ما أحوج الأمة المسلمة وهي تشهد تسلط القوى الجبارة على المسلمين إلى مزيد من الثبات على الحق! والتمسك بأهداب الدين القويم، والعمل بأحكام الشريعة في الشؤون كلها، صغيرها وكبيرها، والاجتماع على الكتاب والسنة قولاً وعملاً، والاعتصام بالله وحده، والتوكل عليه، فهذا هو المخرج الوحيد من هذه الأزمة الخانقة، وفيه النجاة للأفراد والجماعات في الدنيا والآخرة ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: إذا اشتدت المحن، وعظمت المصائب، وزادت الفتنة في الدين؛ تزعزعت القلوب، واهتزت القناعات، وكثر المتساقطون في الباطل، وقل التثبت على الحق.
وقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- عن فتن تزيغ فيها القلوب، وتحارُ العقول، يصبحُ فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل.
لربما باع دينه بسلامة نفسه مما يتوهمه خطراً، أو باعه ببقاء ماله أو جاهه أو ولده، وكل ذلك من عرض الدنيا قليل، ولربما باعه بما هو أقل من ذلك ثمناً، أو باعه بلا ثمن، فخسر الآخرة، ولا ربح من الدنيا شيئاً، نسأل الله العافية.
ومن أهم ما يجب على المسلم العناية في أحوال المحن سلامةُ قلبِهِ من الفتن، وثباته على الحق المبين؛ وذلك لا يكون إلا بولاء العبد لله تعالى، ولدينه، ولأوليائه المؤمنين، لا يحابي في ذلك قوياً لقوته؛ لعلمه أن الله تعالى أقوى، فكان الولاء له وحده أوجب؛ ولا يجامل قريباً لقرابته، أو صديقاً لصداقته؛ لأنهم لن يُنَجُّوه من عذاب الله تعالى شيئاً.
لا يقبل المساومة على دينه، ولا يتنازل عن شيء من شريعة ربه، مهما كلف الأمر، وإذا جاء من ينازعُه في ذلك جاهَدَه بقلبه ولسانه ويده؛ حتى يدفع شره، ويزيل خطره، مستعيناً بالله تعالى، متوكلاً عليه.
ما أحوج الأمة المسلمة وهي تشهد تسلط القوى الجبارة على المسلمين إلى مزيد من الثبات على الحق! والتمسك بأهداب الدين القويم، والعمل بأحكام الشريعة في الشؤون كلها، صغيرها وكبيرها، والاجتماع على الكتاب والسنة قولاً وعملاً، والاعتصام بالله وحده، والتوكل عليه، فهذا هو المخرج الوحيد من هذه الأزمة الخانقة، وفيه النجاة للأفراد والجماعات في الدنيا والآخرة.
إن التوكل على الله تعالى، والاعتصام به وحده ،كان هو الملجأ الذي لجأ إليه المرسلون -عليهم السلام- من بطش الجبابرة والمستكبرين، وأنْعِمْ به من ملجأ! فالله تعالى نِعم المولى! ونعم النصير!.
هذا نوح -عليه السلام- لما كذبه قومه وآذوا أتباعه يخاطبهم معلناً توكله على الله تعالى فيقول: (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ) [يونس:71].
وهكذا فعل قوم هود -عليه السلام- به فأذوه، واتهموه بالجنون، فتبرأ منهم ومن شركهم، وأعلن توكله على الله تعالى: (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود:55-56].
وقال شعيب ومَن آمن معه للمكذبين من قومهم: (وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف:89].
ولما طغى فرعون على موسى ومن آمن معه من بني إسرائيل، أمرهم موسى -عليه السلام- بالتوكل على الله تعالى؛ ليكونوا قادرين على مواجهة هذا الطغيان العظيم، والصبر على العذاب المهين، (وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [يونس:84-86].
وظل موسى -عليه السلام- وهو من أولي العزم من الرسل حتى اللحظة الأخيرة واثقاً بوعد ربه، متوكلاً عليه، مفوضاً أمره إليه. طارَدَه فرعون وجنده حتى حصرهم البحر فكان أمامهم، وعدوُّهم من ورائهم؛ فأيقن أتباع موسى الهلاك، والوقوع في أيدي فرعون وجنده، إلا أن يقين موسى بربه تبارك وتعالى كان أقوى، وتوكله عليه كان أعظم: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء:61-62].
ثباتٌ عجيب، ويقين متين بالله تعالى في اللحظة الحاسمة، التي تضطرب فيها القلوب، وتضعف النفوس، وتخور العزائم؛ فكان حبل الله تعالى إلى موسى والمؤمنين أقرب من فرعون وجنده، ومدده إليهم أسرع، وكانت المعجزة العجيبة، (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [الشعراء:63-66]. إنها قدرة القادر القاهر سبحانه وتعالى، الذي أهلك الظالمين، وأنجى موسى ومن معه من المؤمنين. (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الشعراء:67-68].
والخليلان إبراهيم ومحمد -عليهما الصلاة والسلام- لاذا بحمى الله تعالى، وتوكلا عليه في أحرج الساعات، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "حسبنا الله ونعم الوكيل، قالها إبراهيم -عليه السلام- حين ألقي في النار، وقالها محمد -صلى الله عليه وسلم- حين قالوا: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) [آل عمران:173] رواه البخاري.
ويعقوب -عليه السلام- لما فقد ولده، وأُخِذ منه الآخر وهو مشفق عليه، عزا ذلك إلى قدر الله تعالى وحُكمهُ وحِكمته، وأعلن توكله على الله فقال: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ) [يوسف:67].
ومن صور توكل النبي -صلى الله عليه وسلم- ويقينه بالله تعالى أنه غزا غزاة، ونزل تحت شجرة فعلق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نومة فإذا رسول الله يدعونا، فجئناه، فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم، فاستيقظت وهو في يده صَلْتا، فقال لي: من يمنعك مني؟ قلت: الله" وفي رواية لمسلم: فقال لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أتخافني؟ قال: "لا". قال: من يمنعك مني. قال: "الله يمنعني منك" رواه الشيخان.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "وكأن الأعرابي لما شاهد ذلك الثبات العظيم، وعرف أنه حيل بينه وبين تحقق صدقه، وعلم أنه لا يصل إليه؛ فألقى السلاح، وأمكن من نفسه".
وجاء في رواية إسحاق: قال الأعرابي: من يمنعك مني؟ قال: "الله"، فدفع جبريل في صدره، فوقع السيف من يده، فأخذه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد. قال: قم فاذهب لشأنك. فلما ولى قال: أنت خيرٌ مني، ثم أسلم بعد.
ومن توكله -عليه الصلاة والسلام- أنه لما دخل الغار ومعه أبو بكر ليلة الهجرة، والمشركون يتبعونهم، قال أبو بكر -رضي الله عنه- من شدة خوفه على النبي -صلى الله عليه وسلم- مِن أن يدركه المشركون: لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرَنا! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما ظنك يا أبا بكر باثنين الله ثالثهما؟!" رواه الشيخان.
توكل على الله تعالى في مواجهة المنافقين ودسائسهم وأراجيفهم، (فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً) [النساء:81].
وتوكل على الله تعالى في مواجهة الكافرين، ومقابلة كثرة أعدادهم، وتنوع عتادهم، وشدة بأسهم بالثبات على الحق، والصبر في المعركة، والعلم بأن النصر من عند الهو تعالى، واليقين بأن المؤمن لا يخسر في معاركه مع المنافقين والكافرين شيئاً، وهو فائز فيها على كل حال، فإما نصر وإما شهادة، (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ * قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ) [التوبة:51-52].
إنها كفة راجحة لأهل الإيمان على أهل الكفر والنفاق، يثقون بالله تعالى، ويسألونه الفرج في محنهم، واليسر في عسرهم، والخلاص من كربهم، والثبات على دينهم، والنصر على أعدائهم، ومَن كان الله تعالى معه فلن يُهزم مهما كانت الأحوال والظروف، (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:160].
ولما كانت وقعة اليرموك، ورأى المسلمون كثرة العدو وقلتهم كتبوا إلى عمر -رضي الله عنه- يطلبون المدد قائلين: "إنه قد جاش إلينا الموت" فكتب إليهم عمر رضي الله عنه: "إنه قد جاءني كتابكم تستمدوني، وإني أدلكم على من هو أعزُّ نصراً، وأحضر جنداً: الله عزّ وجلَّ. فاستنصروه، فإن محمداً -صلى الله عليه وسلم- قد نُصر يوم بدر في أقل من عدتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني". قال عياض الأشعري: "فقاتلناهم فهزمناهم، وقتلناهم أربع فراسخ، وأصبنا أموالاً" رواه الإمام أحمد وابن حبان.
هكذا كان المسلمون في سالف عهدهم، متوكِّلين على الله تعالى، معتصمين به، قد فوضوا أمرهم إليه، مع جهدهم واجتهادهم في جهاد أعدائهم؛ فحقق الله تعالى على أيديهم من النصر والفتوح في ثمانين سنة ما عجز عن تحقيقه الرومان في ثمانمئة سنة، وكان لهم من العز والرفعة ما يعرفه القاصي والداني، أسأل الله تعالى أن يعيد للأمة عزها وأمجادها، وأن يدفع عنها شر أعدائهما، إنه سميع مجيب.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً * وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً * وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) [المزمل:8-11].
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله –عباد الله- وتوكلوا عليه، وفوِّضوا الأمر إليه، فالله تعالى كاف مَن توكل عليه (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [الطلاق:3].
أيها الناس: التوكل على الله تعالى سبب من أسباب إزالة الخوف، وطمأنينة القلب، وسكون النفس في أحوال الفتن والمحن، وهو سبب للثبات على الدين، والصدع بالحق؛ ذلك أن المتوكل على الله تعالى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وأن الناس لو اجتمعوا على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، وإن اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يضروه إلا بشيء قد كتبه الله عليه، كما صح ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " التوكل من أقوى الأسباب التي يدفع بها العبد ما لا يطيق من أذى الخلق وظلمهم وعدوانهم".
إن التوكل على الله تعالى دليلٌ على صحة الإيمان، وقوة اليقين، وخلو القلب إلا من الله تعالى، كما قال الإمام أحمد -رحمه الله تعالى-: "صدق المتوكل على الله -عز وجل- أن يتوكل على الله ولا يكون في قلبه أحد من الآدميين يطمع أن يجيئه بشيء". وقال سعيد بن جبير -رحمه الله-: "التوكل على الله جماع الإيمان".
إن معاني التوحيد، والعبودية لله تعالى بالقلب واللسان والجوارح، والسنن الربانية في البشر؛ كالنصر والتمكين للمؤمنين، وسوء عاقبة الظالمين، لا يدرك كثير من الناس حقيقتها ومعانيها، ولا تتجذر في قلوبهم إلا عند المواجهات الكبرى بين أهل الإيمان وأهل الكفر والنفاق؛ والسلاح الأقوى الذي يتسلح به المؤمن ولا يملكه غيرهم -مع إعداد العدة اللازمة- هو التوكل على الله تعالى؛ كما قالت الرسل لأقوامهم (وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) [إبراهيم:12].
وتوكلهم على الله تعالى يقتضي عدم ركونهم إلى الذين ظلموا، أو إرضائهم بالتنازل عن شيء من دينهم، مهما كان ضغط أهل الباطل، وشدة أذاهم للمؤمنين؛ والأمة المسلمة في هذا العصر بأفرادها وجماعاتها ودولها، في أمس الحاجة إلى فهم هذه المعاني العظيمة، وعدم التفريط في الأصول، لتحقيق ما يُظَن أنه مكاسب، وهو خسارة في واقع الأمر.
إن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يواجهون عوداً شرساً، وأعداءً آخرين متربصين، ومنافقين قد أعلنوا نفاقهم صراحة، وبدأوا بخلخلة المجتمعات المسلمة من داخلها، مطالبين المسلمين بالتخلي عن دينهم، واطِّراح شريعة ربهم، ظناً منهم أن الكفر منتصر لا محالة، وأن الإسلام الحق سيقضى عليه؛ ليستبدل بإسلام آخر يحاولون إقناع الأمة به، يصدق عليه أن يسمى "إسلاماً ليبرالياً"، ليس فيه أمر بمعروف، ولا نهي عن منكر، ولا جهاد في سبيل الله تعالى، ولا واجبات تفرض، ولا محرماتٌ ينهى عنها.
لقد غرتهم قوة الكافرين، وشدة تسلطهم على المسلمين، وما يستطيعونه من إشعال حروب إلكترونية، وما يملكونه من قوة نووية، وهذا هو ظن الجاهلين الذين قال الله تعالى فيهم: (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) [آل عمران:154]، وظنهم هو هلاك الإسلام وأهله؛ كما قال تعالى في الآية الأخرى: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) [الفتح:12].
ولكن الله تعالى بحكمته ورحمته مُبْقٍ لهم ما يسوؤهم ببقاء الإسلام وأهله، وعجز الكافرين عن القضاء عليه بالكلية، فلا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله تعالى وهم على ذلك، كما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
وحال منافقي هذا العصر هو حال سالفيهم في عصر النبوة؛ فإنهم لما رأوا الأحزاب قد تحزبت، ويهوداً قد نقضت عهدها، أظهروا نفاقهم، وخذَّلوا في المسلمين، وأرجفوا وقالوا: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) [الأحزاب:12]، بلا خلاف الطائفة المؤمنة فإنهم لما رأوا تجمع الجموع عليهم قالوا: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً) [الأحزاب:22].
ونحن نقول في هذا العصر الذي تكالب فيه الكفر مع النفاق على أهل الحق والإيمان كما قال أسلافنا: هذا ما وعدنا الله ورسوله، وصدق الله ورسوله، ونسأل الله أن يزيدنا إيماناً وتسليماً، وثباتاً ويقيناً.
فأبشِروا -يا عباد الله- وأمِّلوا، وأحسنوا الظن بربكم، واستسلموا له، وأخلصوا له الدين، وتوكلوا عليه، واعتصموا به، وفوضوا الأمر إليه؛ فإنه مالك الملك، والمتصرف في الخلق، (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم:4-6].
ألا وصلُّوا وسلِّموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي