البعث والنشور

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

عناصر الخطبة

  1. معنى البعث والنشور
  2. تأكيد القرآن على البعث ورده على منكريه
  3. شهادة البعث على كمال حكمة وقدرة الله
  4. كيفية البعث من الموت
  5. النفختان وما بينهما.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

تحدثنا فيما مضى عن حياة البرزخ، تلك الحياة ما بين الدنيا والآخرة، واليوم، إن شاء الله -تعالى-، نتحدث عن البعث والنشور. يقول -سبحانه-: ﴿حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)﴾ [المؤمنون:99-100].

فيوم يبعثون يوم عظيم، يوم موعود مشهود، قال -سبحانه-: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [البقرة:28]. فلا بد من الرجوع إليه -سبحانه-.

وبعث الخلق: اسم لإخراجهم من قبورهم إلى الموقف العظيم، ومنه قوله -تعالى-: (قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) [يس:52]، هذا هو معنى البعث.

أما النشور: فالنشر في اللغة يأتي بمعنى البسط والانتشار، أما البسط فمثل قوله -تعالى-: ﴿وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ﴾ [التكوير:10]، أي: فتحت بعد أن كانت مطوية، وأما مجيئه بمعنى الانتشار ففي قوله -تعالى-: ﴿وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا﴾ [الفرقان:47]، أي: جعل فيه الانتشار وابتغاء الرزق.

فالبعث إحياء وإخراج من القبر، والنشور اسم لظهور المبعوثين وظهور أعمالهم للخلائق، فتسري الحياة في الأموات من جديد، ويخرجون من قبورهم، ويساقون للموقف للحساب والجزاء؛ يقول -سبحانه-: ﴿ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ(22)﴾ [عبس:21-22].

معاشر الإخوة: البعث من بعد الموت مما تشدد الكفار في إنكاره؛ بل والسخرية به عبر العصور، فهؤلاء ثمود، قوم صالح -عليه السلام-، يستنكرون البعث قائلين: ﴿أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُم مُّخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37)﴾ [المؤمنون:35-37].

وقال -تعالى-: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ…(8)﴾ [سبأ:7-8]..

وقال -سبحانه-: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78)﴾ [يس:77-78]. وفي آية أخرى على لسان الكفار (أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَّخِرَةً) [النازعات:11].

وقال -سبحانه-: (وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا) [الإسراء:49]،  وقال -تعالى-: (أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ) [الصافات:16-17]؛ فكان رده -سبحانه- عليهم: ﴿قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ﴾ [الصافات:18]، أي: إنكم مبعوثون رغما عنكم وأنتم صاغرون.

بل إنهم أقسموا الأيمان المغلظة على ذلك! قال -تعالى-: ﴿وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ [النحل:38]،  قال: ﴿بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا﴾.

فالبعث وعد الله الحق، وهو لا يخلف الميعاد جل وعلا، قال -تعالى-: ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاء كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء:104].

وكان رده -تعالى- على قولهم: ﴿مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ﴾ أنْ أَمَر نبيه: ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(83)﴾ [يس:78-83].

وأمام صدهم وإنكارهم البعث أمر نبيه -صلى الله عليه وسلم- أن يقسم على وقوعه: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ﴾ [التغابن:7].

فالبعث بعث الموت مما أكد القرآن على وقوعه بشدة، ونهى عن الشك أو الريب فيه، حتى قال -تعالى- مذكرا بقدرته جل شأنه: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ(7)﴾ [الحج:5-7].

وقد أخبر الله -تعالى- أن البعث للحساب من كمال حكمته وعدله وقدرته، إذ يقول -سبحانه-: ﴿أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى(40)﴾ [القيامة:36-40]، سبحانك فبلى!.

فالبعث شاهد على كمال حكمته وعدله وقدرته، وأنه لم يخلق الإنسان بلا هدف ولا غاية، وأنه قادر على إحيائه ومحاسبته.

ولقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا قرأ هذه الآية: ﴿أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾ يقول: "سبحانك فبلى!".

بل بين -تعالى- سهولة ذلك عليه، وان الإحياء أهون من الخلق من العدم، إذ يقول -سبحانه وتعالى-: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾، وقال -تعالى-: (وَيَقُولُ الْإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا * أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا) [مريم:66-67]

صح في المسند من حديث أبي هريرة، عنه -صلى الله عليه وآله وسلم-، قال الله -تبارك وتعالى-: "كذبني ابن آدم! ولم يكن ينبغي له أن يكذبني، وشتمني ابن آدم، ولم يكن ينبغي له أن يشتمني؛ أما تكذيبه إياي فقوله إني لا أعيده كما بدأته، وليس آخر الخلق بأعز علي من أوله، وأما شتمه إياي فقوله اتخذ الله ولدا! وأنا الله الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوا أحد". إذا؛ هذا هو شأن الإحياء، "ليس آخر الخلق بأعز علي من أوله"…

ولبيان قدرته على إحياء الإنسان بعد الموت وإرجاعه دعا -سبحانه- إلى التفكر والنظر مرة أخرى في أصل خلقة الإنسان في قوله: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ(8)﴾ [الطارق:5-8].

وضرب المثل على إحيائه الموتى بإنزاله الغيث وإحياء الأرض بعد موتها، قال -جل وعلا-: ﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الروم:50].

وقال -سبحانه-: ﴿وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ [الزخرف:11].

وقال أيضا -سبحانه- ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت:39].

وقال -تعالى-: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف:57].

وقال -عز وجل-: ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ (10) رِزْقًا لِّلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ(11)﴾ [ق:9-11]. أي: كذلك نخرجكم من قبوركم.

بل جعل خلق السماوات والأرض دلالة على قدرته على إحياء الموتى، قال -سبحانه-: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأحقاف:33].

فشأن البعث من بعد الموت عظيم، له مساحة كبيرة في كتاب الله -تعالى-، وفي سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وهو جزء من الإيمان باليوم الآخر.

معاشر الإخوة: كيف سنبعث بعد الموت؟ في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن في الإنسان عظما لا تأكله الأرض أبداً فيه يركب يوم القيامة"، قالوا: أي عظم هو يا رسول الله؟ قال: " عجب الذنب".

وعنه -صلى الله عليه وسلم-: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق، وفيه يركب".

وعجب الذنب هو الجزء الصغير أو العُظَيْم اللطيف في أسفل العمود الفقري، وهو رأس العُصعص، قال الإمام النووي: "وهو أول ما يخلق من الآدمي، وهو الذي يبقى منه ليعاد تركيب الخلق عليه".

وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة في مراحل تكوين الجنين، فحتى اليوم الخامس عشر من عمر الجنين يكون الجنين عبارة عن قرص مكون من طبقتين لا يعرف يمينه من شماله ولا مقدمته من مؤخرته، لكن؛ في اليوم الخامس عشر يظهر في أحد حواف هذا القرص الجنيني وفي طبقته الظهرية أخدود طولي، هذا الأخدود يسمى الخيط الأولي، ونهايته المدببة تسمى العقدة الأولية، ويصبح القرص المتكون فيه الخيط الأولي جنينا واحدا في الطبقة الظهرية من هذا الخيط، وعقدته الأولية تكون جميع أعضاء الجنين، وبعد ذلك يضمحل هذا الخيط وعقدته ويصغر حجمه، ويتحرك راجعا إلى مؤخرة الجنين ليستقر هناك.

هذا الخيط الأولي وعقدته الأولية هما "عجب الذنب"، وعجب الذنب هذا من عجائب ما أودعه الله في جسم الإنسان، وجعله عاصيا لا يبلى، قام العلماء باختبار هذا الجزء من الإنسان وتعريضه لأقوى العوامل من إشعاعات وسحق وضغط وحرارة وغير ذلك؛ فتبين ثباته ومقاومته وحفاظه على تركيبه مهما كانت الظروف.

وهو بيان لعظمة البيان النبوي عن الحقيقة  العلمية الثابتة، إذ يقول -صلى الله عليه وسلم-: "كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب، منه خلق وفيه يركب".

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما بين النفختين أربعون"، قالوا: أربعون يوما؟ قال "أبيت"، أي: أبيت أن أجزم، قالوا: أربعون شهرا؟ قال: "أبيت"، قالوا: أربعون سنة؟ قال: "أبيت". قال -صلى الله عليه وسلم-: "ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل -يعني من قبورهم-، ليس من الإنسان إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب، ومنه يركب الخلق يوم القيامة".

قال: ما بين النفختين، فما هما النفختان؟ يقول -سبحانه-: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر:68].

فالنفخة الأولى هي نفخة الصعق للأحياء كي يموتوا، فبسماع هذه النفخة يموت كل من في السماوات والأرض إلا من شاء الله أن يبقيه.

في صحيح الترغيب عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- جاء أعرابي إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: ما الصور؟ قال: "قرن ينفخ فيه".

وقد أوكل الله -عز وجل- أمر النفخ في الصور لإسرافيل -عليه السلام-، وهو من الملائكة العظام، ومنذ أن أوكل بذلك وهو متهيئ للنفخ فيه، وكلما اقترب الزمان ازداد تهيؤه، وهي نفخة مفزعة، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "كيف أنعم، وقد التقم صاحب القرن القرن، وحنى جبهته، وأصغى سمعه؛ ينتظر أن يؤمر أن ينفخ فينفخ". قال المسلمون: فكيف نقول يا رسول الله؟: قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل! توكلنا على الله ربنا!" رواه الترمذي.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

وبعد: فبعد النفخة الأولى، نفخة الصعق، يُنزل الله -سبحانه وتعالى- مطرا بصفة معينة على عظام الموتى، فتتركب منه جميع الخلائق؛ استعدادا للنشور بأمر ربهم -سبحانه وتعالى-.

في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو، وفيه: "ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا"، والليت: صفحة العنق، وأصغى ليتا: أي: أمال صفحة عنقه كي يسمع واستغرق في سماع النفخة.

قال: "وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله -يصلح طين الحوض- قال: فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله مطرا كأنه الطل فتنبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون".

إذاً؛ فإنزال المطر لإنبات أجساد الموتى يكون بين النفختين، ولم تذكر المدة التي تستغرقها فترة الإنبات هذه.

أما النفخة الثانية فهي نفخة البعث، قال -تعالى-: ﴿ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ﴾ [الزمر:68]، وقال -تعالى-: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ﴾ [يس:51].

وللحديث حول النشور بقية إن شاء الله.

اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها…


تم تحميل المحتوى من موقع