والنفس لها قوتان: قوة الإقدام، وقوة الإحجام. فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكًا عما يضره. والإنسان في معترك الحياة بين جيشين: جيش الدين، وجيش الهوى؛ فإما أن يكون القهر والغلبة لداعي الدين فيرد جيش الهوى مفلولاً، وهذا إنما يصل إليه بدوام الصبر، والواصلون إلى هذه المرتبة هم المنصورون في الدنيا والآخرة..
الحمد لله الصبور الشكور، شملت قدرته كل مخلوق، وجرت مشيئته في خلقه بتصاريف الأمور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جل عن الشبيه والنظير، وتعالى عن الشريك والظهير. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أعرف الخلق بربه، وأقومهم بخشيته، وأنصحهم لأمته، وأصبرهم لحكمه، وأشكَرهم لنعمه. فصلى الله وملائكته وأنبياؤه عليه، كما وَحَّدَ الله وعَرَّف به ودعا إليه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
ورضي الله عن جميع أصحابه وأتباعه الحامدين لربهم على السراء والضراء، والشدة والرخاء.
أما بعد:
فيا عباد الله: إن الله تبارك وتعالى جعل الصبر آخية المؤمن التي يجول ثم يرجع إليها، وساق إيمانه الذي لا اعتماد له إلا عليها؛ فلا إيمان لمن لا صبر له، وإن كان فإيمان قليل في غاية الضعف، وصاحبه ممن يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة، ولم يحظ منهما إلا بالصفقة الخاسرة.
"والصبر" يا عباد الله خلق فاضل من أخلاق النفس يمتنع به من فعل ما لا يحسن ولا يجمل، وهو قوة من قوى النفس التي بها صلاح شأنها، وقوام أمرها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر"، وقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: وجدنا خير عيشنا بالصبر.
و"النفس" مطية العبد التي يسير عليها إلى الجنة أو النار، والصبر لها بمنزلة الخطام والزمام، فإن لم يكن للمطية خطام ولا زمام شردت في كل مذهب. حُفظ من خطب الحجاج أنه قال: اقدعوا هذه النفوس، فإنها طلعة إلى كل سوء، فرحم الله امرءًا جعل لنفسه خطامًا وزمامًا، فقادها بخطامها إلى طاعة الله، وصرفها بزمامها عن معاصي الله؛ فإن الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذابه.
والنفس لها قوتان: قوة الإقدام، وقوة الإحجام. فحقيقة الصبر أن يجعل قوة الإقدام مصروفة إلى ما ينفعه، وقوة الإحجام إمساكًا عما يضره. والإنسان في معترك الحياة بين جيشين: جيش الدين، وجيش الهوى؛ فإما أن يكون القهر والغلبة لداعي الدين فيرد جيش الهوى مفلولاً، وهذا إنما يصل إليه بدوام الصبر، والواصلون إلى هذه المرتبة هم المنصورون في الدنيا والآخرة، وهم (الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فُصّلَت:30] وهم الذين تقول لهم الملائكة عند الموت: (أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ) [فصلت:30-31] وهم الذين جاهدوا في الله حق جهاده.
وإن كانت القوة والغلبة لداعي الهوى سقط باعثُ الدين بالكلية، واستسلم البائس للشيطان وجنده، فيقودونه حيث شاءوا، ويكون من جندهم وأتباعهم، وهذه حال العاجز الضعيف؛ أو يصير الشيطان وجنده من أعوانه، وهذه حال الفاجر القوي المتسلط، والمبتدع الداعية المتبوع، وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم شقوتهم، واشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، وإنما صاروا إلى هذا لما أفلسوا من الصبر.
أو يكون الحرب سجالاً ودولاً بين الجندين، فتارة له، وتارة عليه، وتكثر نوبات الانتصار وتقل، وهذه حال أكثر المؤمنين الذين خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا.
وتكون الحال يوم القيامة موازنة لهذه الأحوال الثلاث، فمن الناس من يدخل الجنة ولا يدخل النار، ومنهم من يدخل النار ولا يدخل الجنة، ومنهم من يدخل النار ثم يدخل الجنة.
و"الإنسان" لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال؛ فإنه بين أمر يجب عليه امتثاله وتنفيذه، ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه، وقدَر يجري عليه بغير اختياره، ونعمة يجب عليه شكر المنعم بها.
فأما "الأمر" الذي يجب عليه امتثاله وتنفيذه فهو الطاعة، والعبد محتاج إلى الصبر عليها؛ لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية؛ أما في "الصلاة" فلِما في طبع النفس من الكسل وإيثار الراحة، ولا سيما إذا اتفق مع ذلك قسوة القلب، ورين الذنب، والميل إلى الشهوات، ومخالطة أهل الغفلة، فلا يكاد العبد مع هذه الأمور وغيرها أن يفعلها، وإن فعلها مع ذلك كان متكلفًا غائب القلب، ذاهلاً عنها، طالبًا لفراقها؛ وأما "الزكاة" فلِما في طبع النفس من الشح والبخل، وكذلك "الحج" و"الجهاد" للأمرين جميعًا.
ويحتاج العبد ههنا إلى الصبر قبل الشروع فيها بتصحيح النية والإخلاص، وتجنب دواعي الرياء والسمعة، وعقد العزم على توفية العبادة حقها، بالقيام بأدائها وأركانها وواجباتها وسننها، وعلى الصبر على استصحاب ذكر المعبود فيها، وأن لا يشتغل عنه بعباده؛ ثم الصبر بعد الفراغ من العمل عن الإتيان بما يبطله، وأن يصبر عن رؤيته والعجب به، والتكبر والتعظم به، وأن يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية.
وأما "النهي" الذي يجب عليه اجتنابه وتركه فهو المعاصي كلها. وأعظم ما يعين على تركها قطع المألوفات، ومفارقة الأعوان عليها في المجالسة والمحادثة، وقطع العوائد الفاسدة.
ومما يعين على الصبر إجلال الله تبارك وتعالى أن يُعْصَى وهو يَرَى ويَسْمَع. ومنها إيثار محبة الله تعالى؛ فإن المحب لمن يحب مطيع. ومنها استحضار نعمته وإحسانه، فإن الكريم لا يقابِل بإساءةٍ مَن أحسن إليه. ومنها تذكُّر الغضب والانتقام؛ فإن الرب إذا تمادى العبد في معصيته غضب، وإذا غضب لم يقم لغضبه شيء. وكل هذه الأمور ونحوها مما يعين على ترك المعصية.
وأما الصبر على "القدَر" الذي يجري عليه بغير اختياره، كالأمراض، والفقر، وموت الأقارب، وغيرها، فيجب عليه أن لا يتسخَّطها.
وهذه الثلاثة: الصبر على المأمور، وعن المحظور، وعلى المصائب؛ هي التي أوصى بها لقمان ابنه في قوله: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاة،َ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ. إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) [لقمَان:17].
فالعزيمة الصادقة، والهمة العالية، والنخوة، والمروءة الإنسانية، وإدراك ما في المأمور من الخير والنفع، واللذة والكمال، وإدراك ما في المحظور من الشر والضر والنقص؛ فمتى حصل له ذلك حصل له الصبر، وهانت عليه مَشاقُّهُ، وَحَلَتْ له مَرَارتُه.
وأما "النعمة" التي يجب عليه شكر المنعم بها عليه فكالصحة والسلامة، والجاه والمال، وأنواع الملاذ المباحة، هي محتاجة إلى الصبر فيها بأن لا يركن إليها، ولا يغتر بها، ولا تحمله على الأشر والبطر، والفرح المذموم الذي لا يحب الله أهله، وأن لا ينهمك في نيلها، ويبالغ في استقصائها، فمن بالغ في الأكل والشرب والجماع حُرمها؛ وأن يصبر على أداء حق الله فيها لئلا يُسلَبها، وأن يصبر عن صرفها في الحرام، فلا يمكِّن نفسه من كل ما تريد منها. قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
وهناك صبر محرَّم، كالصبر عن الطعام والشراب حتى يموت.
فاتقوا الله عباد الله، ولازموا الصبر على المأمور، والصبر عن المحظور، والرضا بالمقدور، والشكر عند أسباب السرور، فقد ذم الله نوع الإنسان المتصف باليأس، والكفر عند المصيبة، والفرح والفخر عند النعمة، ولا خلاص من هذا الذم إلا بالصبر والعمل الصالح.
أعوذ بالله من الشطيان الرجيم: (وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [هود:9-11].
الحمد لله العلي الكبير، السميع البصير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يسبح له ما في السموات وما في الأرض، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من بريته، وأعلاهم عنده منزلة، بلغ رسالة ربه، وصدع بأمره، وقام لله بالصبر والشكر حق القيام حتى بلغ رضاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه.
أما بعد: فيا عباد الله: اتقوا الله -تعالى- وتقواه: فعل ما أمر، وترك ما حظر، والصبر على ما قدّر؛ واعلموا أن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر؛ وأن الصبر أنصر لصاحبه من الرجال بلا عدة ولا عدد، ومحله من الظفَر كمحل الرأس من الجسد، وقد ضمن الوفي الصادق لأهله في محكم الكتاب، أن يوفيهم أجرهم بغير حساب، وأخبر أنه معهم بنصره فقال: (وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفَال:46] فظفر الصابرون بهذه المعية بخيري الدنيا والآخرة، وفازوا بها بنعمه الباطنة والظاهرة، وخصهم بالهداية دون من سواهم، (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البَقَرَة:157] فاصبروا وصابروا.
ومن لم يكن الصبر خُلُقًا له ومَلَكَةً، فتكلَّفه واسْتَدْعاه وزَاوَلَه، صار سجية له وطبيعة، كما في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "ومن يتَصَبَّرْ يُصَبِّرْه الله"، كما أنه لا يزال يتكلف الحلم والوقار، والسكينة والثبات، حتى تصير خلقًا له بمنزلة الطبائع.
وصلوا على خير هادٍ وبشير؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه المبين، وبدأ بالصلاة عليه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزَاب:56].
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي