لا يعود إلى يوم القيامة، تطوى أيامه وتطوى صحفه، ويراها الإنسان يوم القيامة حلوها ومرّها. يقول الحسن البصري: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي ويقول: يا ابن آدم أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فاغتنمني بعمل صالح فإني لن أعود إلى يوم القيامة".
أيام العمر سريعة في الانقضاء، يقول صلى الله عليه وسلم: "لن تقوم الساعة حتى يتقارب الزمان: السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة والساعة كاحتراق السعفة".
أيام العمر أغلى من الذهب والفضة لأن الإنسان يجد العوض في الذهب والفضة ولا يجد العوض في الأيام. قال أبو سعيد البصري: "أدركتُ أقواماً يحافظون على أوقاتهم أشد من محافظتهم على الدرهم والدينار".
ولشدة محافظة السلف على أوقاتهم واستثمارها، كانوا يقللون من فضول الكلام ومن فضول النظر ومن فضول السمع ومن فضول الأكل ومن فضول الصحة ومن فضول النوم، حتى قال قائلهم: لو قيل بأن القيامة يوم غدٍ ما وجدت للعمل الصالح مزيداً، فاعتبروا يا أولي الألباب.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي