الأخلاق ودورها في بناء الأمة (5) العفو والصفح

عمر القزابري

عناصر الخطبة

  1. تعريف العفو وفضله
  2. الحلم وسعة الصدر خلق الكبار
  3. معاملة المسيء بين الجاهلية والإسلام
  4. فضل كظم الغيض والنهي عن السب واللعن

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102].

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء: 1].

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب: 70-71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

معاشر الصالحين: الوحي غيث القلوب، والقلوب أوعية، وأحسن القلوب قلب قبل وحي الله؛ حتى إذا نزلت أمطار الوحي على أرضه اهتزت وربت، وانبتت من كل خلق كريم، وتلك قلوب الأبرار الذين اصطفاهم الله وأرادهم له وجعلهم مهيأين لتقبل رسالته، والتأثر بمواعظه؛ فطوبى لأصحاب هذه القلوب، طوبى لهم قربهم من ربهم وخضوعهم له، وامتثالهم لأمره.

أما القلب القاسي فإنه بعيد من الله لا تنفع فيه المواعظ ولا تهزه المثولات، قال – تعالى -: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ﴾ [الزمر:22].

وإن أهل البشارة من الله هم أهل الاستماع والانتفاع لا أهل الغفلة والانشغال، قال ذو الجلال: (فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ) [الزمر:17-18].

نسأل الله أن يجعلنا منهم.

ونواصل رحلة البحث عن الأخلاق الكريمة هروبا من القحط إلى منابع الماء، ومواقع القطر، خصوصا مع كثرة أمراض العصر، والتي تشكل مساوئ الأخلاق أبرز سماتها، وأكثر مظاهرها.

ففي أزمنة الانفراط تكثر الحاجة إلى الانضباط، والانضباط يتحقق بأمرين: الامتثال للشرع، أو الخوف من الردع، والأرقى والأنقى، والأبقى والأتقى؛ أن يكون عبر الامتثال للشرع؛ لأن الدخول على الله من باب الاختيار أبقى من الدخول عليه من باب الاغترار، وتلكم رسالة الدين وضرورته سوق الناس إلى سواء الصراط بالحب وبالإقناع لا بالسياط، وتنقية القلوب والضمائر بالآيات والبصائر والبشائر، لا بالسيوف والخناجر.

والخلق المختار اليوم للتحدث عنه خلق جميل كريم، خلق لو ساد بين الناس لحسنت أحوالهم، ولتحققت أخوتهم، ولما وقف أمامهم عدوهم، إنه "العفو والصفح والتجاوز" عن أخطاء الآخرين.

وأصل العفو في اللغة -كما يقول ابن الأثير-: "هو المحو والطمس" ومنه حديث أم سلمة – رضي الله عنها – قالت: "قلت لعثمان: لا تُعْفِ سبيلا كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَحَبَهَا"، الشاهد عندنا "لا تعف" أي لا تطمس.

قال الإمام الغزالي – رحمه الله – "والعفو صفة من صفات الله – تعالى -، وهو الذي يمحو السيئات ويتجاوز عن المعاصي، وهو قريب من الغفور، ولكنه أبلغ منه، فإن الغفران ينبئ عن الستر والعفو ينبئ عن المحْوِ، والمحو أبلغ من الستر".

أما في الاصطلاح فيقول الإمام الكفوي: "كف الضرر مع القدرة عليه، وكل من استحق عقوبة فتركها فهذا الترك عفو".

يقول ربنا: ﴿وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ(134)﴾ [آل عمران:133-134].

ويقول -سبحانه-: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾ [آل عمران:159].

ويقول -سبحانه-: ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة:13].

ويقول -سبحانه-: (وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [النور: 22].

أيها الأحباب الكرام: مع تسارع إيقاع الحياة، وكثرة الاختلاط بين الناس، ومع صعوبة متطلبات العيش، ومع بُعد الناس عن دينهم، ومع كثرة المعاملات بين الناس تكثر النزاعات والخصومات، وتتطاير الكلمات الجارحة والمواقف المؤذية، والحركات المستفزة، والناس تتفاوت درجات الناس في الثبات أمام المثيرات؛ فمنهم من تستخفه التوافه، فيستحمق على عجل، ومنهم من تستفزه الشدائد فيبقى على وقعها الأليم محتفظاً برجاحة فكره، وسجاحة خلقه.

ومن المعلوم أن للطباع دخلاً كبيراً في أنصبة الناس من الحدة والهدوء، والعجلة والأناة، والكدر والصفاء، ولكن الرجل العظيم حقاً هو الذي كلما حلق في آفاق الكمال اتسع صدره، وامتد حلمه، وعذر الناس من أنفسهم، والتمس المبررات لأغلاطهم، فإذا عدا عليه غِرٌّ يريد تجريحه نظر إليه من قمته كما ينظر الكبير إلى صبيان يعبثون في الطريق، وقد يرمونه بالأحجار، فلا يبالي بهم.

إن الكبار يرون أن الإهانات تسقط على قاذفها قبل أن تصل إلى مرماها البعيد، وهذا المعنى يفسر لنا حلم نبي الله هود – عليه السلام – وهو يستمع إلى إجابة قومه بعدما أن دعاهم إلى توحيد الله، قالوا: ﴿إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [الأعراف:66].

لم يرد عليهم شتمهم كأن يقول لهم: بل أنتم السفهاء، ولكنه اكتفى بنفي السفاهة عنه، وتوضيح أن مراده هو سلامتهم ونجاتهم: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ(62)﴾ [الأعراف:61-62].

إن شتائم هؤلاء الجهال لم يطش لها حلم نبي الله هود – عليه السلام -؛ لأن الشقة بعيدة بين رجل اصطفاه الله رسولا، فهو في الدآبة من الخير والبر، وبين قوم سفهوا أنفسهم، وتهاووا على عبادة الأحجار كيف يضيق المعلم بهرف هذه القطعان.

وقد أراد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يعلم أصحابه هذا الدرس في الأناة، وضبط النفس، فروي أن أعرابي جاء يطلب منه شيئا فأعطاه، ثم قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أحسنت إليك؟" قال الأعرابي: لا ولا أجمل، فغضب المسلمون، وقاموا إليه، فأشار إليهم أن كفوا، ثم قام ودخل منزله، فأرسل إليه وزاده شيئا، ثم قال له: "أحسنت إليك؟" قال: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنك قلت ما قلت آنفا، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك" قال: نعم.

فلما كان الغداة، جاء الأعرابي إلى مسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه-، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "إن هذا الأعرابي قال ما قال، فزدناه فزعم أنه قد رضى أكذالك؟" وتوجه إلى الأعرابي بالنظر، فقال الأعرابي: نعم فجزاك الله من الأهل والعشيرة خيرا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن مثلي ومثل هذا الأعرابي؛ كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه، فتبعها الناس فلم يزدها إلا نفورا، فناداهم صاحب الناقة: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها وأعلم، فتوجه لها حتى جاءت فاستناخت وشد عليها رحلها، واستوى عليها، ولو أني تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار".

إن الرسول الحليم -صلوات ربي وسلامه عليه- لم تأخذه الدهشة والاستغراب لجحود الأعرابي أول الأمر، عرف فيه طبيعة صنف من الناس، مرض على الجفوة في التعبير، والإسراع في الشر، وأمثال هؤلاء لو عولجوا بالعقوبة، لقضت عليهم ولهلكتهم ولنفرتهم، ولكن العظماء أصحاب القلوب الكبيرة، لا ينتهون بمصائر العامة إلى هذا الختام الأليم، إنهم يفيضون من رحمتهم وحلمهم على ذوي النزق، حتى يلجئونهم إلى الخير إلجاءً، ويطلقوا ألسنتهم بالخير شكرا وثناءً.

والمحفوظ من سيرته -صلى الله عليه وسلم- أنه ما انتقم لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم لله بها، ولما قال له أعرابي جلف غير مؤدب: اعدل فإنها قسمة ما أريد بها وجه الله! لم يزد -صلى الله عليه وسلم- في جوابه أن بين له ما جهله ووعظ نفسه، وذكرها بما قال لها، فقال: "ويحك فمن يعدل إن لم أعدل خبت وخسرت إن لم أعدل" ونهى أصحابه أن يقتلوه حين هم بعضهم بذلك.

إنك -أيها العبد- معرض في حياتك لمواقف شتى من حقد الحاقدين، ومكر الماكرين، ولن تعدم أبدا متكلما فيك بما فيك وبما ليس فيك، ومتربصا بك يراقب ذلتك، وطامعا فيك، وكاذبا ومتهما وناكرا للمعروف، وجحود وكذوب، وصاحب مصلحة.

ولو جلست ترد على كل واحد وتنتصر لنفسك من كل هذه الأصناف وغيرهم لأضعت عمرك ولفاتك خير كثير ولما وصلت إلى غايتك.

فالحاسد -مثلا- لن تسلم من شره إن واجهته أو حاولت الانتصار لنفسك منه؛ إذ هو لا يرضيه أبداً إلا هلاكك وانتحارك وبوارك، ولله در القائل:

أَعطَيتُ كُلَّ الناسِ مِن نَفسي الرِضا *** إِلّا الحَسودَ فَإِنَّهُ أَعياني

لا أَنَّ لي ذَنباً لَدَيهِ عَلِمتُه *** إِلّا تَظاهُرَ نِعمَةِ الرَحمَنِ

ما إِن أَرى يُرضيهِ إِلّا ذِلَّتي *** وَذَهابُ أَموالي وَقَطعُ لِساني

فهذه الأصناف لا تواجه إلا بالصبر والصفح الجميل، والإعراض عن جهل الجاهلين، بل والإحسان إليهم كلما سنحت الفرصة، قال تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)﴾ [فصلت:34-35].

إن الحرص على الانتصار للنفس، وتقديس الذات، وعدم السماح بالخطأ في حقك، ومحاولتك وخز كل من أساء إليك، والرد عليه، بما هو أشد وأقصى وأنكى؛ كلها مؤشرات على وجود الجاهلية فيك، وجريان آثارها في عروقك.

ليس من رد أعظم من أن تطيع الله فيمن عصاه فيك، وأن تحلم عمن أساء إليك، قال –تعالى- مثنيا على الصفوة من عباده: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ [الفرقان:63].

جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص عمله لله سرا وجهرا، أمين، أمين، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله القائل: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا(10)﴾ [الشمس:9-10].

أنزل الشرائع وأحكمها، وحبب للصالحين مكارم الأخلاق وزينها، أحمده على: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا(4)﴾ [الشمس:1-4].

وعلى كل نعمه التي وقرها ومننه التي أمطرها، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي أظهر ملة الإسلام ونصرها، وأعطاه ربه من الجنة فضيلتها ووسيلتها، ومقامها المحمود، وحوضها المورود وكوثرها، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم الدين.

معاشر الصالحين: إن الجاهلية التي عالج النبي -صلى الله عليه وسلم- عالج محوها كانت تقوم على دربين ونوعين من الجهالة: جهالة ضد العلم، وأخرى ضد الحلم.

فأما الأولى: فمحاربتها تتم بنشر أنواع المعرفة وفنون الإرشاد، وأما الأخرى -أي الجهالة التي ضد الحلم-: فكف ظلامها وظلمها يعتمد على كبح الهوى، ومنع الفساد، وقد كان العرب الأولون يفتخرون بأنهم يلقون الجهل بجهل أشد، حتى قال قائلهم:

أَلاَ لاَ يَجْهَلَنَّ أَحَدٌ عَلَيْنَا *** فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَا

فجاء الإسلام يحارب هذا الطيش والنزق، ويقيم أركان المجتمع على الفضل؛ فإن تعذر الفضل فالعدل، ولن تحقق هذه الغاية إلا إذا هيمن العقل الراشد على غريزة الثأر والانتقام.

ولقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من كل ما من شأنه أن يصل بالمؤمن إلى هذه الألوان من العداوة والخصومات، بل إنه -صلى الله عليه وسلم- اعتبر مظاهر الطيش، والتعدي انفلاتا من الإسلام، وانطلاقا من القيود التي تربط الجماعة المسلمة، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر".

وقال -صلى الله عليه وسلم- للأعرابي الذي قال له: "اعْهَدْ إِلَيَّ" يعني: أوصني، قال: "لا تَسُبَّنَّ أَحَدًا ولا تحقرن شيئا من المعروف، وأن تكلم أخاك وأنت منبسط إليه وجهك إن ذلك من المعروف" ثم قال: "وإن امرئ شتمك… ".

وتأملوا هذا الكلام الراقي: "وإن امرئ شتمك وعيرك بما يعلمه فيك، فلا تعيره بما تعلمه فيه، فإنما وبال ذلك عليه" (رواه أبو داوود).

قيمة عظيمة أخلاقية تلك التي يؤسس لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من خلال هذا الحديث، الترفع عن مجاراة السفهاء أصحاب الهجر والفحش، الذين لا يحفظون ودا ولا عهدا.

وفي الحديث دعوة إلى الحلم والتجاوز، وعدم مقابلة السيئات بمثلها، والجنوح إلى الصفح والعفو، وكذلكم كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

قال عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه -: "مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ عَلَى الأَرْضِ إِلا بَيْنَهُمَا سِتْرٌ مِنَ اللَّهِ -عز وجل-، فَإِذَا قَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ هُجْرًا هَتَكَ سُتْرَةَ اللَّهِ -عز وجل-".

من الناس من إذا تعرض لاستفزاز أو مضايقة أو أذى، لا يسكن غضبه، ويثور ويتغيظ، ويهدد ويطبع على وجهه العبوس، ويرتعش كالمحموم، ويُزبد ويلعن ويطعن.

والإسلام بريء من هذه الخلال المقدرة، والخصال المنفرة، قال صلى الله عليه وسلم: "ليس المؤمن بطعان ولا لعان، ولا فاحش ولا بذئ".

إن الذم واللعن والطعن هو علامة سفه، ودليل عمى، والكبار أصحاب مقامات الرشد لا يمكن أن ينزلوا إلى هذه المستويات المتردية، والأخلاق المردية، بل يترفعون عنها لما جبلوا عليه من عشق معالي الأمور، فهم عشاق الكمال، يفرون من كل صور النقص والتردي، بل إنهم يعتبرون أن ما يتعرضون له من طعانات ومن غدر، ومن لؤم يعتبرون ذلك علامة كمالهم.

ولله در الشاعر يوم قال:

وإذا أتتك مذمتي من ناقص *** فهي الشهادة لي بأني كامل

ويقول أحد الحكماء: "إذا طعنت من الخلف فاعلم بأنك في الأمام".

ربما يتسلط عليك بأذى بلسانه بمكره، فيكون ذلك سببا لسيادتك، وانتشار فضلك، وزيادة خيرك، ولله در الشاعر يوم يقول:

وإِذا أَرادَ الله نَشْرَ فَضيلةٍ *** طُويَتْ أَتاحَ لها لسانَ حَسُودِ

إنك -أيها العبد- إن كنت على خط الوصل الدائم مع الله، وكنت على أرض صلبة من العلم والتقي، لا يضرك مكر الماكرين، ولا حقد الحاقدين، بل تنظر إليهم بإشفاق ورحمة، وترثي لحالهم، ولما وصلوا إليه من النزول والهوي والتردي.

إن الموصول بالله المستأنس به، ليس لديه وقت ليفكر في الناس، فعلوا أو تركوا، أذوا أو مكروا، ولله در الشاعر يوم يقول مناجي ربه:

إذا صح منك الود فالكل هين*** وكل الذي فوق التراب تراب.

فليتك تحلو والحياة مريرة *** وليتك ترضى والأنام غضاب

وليت الذي بيني وبينك عامر*** وبيني وبين العالمين خراب

إن الإيمان كلما ربى في القلب ربت معه السماحة، وازداد الحلم، ونفر المرء من طلب الثأر والانتقام من المسيئين في حقه، قيل لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ادعوا على المشركين والعنهم، قال: "إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعانا" (رواه مسلم).

وعلى قدر ما يضبط المسلم نفسه، ويكظم غيظه، ويملك قوله، ويتجاوز عن الهفوات، ويقيل العثرات تكون منزلته عند الله، وفي الحديث: "من كظم غيظا وهو يستطيع أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء" (رواه أبو داوود).

ومن ثم استنكر -صلى الله عليه وسلم- على سيدنا أبي بكر -رضي الله عنه- أن يلعن بعض رقيقه، وقال: "لا يَنْبَغِي لِصِدِّيقِ أَنْ يَكُون لَعَّانًا" (رواه مسلم).

وفي رواية: "لَا يَجْتَمِعُ أَنْ تَكُونُوا لَعَّانِينَ صِدِّيقِينَ" (رواه الحاكم).

فأعتق أبوبكر أولئك الرقيق كفارة عما بدر منه لهم، وجاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول له: "لا أعود، لا أعود".

إن اللعن قذيفة طائشة خطرة يدفع إليها الغضب الأعمى، والأنانية البلهاء، أكثر مما يدفع إليها استحقاق العقاب واللعنة إن خرجت لا يسلم من وبارها أحد، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن العبد إذا لعن شيئا صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها، ثم تأخذ يمينا وشمالا فإذا لم تجد مساغا رجعت إلى الذي لعن، فإن كان لذلك أهلا وإلا رجعت إلى قائلها" (رواه أبو داود).

إذاً فلا تتعب نفسك، ولا ترهق أصحابك إذا لعنك أحد؛ فإن اللعنة راجعة لا محالة إلى قائلها وصاحبها، فأرح نفسك، ولا تضيع أجر الحلم والصفح.

وكم نشاهد اليوم من معارك بين الناس في الطرقات وغيرها تبتذل فيها الأعراض، ويسب فيها الآباء والأجداد، وأوزار هذه المعارك الوضيعة تعود على الموقد الأول لجمرتها؛ كما جاء في الحديث: "الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا فَعَلَى الْبَادِئ مَا لَمْ يَعْتَدِ الْمَظْلُوم" (رواه مسلم).

وملاك النجاة من هذه المنازعات الحادة: تغليب الحلم على الغضب، وتغليب العفو على العقاب.

لا شك -أيها الأحباب- أن الإنسان يحزنه تهجم الناس عليه، وتسلطهم عليه، أو على من يحب، وإذا واتته أسباب الثأر سارع إلى مجازاة السيئة بمثلها، وإلى إدخال الضيق على مؤذيه بقدر ما شعر به من ألم، إلا أن هناك مسلك أنبل من ذلك، وأرضى لله، وأدل على العظمة والمروءة: أن يبتلع غضبه فلا ينفجر، وأن يقبض يده فلا يقتص، وأن يجعل عفوه عن المسيء نوعا من شكر الله الذي أقدره على أن يأخذ بحقه إذا شاء.

عن عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا أنبئكم بما يشرف الله به البنيان ويرفع الدرجات؟" قالوا: بلى يا رسول الله. قال: "تحلم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك" (رواه الطبرني).

إن العفو والصفح فن لا يقتنه إلا الكبار، ولله در الإمام الشافعي يوم يقول:

قالوا سكت وقد خصمت قلت لهم *** إن الجواب لباب الشر مفتاح

فالعفو عن جاهل أو أحمق أدب *** نعم وفيه لصون العرض إصلاح

إن الأسود لتُخشى وهي صامتة *** والكلب يحثي ويرمى وهو نباح

ومن أعظم حلماء العرب الأحنف بن قيس -رحمه الله- اشتهر بكثرة عفوه وحلمه، سئل الأحنف يوما، قيل له: إنا نراك عظيم الحلم فممن تعلمت الحلم؟ فأجابهم: "تعلمت الحلم من قيس بن عاصم المنقري؛ كنا يوما في مجلسه نتلقى نصحه، ونستمع من حكمه، وهو جالس مُحتبيًا، وبينما نحن كذلك إذ أقبل أبناؤه عليه ومعهم، فتى مقتول يشخط في دمه، وفتى آخر مكبل بالسلاسل والقيود، فكان المقتول هو ابن قيس والمكبل هو قاتله، وهو ابن أخي ابن قيس فأقبل عليه أبناؤه، وقالوا له: قامت مشاحنة بين هذين، فقتل ابن عمنا أخانا ولم نفعل فيه شيئا إلا بعد رأيك وأمرك، فماذا تأمرنا؟

فالتفت إلى القاتل، وقال: يا ابن أخي ماذا فعلت؟ لماذا فعلت هذه الجريمة الشنعاء؛ فوالله لقد أثمت بربك، ورميت نفسك بسهمك، وقتلت ابن عمك، ثم أنشد هذين البيتين:

أقولُ للنفس تَأْساءً وَتَعْزيَةً *** كلاهُما خَلَفٌ مِنْ فَقْدِ صاحِبِه

إحدى يَدَيَّ أصابتني ولم تُرِدِ *** هذا أخي حين أَدعوه وذا وَلَدي

ثم سكت قليلا، وقال لأكبر أبنائه: حل وثاق ابن عمك، وافكك قيوده عنه، وادفن أخاك، وسق إلى أمه مائة ناقة دية ابنها؛ فإنها غريبة عنا من قبيلة أخرى، قال الأحنف: فوالله ما فك حوبته، ولا غير جلسته، ولا قطع حديثه الذي كان يتحدث فيه، فكنا نعجب من حلمه في مواطن الشرور".

وعندما مات هذا الحليم رثاه أحد الشعراء، فقال:

وما كان قيس موته موت واحد *** ولكنه بنيان قوم تهدما

وتأتي دعوة رب العالمين، وأكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين إلى العفو والصفح، بل ويقابل ذلك بالمغفرة، قال -تعالى-: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [النور: 22].

فليكن قولنا كقول أبي بكر "بلى أحب أن يغفر الله لي".

وليكن فعلنا كفعله حينما تجاوز عن مسطح ورد إليه نفقته؛ فإن الدنيا تهون كلها، إذا علم العبد أن الله سيغفر له، فتجاوزا وأعفوا واصفحوا وسامحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم.

اللهم وفقنا لطاعتك واجعلنا من أهل مرضاتك.

الأخلاق ودورها في بناء الأمة (1)

الأخلاق ودورها في بناء الأمة (2)

الأخلاق ودورها في بناء الأمة (3)

الأخلاق ودورها في بناء الأمة (4)


تم تحميل المحتوى من موقع