التغيير بين العواطف الجامحة والمحجة الواضحة

عبد الله بن محمد البصري
عناصر الخطبة
  1. حقيقة المطالبة بالتغيير الشرعي .
  2. ضرورة التدقيق في الرايات المرفوعة للتغيير .
  3. بُعد كثير من المطالبين بالتغيير عن الهدي الشرعي .
  4. ضرورة تغيير ما بالنفس قبل تغيير سوء المجتمع .

اقتباس

ذَلِكُم أَنَّ الغَايَةَ السَّلِيمَةَ لِلتَّغيِيرِ، لا تُسَوِّغُ استِخدَامَ وَسِيلَةٍ مَمنُوعَةٍ شَرعًا؛ إِذِ استِخدَامُ الوَسائِلِ البَاطِلَةِ مُنكَرٌ لا يَجُوزُ إِقرَارُهُ وَلا السُّكُوتُ عَنهُ، وَقَد ذَكَرَ أَهلُ العِلمِ أَنَّ مِن شُرُوطِ تَغيِيرِ المُنكَرِ أَن لا يُؤَدِّيَ إِلى مُنكَرٍ أَشَدَّ مِنهُ؛ لأَنَّ المَقصُودَ بِتَغيِيرِ المُنكَرِ أَن يَزُولَ أَو يَخِفَّ، لا أَن يَزدَادَ وَيَتَفَاقَمَ، ثُمَّ إِنَّ رَايَةَ التَّغيِيرِ الَّتي تُرفَعُ يَجِبُ أَن تَكُونَ رَايَةً وَاضِحَةً، عَلَى مَنهَجٍ شَرعِيٍّ سَلِيمٍ، هَدَفُهَا إِقَامَةُ دِيَنِ اللهِ ..

 

 

 

 

أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ) [الأنفال: 29].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ المُتَأَمِّلَ في التَّظَاهَرَاتِ الَّتي مَا زَالَت تَعصِفُ بِعَالَمِنَا العَرَبيِّ، يَجِدُ المُطَالَبَةَ بِالتَّغيِيرِ قَد طَغَت فِيهَا عَلَى عُقُولِ الكَثِيرِينَ وَمَلَكَت قُلُوبَهُم، وَأَعمَى بَرِيقُهَا أَعيُنَهُم وَأَصمَّ ضَجِيجُهَا آذَانَهُم، فَصَارَ كُلُّ مَن تَكَلَّمَ أَو كَتَبَ يُبَشِّرُ بِالتَّغيِيرِ، وَجَعَلَ يَهتِفُ بِهِ المُحِقُّ وَالمُبطِلُ، وَنَادَى إِلَيهِ المُصِيبُ وَصَاحَ بِهِ المُخطِئُ، ما يَستَدعِي وُقُوفَ المُسلِمِ مَعَ هَذَا الأَمرِ وَقفَةً جَادَّةً صَادِقَةً، يَبني فِيهَا مَوقِفَهُ عَلَى أَسَاسٍ عِلمِيٍّ مَتِينٍ، وَيَسِيرُ في طَرِيقٍ سَلِيمٍ مُستَقِيمٍ، لا أَن تَكُونَ العَاطِفَةُ الجَامِحَةُ هِيَ مُنطَلَقَهُ، وَرَأيُ الكَثرَةِ الكَاثِرَةِ هُوَ مُحَرِّكَهُ، خَاصَّةً وَنَحنُ نَرَى أَنَّ كَثِيرِينَ مِمَّنَ يُطَالِبُونَ بِالتَّغيِيرِ ويَهَشُّونَ إِلَيهِ، إِنَّمَا يُطَالِبُونَ بِهِ رَدَّةَ فِعلٍ لإِزَالَةِ مَا قَد يُعَانُونَهُ مِن ظُلمٍ حَقِيقِيٍّ أَو مُدَّعًى، فَيتَبَنَّونَ لِذَلِكَ مَفَاهِيمَ مُغرِقَةً في التَحَرُّرِ وَالانفِتَاحِ، ظَانِّينَ أَنَّ التَّغيِيرَ المُنفَتِحَ هُوَ الطَّرِيقُ الوَحِيدُ لإِزَالَةِ الظُّلمِ وَإِصلاحِ الفَسَادِ، وَمَا عَلِمُوا أَنَّ الشَّرعَ وَهُوَ المَنهَجُ الوَسَطُ، وَكَمَا أَنَّهُ يَرفُضُ الظُّلمَ المَحضَ وَلا يُقِرُّهُ، فَإِنَّهُ أَيضًا لا يَقبَلُ الحُرِّيَّةَ الفَوضَوِيَّةَ وَلا يَرضَاهَا، وَأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ النَّاسُ في بَعضِ البُلدَانِ قَد عَانَوا كَثِيرًا مِنَ الظُّلمِ وَالتَسَلُّطِ، فَقَد عَانى آخَرُونَ في بُلدَانٍ أُخرَى مِنَ الانفِتَاحِ غَيرِ المَضبُوطِ وَالحُرِّيَّةِ الفَوضَوِيَّةِ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ المُسلِمَ الَّذِي فَقِهَ كِتَابَ رَبِّهِ وَتَشَرَّبَ سُنَّةَ نَبِيِّهِ، يَعلَمُ أَنَّ التَّغيِيرَ الشَّرعِيَّ المَطلُوبَ مِنهُ أَن يَسعَى إِلَيهِ في كُلِّ وَقتٍ وَيُمَارِسَهُ في كُلِّ حِينٍ، إِنَّمَا هُوَ إِنكَارُ مَا خَالَفَ الشَّرعَ وَنَاقَضَهُ، نَعَم، إِنَّ المُنكَرَ هُوَ الَّذِي يَجِبُ أَن يُسعَى في تَغيِيرِهِ وَتَبدِيلِهِ، وَأَن يُرَدَّ النَّاسُ مِنَ السَّيرِ في مُرَادِ أَنفُسِهِم وَاتِّبَاعِ أَهوَائِهِم إِلى مَا يُوَافِقُ مُرَادَ اللهِ وَمُرَادَ رَسُولِهِ، وَالأَصلُ في ذَلِكَ قَولُ النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "مَن رَأَى مِنكُم مُنكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لم يَستَطِعْ فَبِقَلبِهِ". رَوَاهُ مُسلِمٌ.

إِنَّ التَّغيِيرَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الشَّرعُ المُطَهَّرُ، لَيسَ تَغيِيرًا مُطلَقًا لا زِمَامَ لَهُ وَلا خِطَامَ، وِلا قَيدَ لَهُ وَلا شَرطَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَغيِيرُ مَا كَانَ مُنكَرًا مُخَالِفًا لِلشَّرعِ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ مَن أَرَادَ التَّغيِيرَ الصَّحِيحَ الَّذِي يَسلَمُ فِيهِ بَلْ وَيُؤجَرُ عَلَيهِ، فَلا بُدَّ أَن يَسلُكَ إِلَيهِ المَسلَكَ الشَّرعِيَّ، فَيُرَاعِيَ فِيهِ جَمِيعَ مَا يُرَاعَى في التَّعَامُلِ مَعَ المُنكَرِ مِن شُرُوطٍ، وَأَن يَكُونَ وِفقَ الدَّرَجَاتِ الثَّلاثِ المَعرُوفَةِ، بِاليَدِ لِمَن كَانَ مِن أَهلِ السُّلطَةِ وَالقُدرَةِ، وَبِاللِّسَانِ لِمَن كَانَ مِن أَهلِ العِلمِ وَلم يَقدِرْ عَلَى التَّغيِيرِ بِيَدِهِ، وَبِالقَلبِ لِكُلِّ مَن هُوَ دُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّ النَّاظِرَ في هَذِهِ الثَّورَاتِ وَالتَّظَاهُرَاتِ الَّتي عَمَّت وَطَمَّت، وَدُعِيَ إِلَيهَا قَرِيبًا وَبَعِيدًا بِحَقٍّ وَبِلا حَقٍّ، لا يَظهَرُ لَهُ تَقَيُّدُهَا بِالضَّوَابِطِ الشَّرعِيَّةِ لِلتَّغيِيرِ، وَإِنَّمَا غَايَةُ مَا هِيَ عَلَيهِ، أَن تَكُونَ استِجَابَةً لِعَوَاطِفَ جَيَّاشَةٍ، وَسَيرًا وَرَاءَ آرَاءَ شَعبِيَّةٍ مُندَفِعَةٍ، يَنجَرِفُ فِيهَا أُنَاسٌ وَيَنسَاقُونَ مَعَ غَيرِهِم إِلى مَا لا يَعلَمُونَ عُقبَاهُ وَلا يَعُونَ مُنتَهَاهُ، كَمَا تُسَاقُ النَّعَمُ وَالبَهَائِمُ وَهِيَ لا تَدرِي أَإِلى المَرعَى الخِصبِ تُقَادُ أَم إِلى المَجزَرَةِ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: لَقَدِ اتَّضَحَ أَنَّ مِن دَعَوَاتِ التَّغيِيرِ اليَومَ مَا يَأمَلُ أَصحَابُهَا أَن يُعطَوُا المَجَالَ لِيُظهِرُوا دِينًا مُحَرَّفًا، أو لِيُمَارِسُوا طُقُوسًا كُفرِيَّةً، وَأَعلَنَ مُتَظَاهِرُونَ الوَلاءَ لِدُوَلٍ مُلحِدَةٍ كَافِرَةٍ أَو بَاطِنِيَّةٍ فَاجِرَةٍ، وَظَهَرَت أَصوَاتٌ هَدفُهَا إِسقَاطُ الأَحكَامِ الشَرعِيَّةِ الَّتي قَامَت عَلَيهَا بِلادٌ مِثلُ بِلادِنَا، لِتَستَبدِلَ بها مَا أَسمَتهُ حُكمَ الشَّعبِ بِالشَّعبِ، وَمَا هُوَ إِلاَّ حُكمُ الطَّاغُوتِ وَالكُفر.

وَمَا دَامَ بَعضُ التَّغيِيرِ قَد وَصَلَ إِلى هَذَا القَدرِ مِنَ الخُطُورَةِ وَالانحِرَافِ، فَلا بُدَّ أَن يَنتَبِهَ المُسلِمُونَ وَيَحذَرُوا، وَيَعمَلُوا عَلَى أَن يَكُونَ التَغيِيرُ الَّذِي يُنَادُونَ بِهِ شَرعِيًّا بَانِيًّا لا بِدْعِيًّا هَادِمًا، لا بُدَّ أَن يَدرُسُوا وَسَائِلَ هَذَا التَّغيِيرِ المُتَّخَذَةَ، وَيَتَأَكَّدُوا مِن رَايَاتِهِ المَرفُوعَةِ، وَيَزِنُوا بِمِيزَانِ الشَّرعِ شِعَاراتِهِ وَيَتَفَكَّرُوا في عَوَاقِبِهِ وَمَآلاتِهِ، لِيَتَبَيَّنُوا هَل تِلكَ الوَسَائِلُ المُستَخدَمَةُ في التَّغيِيرِ سَلِيمَةٌ أَم لا!! وَهَل تِلكَ الرَّايَاتُ وَالشِّعَارَاتُ المَرفُوعَةُ لإِيجَادِهِ شَرعِيَّةٌ أَم لا!! ثُمَّ هَل هُوَ مَأمُونُ العَوَاقِبِ مَحمُودُ الآثَارِ أَم لا!!

ذَلِكُم أَنَّ الغَايَةَ السَّلِيمَةَ لِلتَّغيِيرِ، لا تُسَوِّغُ استِخدَامَ وَسِيلَةٍ مَمنُوعَةٍ شَرعًا؛ إِذِ استِخدَامُ الوَسائِلِ البَاطِلَةِ مُنكَرٌ لا يَجُوزُ إِقرَارُهُ وَلا السُّكُوتُ عَنهُ، وَقَد ذَكَرَ أَهلُ العِلمِ أَنَّ مِن شُرُوطِ تَغيِيرِ المُنكَرِ أَن لا يُؤَدِّيَ إِلى مُنكَرٍ أَشَدَّ مِنهُ؛ لأَنَّ المَقصُودَ بِتَغيِيرِ المُنكَرِ أَن يَزُولَ أَو يَخِفَّ، لا أَن يَزدَادَ وَيَتَفَاقَمَ، ثُمَّ إِنَّ رَايَةَ التَّغيِيرِ الَّتي تُرفَعُ يَجِبُ أَن تَكُونَ رَايَةً وَاضِحَةً، عَلَى مَنهَجٍ شَرعِيٍّ سَلِيمٍ، هَدَفُهَا إِقَامَةُ دِيَنِ اللهِ، وَغَايَتُهَا تَحقِيقُ الحُكمِ بِشَرعِهِ، فَإِن كَانَت عَلَى خِلافِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هِيَ رَايَةٌ مُنكَرَةٌ، لا يَجُوزُ الانضِمَامُ تَحتَهَا وَلا الانسِيَاقُ لِرَافِعِيهَا، كَيفَ وَقَد قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "وَمَن قَاتَلَ تَحتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ أَو يَدعُو لِعَصَبِيَّةٍ أَو يَنصُرُ عَصَبِيَّةً فَقُتِلَ فَقِتلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَن خَرَجَ عَلَى أُمَّتي بِسَيفِهِ يَضرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلا يَتَحَاشَى مِن مُؤمِنِهَا وَلا يَفِي لِذِي عَهدٍ عَهدَهُ، فَلَيسَ مِنِّي وَلَستُ مِنهُ". رَوَاهُ مُسلِمٌ وَغَيرُهُ.

وَإِنَّهَا لَخَسَارَةٌ عَظِيمَةٌ أَن يُقتَلَ المُسلِمُ تَحتَ رَايَةٍ جَاهِلِيَّةٍ، وَلاؤُهَا لأَرضٍ أَو وَطَنٍ أَو حُكُومَةٍ، أَو فَردٍ أَو طَائِفَةٍ أَو حِزبٍ!! أَو يَنضَمَّ لِتَظَاهُرَاتٍ لا ذِكرَ فِيهَا لِلإِسلامِ أَصلاً، وَلا غَيرَةَ فِيهَا عَلَى الدِّينِ، وَلا دَعوَةَ مِن خِلالِهَا لِلمُحَافَظَةِ عَلَى مَبدَأٍ شَرِيفٍ أَو حِفظِ خُلُقٍ كَرِيمٍ، لا يَتَحَدَّثُ أَصحَابُهَا عَن إِقَامَةِ دِينِ اللهِ، وَلا يُعلِنُونَ أَنَّهُم يَسعَونَ لإِحقَاقِ حَقٍّ وِفقَ شَرعِ اللهِ، أَو إِبطَالِ بَاطِلٍ أَبطَلَتهُ نُصُوصُ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.

وَلا يَنفِي هَذَا -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- أَن يَكُونَ في دَاخِلِ تِلكَ الدُّوَلِ أَو مِن بَينِ مَن خَرَجَ مُتَظَاهِرًا مَن هَدَفُهُ شَرِيفٌ وَمَقصِدُهُ الإِصلاحُ حَقًّا، وَلَكِنَّ الأَعَمَّ الأَكثَرَ لم يُعلِنْ ذَلِكَ وَلم يَتَحدَّثْ بِهِ، وَمِن ثَمَّ فَلا بُدَّ مِنَ التَّدقِيقِ في الرَّايَاتِ المَرفُوعَةِ لِلتَّغيِيرِ وَتَقوِيمِهَا حَسبَمَا يَقتَضِيهِ الشَّرعُ المُطَهَّرُ؛ لأَنَّ الوَاجِبَ أَن يَكُونَ الهَدَفُ تَحقِيقَ أَمرِ اللهِ وَتَحكِيمَ شَرعِهِ، لا أَن يَكُونَ المُلكُ لِفُلانٍ أَو عَلاَّنٍ، أَو يَكُونَ الأَمرُ لِذَاكَ الحِزبِ أَو تِلكَ المَجمُوعَةِ، قَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "يَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ: هَذَا قَتَلَني. فَيَقُولُ اللهُ لَهُ: لِمَ قَتَلتَهُ؟! فَيَقُولُ: قَتَلتُهُ لِتَكُونَ العِزَّةُ لَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لي، وَيَجِيءُ الرَّجُلُ آخِذًا بِيَدِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ: إِنَّ هَذَا قَتَلَني، فَيَقُولُ اللهُ: لِمَ قَتَلتَهُ؟! فَيَقُولُ: لِتَكُونَ العِزَّةُ لِفُلانٍ. فَيَقُولُ: إِنَّهَا لَيسَت لِفُلانٍ، فَيَبُوءُ بِإِثمِهِ". رَوَاهُ النَّسَائيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ الفِتَنَ في كَثِيرٍ مِنَ الأَحيَانِ تَكُونُ في أَمرٍ مُشتَبِهٍ غَيرِ وَاضِحٍ، وَنَادِرًا مَا يُرَىَ مِنهَا المَخرَجُ أَو يُوجَدُ فِيهَا مَعَاذٌ أَو مَلاذٌ، وَكَثِيرًا مَا تَقَعُ عَلَى غِرَّةٍ وَالنَّاسُ في غَفلَةٍ، فَيَعمَونَ فِيهَا عَن تَأَمُّلِ الحَقِّ، وَيَصَمُّونَ عَنِ استِمَاعِ النُّصحِ، وَيَطِيرُ إِلَيهَا كَثِيرٌ مِنهُم دُونَ تَدَبُّرٍ لِلعَوَاقِبِ وَلا نَظَرٍ في المَآلاتِ؛ وَلِذَا فَقَد جَاءَتِ الشَّرِيعَةُ بتَبَصِيرِ النَّاسِ بِأَهَمِّيَّةِ النَّظَرِ في العَوَاقِبِ وَالمَآلاتِ الَّتي يُمكِنُ أَن تُؤُولَ إِلَيهَا الأُمُورُ وَتَنتَهِيَ بها، وَذَمَّتِ النُّصُوصُ العَجَلَةَ وَالطَّيشَ، وَحَثَّت عَلَى الحِكمَةِ وَالتَّرَوِّي وَالتَّأَنِّي، وَتَكَاثَرَتِ النُّصُوصُ المُحَذِّرَةُ مِنَ الفِتنَةِ وَالنَاهِيّةُ عَنِ الاشتِرَاكِ فِيهَا بِقَولٍ أَو فِعلٍ.

وَإِنَّهُ لَمُؤسِفٌ أَن يَكُونَ وَاقِعُ المُطَالِبِينَ بِالتَّغيِيرِ اليَومَ بَعِيدًا عَنِ الهَديِ الشَّرعِيِّ العَظِيمِ الَّذِي حَثَّ عَلَى الابتِعَادِ عَن الفِتَنِ وَأَمَرَ بِتَجَنُّبِهَا، وَخَاصَّةً وَسَائِلَ الإِعلامِ الَّتي أَخَذَت عَلَى عَاتِقِهَا السَّعِيَ في تَشجِيعِ كُلِّ تَغيِيرٍ في الأُمَّةِ، دُونَ نَظَرٍ مِنهَا في عَوَاقِبِ ذَلِكَ التَغيِيرِ وَآثَارِهِ، وَلِذَا تَرَاهَا تَحرِصُ عَلى تَقدِيمِ نَوعٍ خَاصٍّ مِنَ التَّحلِيلاتِ، تَستَضِيفُ لَهُ ضُيُوفًا يُهَيِّجُونَ النَّاسَ وَيُثِيرُونَ بَعضَهُم عَلَى بَعضٍ، وَكَأَنَّ الهَدَفَ أَن تُثَارَ الفِتنَةُ وَتَشتَعِلَ البُلدَانُ بِاسمِ التَّغيِيرِ!

وَإِنَّ أَخطَرَ مَا في هَذَا الأَمرِ عَلَى الإِطلاقِ أَن تَتَمَكَّنَ تِلكَ الوَسَائِلُ مِن جَرِّ بَعضِ مَن ظَاهِرُهُ العِلمُ الشَّرعِيُّ وَالصَّلاحُ، فَتَزُجُّ بِهِ للاشتِرَاكِ في تَّهيِيجِ النَّاسِ وَتَحرِيضِهِم عَلَى سَفكِ الدِّمَاءِ وَالتَّدمِيرِ بِدَعوَى التَّغيِيرِ، وَالَّذِي يَنبَغِي لأَهلِ العِلمِ خَاصَّةً وَلِلمُؤمِنِينَ عَامَّةً، أَن يَتَثَبَّتُوا في هَذِهِ الأُمُورِ العِظَامِ، سَعيًا لإِبرَاءِ الذِّمَّةِ وَإِطفَاءِ الفِتنَةِ، وَأَن لا يَستَخِفَّهُمُ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ، فَإِنَّ التَّغيِيرَ المُنفَلِتَ لا يَأتي بِخَيرٍ، وَإِنَّمَا بِهِ يَنفَرِطُ عِقدُ الأَمنِ، وَبِسَبَبِهِ تَعُمُّ الفَوضَى وَيَنتَشِرُ التَّخرِيبُ، وَمِنهُ يَصِلُ المُفسِدُونَ إِلى مَآرِبِهِمُ الإِجرَامِيَّةِ، وَلَن تَجِدَ الدُّوَلُ الكَافِرَةُ فُرصَةً ولا سَبِيلاً لإِضعَافِ الأُمَّةِ وَالتَّدَخُّلِ في شُؤُونِهَا كَمِثلِ أَوقَاتِ مُطَالَبَةِ الشُّعُوبِ بِالتَّغيِيرِ، فَقَد أَثبَتَتِ الوَقَائِعُ حِرصَ تِلكَ الدُّوَلِ الكَافِرَةِ عَلَى تَصعِيدِ تِلكَ المُطَالَبَاتِ بِأُسلُوبِهِمُ الخَاصِّ، بِالتَدَخُّلِ العَسكَرِيِّ تَارَةً، وَتَارَةً بِعَرضِ مَبَادِئِهِم وَالتَسَّوَيقِ لَهَا عَلى أَنَّهَا المُخَلِّصَةُ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ الدُّوَلَ في أَحيَانٍ كَثِيرَةٍ تُمَارِسُ سِيَاسَةً مُنحَازَةً ضِدَّ قَضَايَا الأُمَّةِ، غَيرَ أَنَّهُ إِذَا حَدَثَتِ الفَوضَى وَاشتَدَّتِ الأَزَمَاتُ، فَتَحَ النَّاسُ قُلُوبَهُم لِتِلكَ الدُّوَلِ دُونَ تَمحِيصٍ وَلا تَميِيزٍ، فَفَرَضَت عَلَيهِم حُلُولاً ظَالِمَةً، وَنَشَرَت فِيهِم مَبَادِئَ هَدَّامَةً، مَا كَانَ لَهَا أَن تُوجَدَ لَولا غَفلَةُ المُطَالِبِينَ بِالتَّغيِيرِ عَن كُلِّ هَذِهِ الدَّوَاهِي وَالمُعضِلاتِ.

إِنَّ العَاقِلَ لا يَتَبَنَّى بِسُهُولَةٍ كُلَّ دَعوَةٍ لِلتَّغيِيرِ، فَإِنَّ مِن التَّغيِيرِ مَا هُوَ مَرفُوضٌ تَمَامًا، وَهُوَ مَا كَانَ حَربًا عَلَى الشَّرعِ وَقَلبًا لِمَوَازِينِهِ، عَلَى طَرِيقَةِ المُنَافِقِينَ الَّذِينَ إِذَا قِيَلَ لَهُم: لا تُفسِدُوا في الأَرضِ قَالُوا: إِنَّمَا نَحنُ مُصلِحُونَ، فَمِثلُ هَذَا التَّغيِيرِ يَجِبُ الوُقُوفُ في وَجهِهِ وَمُحَارَبَتُهُ وَصَدُّهُ، وَالثَّبَاتُ عَلَى الحَقِّ الَّذِي يَسعَى دُعَاةُ هَذَا التَّغيِيرِ إِلى زَعزَعَتِهِ، وَقَد مَدَحَ اللهُ في كِتَابِهِ مَن لم يُبَدِّلْ وَلم يُغَيِّرْ مِثلَ تَغيِيرِ هَؤُلاءِ فَقَالَ: (مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً) [الأحزاب: 23].

وَفي المُقَابِلِ فَإِنَّ مِنَ التَّغيِيرِ مَا يُعَدُّ إِنكَارًا لِمُنكَرَاتٍ ظَاهِرَةٍ، أَو تَصحِيحًا لأَغلاطٍ مُتَرَاكِمَةٍ، أَو تَحسِينًا لأَوضَاعٍ مُتَرَدِّيَةٍ، أَو إِحقَاقًا لِحَقٍّ أَو إِبطَالاً لِبَاطِلٍ، فَمَرحبًا بِمِثلِ هَذَا التَّغيِيرِ وَحَيَّ هَلاً بِهِ.

أَلا فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ- وَكُونُوا عَلَى صِلَةٍ بِعُلمَائِكُم مِن أَهلِ الحَلِّ وَالعَقدِ، وَاحرِصُوا عَلَى الاجتِمَاعِ وَالأُلفَةِ، وَاحذَرُوا التَّنَازُعَ وَالفُرقَةَ، وَاحمَدُوا اللهَ عَلَى مَا أَنتُم فِيهِ مِن آلاءٍ ونِعَمٍ، فَقَيِّدُوهَا بِدَوَامِ الشُّكرِ، وَاحفَظُوهَا بِمُوَالاةِ الطَّاعَاتِ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (وَإِذَا جَاءَهُم أَمرٌ مِنَ الأَمنِ أَوِ الخَوفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَو رَدُّوهُ إِلى الرَّسُولِ وَإِلى أُولي الأَمرِ مِنهُم لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَستَنبِطُونَهُ مِنهُم وَلَولا فَضلُ اللهِ عَلَيكُم وَرَحمَتُهُ لاتَّبَعتُمُ الشَّيطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء: 83].

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالى وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَاعلَمُوا أَنَّ التَّغيِيرَ لِلأَحسَنِ، لا بُدَّ أَن يَكُونَ مَبدَؤُهُ مِنَ النُّفُوسِ، انطِلاقًا مِن قَولِهِ تَعَالى: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم) [الرعد: 11].

إِنَّهُ لا يُصِيبُ أَحَدًا مُصِيَبَةٌ إِلاَّ بِسَبَبٍ مِنهُ وَبمَا كَسَبَتَهُ يَدَاهُ، ولا يُمكِنُ أَن يَعُودَ لِسَابِقِ مَا هُوَ عَلَيهِ مِن نِعمَةٍ وَخَيرٍ إِلاَّ بِالتَّغيِيرِ لِلأَصلَحِ، وَإِنَّنَا لَنَرَى في أَنفُسِنَا اليَومَ تَقصِيرًا كَبِيرًا وَتَفرِيطًا كَثِيرًا، وَحَيدَةً عَن جَادَّةِ الحَقِّ، وَمَيلاً عَنِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ، صَلَوَاتٌ تُضَاعُ، وَشَهَوَاتٌ تُتَّبَعُ، وَتَعَلُّقٌ شَدِيدٌ بِالدُّنيَا وَزَخَارِفِهَا، وَغَفلَةٌ مُطبِقَةٌ عَنِ الآخِرَةِ وَنَعِيمِهَا، أَلا فَلْيَكُنْ مُنطَلَقُ التَّغيِيرِ مِنَّا تَوبَةً إِلى اللهِ صَادِقَةً، وَعَودًا إِلَيهِ حَمِيدًا، لِنُرِهِ مِن أَنفُسِنَا خَيرًا وَلنَكُنْ مَعَهُ سُبحَانَهُ لِيَكُونَ مَعَنَا: (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ) [النحل: 128].
 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي