إن الأحقاد والضغائن وطغيان المآرب الشخصيةأدواءٌ خطيرة، وأمراض فتاكة، إذا فشت في الأمة كانت نذير هلاكها، وإذا دبت في جماعة كانت سبيل فنائها، إنها مصدر كل عداء، ومنبع كل شقاء.
الحمد لله نعمُه لا تُعدُّ، وإحسانه لا يُحدُّ، أحمده سبحانه وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، إليه المستندُ وعليه المعتمدُ، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوثُ للأحمر والأسود، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه القدوةِ في سلامة الصدور وطهارة القلوب والخُلُقِ الأمجدِ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعدُ:
فاتقوا الله أيها المسلمون، وأصلحوا ذات بينكم، وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين.
معاشر الإخوة: أمةُ الإسلام في بنائها تقوم بعد –الإيمان بالله- على عواطف الحب المشترك، والود الصافي، والبعد عن الحقد الكنود: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى".
أمةُ الإسلام موصوفةٌ في كتاب ربها من بعد سلفها الأخيار من المهاجرين والأنصار في قول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالأيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].
أيها الإخوة في الله: حين تعيش هذه الأمة معتصمة بكتاب ربها، مستمسكة بهدي نبيها محمد صلى الله عليه وسلم، تعيش سليمة قلوبها، مبرأة من وساوس الضغينة نفوسها، بعيدة عن ثوران الأحقاد صدورها. إذا رأت نعمة في بعض فئاتها أو في قطر من أقطارها سادها الرضا، وأحسَّتْ بفضل الله على إخوانها، واستشعرت فقر خلائق الله إلى الله وتمثل أفرادها بالذكر المحمدي: "اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك له فلك الحمد ولك الشكر" أخرجه أبو داود في سننه بإسناد جيد من حديث عبد الله بن غنام.
وإذا مسَّ طائفةً منها ضرٌ أو لحق بها أذى أصابها الإشفاق والحزن، وسألت ربها تفريج الكروب وغفران الذنوب، وتعلقت بالدعاء المأثور: "اللهم رضنا بقضائك، وبارك لنا فيما قدّر لنا حتى لا نحبَّ تعجيل ما أخرت ولا تأخير ما عجلت" أخرجه ابن السني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
تلك هي أمةُ الحق مع إخوانها وأصحابها في سرائها وضرائها، أما إذا غلبت الشهوات والحظوظ، وطغت الغفلة على البصائر، وصحب ذلك إعراض عن الله والدار الآخرة وتحكمت فيها السياسات والمقيتة، وصار التطلع عندها إلى المناصب والزعامات المجردة والمآرب الشخصية.. مرجت عندها الأمور، وحلت الحزازاتُ، وانتشرتْ الفرقة، وانتثرت أحزاباً وشيعاً، يذيق بعضها بأس بعض.
إن الأحقاد والضغائن وطغيان المآرب الشخصية –يا عباد الله- أدواءٌ خطيرة، وأمراض فتاكة، إذا فشت في الأمة كانت نذير هلاكها، وإذا دبت في جماعة كانت سبيل فنائها، إنها مصدر كل عداء، ومنبع كل شقاء، هي السلاح البتار الذي يضربُ بها الشيطان القلوب فيمزقها، والجماعات فيفرقها، تغرس الضغينة، وتُنبْتُ العداوة، و تولد النفور، وتفسد الود، وتقتلع المحبة، هادمة الدنيا، وحالقةُ الدين.
معاشر المسلمين: قد ييأس الشيطان من إيقاع المسلم في الشرك والوثنية، ولكنه لا يعجزُ عن إبعاده عن ربه بزرع أسباب النفرة في طويته حتى يكون أضل من الوثني المخرف.. وسيلته في ذلك إيقاد نيران العداوة في القلوب، حتى إذا اشتعلت استمتع علاقات الود بينها، وتدفن فضائلها، وتمحو محاسنها، وتجلب اليأس إلى قلوب أجيالها: "إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكنه لم ييأس في التحريش بينهم.." رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه.
وإذا تنافر الود وتمكن الشر عاد الناس إلى حال القسوة والعناد، يقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض.
وإن الإيمان ليتسرب من القلب الحقود كما يتسرب الماء من الإناء المثلوم.
ومن هنا –يا عباد الله- فإن الحقد والضغينة غليان شيطاني، و هياجٌ إبليسي. سبق به الشيطان الحاقدين حين أخذ على نفسه عهداً عند ربه (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:16-17].
إن من دلائل الصغار وخسة الطبع.. ترسب الغل في أعماق النفس؛ فلا يخرج منها بل يظل يموج في جوانبها كما يموج البركان المكتوم. وكثير من أصحاب القلوب الحاقدة لا يستريحون إلا إذا أرغوا وأزبدوا، وآذوا وأفسدوا، وتلذذوا بنشر المعايب، وانبلجتْ أساريرهم بإذاعة المثالب.
يقول علماؤنا رحمهم الله: "إن الغيظ إذا كظم لعجز صاحبه عن الانتقام والتشفي رجع إلى الباطن فاحتقن فصار حقداً، وعلامته دوام البغض والنفور. فالحقد ثمرةُ الغضب، والحسد من نتائج الحقد، والحقد أصلُ الشر، ومن أضمر الشر في قلبه أنبت له نباتاً مُرّ المذاق، نماؤه الغيظ، وثمرته الندم".
ولتعلموا رحمكم الله أن من لوازم الحقد ومظاهر الحسد، سوء الظن، وتتبع العورات، والهمز، واللمز، وتعيير الناس، وشيوع السباب، والتعرض أو التصريح بالمعايب النفسية والبدنية. وإن الحاقدين ليجدون في الغيبة متُنفساً لأحقادهم المكظومة وصدورهم الفقيرة إلى المحبة والود والصفاء.
يود الحاقد لو أصبح أهل النعم محرومين، ويتمنى لو باتوا ضائعين مشردين. إن لم ينطق ذلك بلسانه فلتعرفنه في لحن القول وشزر النظرات، إذا رأى في أخيه نعمة بهت، وإذا علم له عثرة شمت، لا ينقطع غمه، ولا يستريح قلبه، ولا تسكن ثائرته.. ساخط على ربه وعلى الناس، معذبُ النفس، منغص البال، دائم الهم.
ولعمرُ الله إن تلمس العيوب وإلصاقها بالناس دليل خبث الطوية ودناءة الهمة. وإن التلهي بسرد الفضائح وكشف الستور وإبداء السوءات من سيما الحاقدين وحيل العاجزين. وإن وسائل الإعلام في بعض بلاد المسلمين تحمل من هذا وزراً كبيراً، وإثماً عظيماً.
والطريق الصحيح والمسلك السوي –أيها الإخوة المسلمون- أن من سمع شيئاً من هذا فلا يوسع الخرق على الراقع. فرب كلمة شر تموت في مكانها لو تركت حيث قيلت، ولرب مقالة سوء أيقظت فتنة وسعرت حرباً، لأن غراً من الأغرار نقلها أو حاقداً سيء الطوية نفخ فيها؛ فأصبحت ناراً تنقل الويلات وتنشر الخطوب.
ولماذا كل هذا يا أمة محمدٍ؟ لماذا كل هذا يا أهل الإيمان؟ وقد قسم الله الأرزاق بين خلقه فوسع على أقوام، وقدر رزقه على آخرين، رفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، ورحمة ربك خيرٌ مما يجمعون. هو سبحانه البصير بخلقه، المحيط بشئون ملكه، وتلك سنته في الأولين والآخرين، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً.
وقد حاولت دولةٌ –عدت من عظمى دول هذا العصر- أن تخرج على سنة الله في قسمة الأرزاق، وتفاضل الأقوات؛ فكان مصيرها الفشل والضعف والتمزق هي و من يدور في فلكها (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) [النساء:53-55].
وورد في الخبر: "إن لنعم الله أعداءً. قيل ومن أولئك؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله".
وكلما ازدادت النعم كثر الحساد وازداد الناقمون، وقد يسهل أن ترضي الساخطين، إلا الحسود فلا يرضيه إلا زوال النعمة.
ولكن من لطف الله وحكمته أن المحسود محفوظ، لا يضره حسدُ الحاسدين، ونعمه باقية لا تزيلها ضغائن الحاقدين، والله واهب النعم وسالبها، وهو أحكمُ الحاكمين. ولو كانت النعم تزولُ بالحسد لما بقى في الدنيا محسودٌ لأن كل ذي نعمة محسود.
فاتقوا الله يرحمكم، واعرفوا نعمَ اللهِ عليكم، واشكروها وأصلحوا ذات بينكم، وتوجهَّوا إلى ربكم، واسألوه من فضله، وكونوا عباد الله إخواناً.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
(وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) [النساء:32].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي