إنه الواعظ الصامت -يا عباد الله-، إنه القبر الذي لا يتكلمُ ولكنَّ صوتَه في أعماق الناس أعلى من صوت الواعظ الجهوري الصوت، إنه القبر الذي لا يملك العبارات المنمقة ولا يحرك يديه ولا وجهه ليجذب جمهور المستمعين والمشاهدين لخطبته؛ لأن الجاذبية تركزت فيه هو، وهو يجذب القلوب قبل الأجساد ..
إن الحمد لله نحمده...
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.
معاشر المسلمين: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسير في نفر من أصحابه في حائط لبني النجار، إذ حَادَتْ بِهِ بغلته التي يركبُها فَكَادَتْ تُلْقِيهِ، وَإِذَا أَقْبُرٌ سِتَّةٌ أَوْ خَمْسَةٌ أَوْ أَرْبَعَةٌ، فَقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ يَعْرِفُ أَصْحَابَ هَذِهِ الأَقْبُرِ؟!"، فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا، قَالَ: "فَمَتَى مَاتَ هَؤُلاء؟!"، قَالَ: مَاتُوا فِي الإِشْرَاكِ، فَقَالَ -عليه الصلاة والسلام-: "إِنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلا أَنْ لا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ"، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ"، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ النَّارِ، فَقَالَ: "تَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ"، قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ... الحديث رواه الإمام مسلم.
إنه الواعظ الصامت -يا عباد الله-، إنه القبر الذي لا يتكلمُ ولكنَّ صوتَه في أعماق الناس أعلى من صوت الواعظ الجهوري الصوت، إنه القبر الذي لا يملك العبارات المنمقة ولا يحرك يديه ولا وجهه ليجذب جمهور المستمعين والمشاهدين لخطبته؛ لأن الجاذبية تركزت فيه هو، وهو يجذب القلوب قبل الأجساد.
فهو واعظ بليغ الموعظة مع صمته، ولا يزال يقول لكل إنسان زاره أو مرّ به: تعالَ وهلم إليّ، فكلُّ الطرق تؤدي إليّ، فأنا الحفرة التي توضع فيها الأجداث، بعد أن يبقى أهلها ومالها، أنا المكان الذي يصطدم به من يفر منه، ويلتصق به من يهرب منه: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة: 8].
إنَّه ما من شيء تهرب منه -يا عبد الله- إلا تركته وراءك ظهريًا إلا الموتَ؛ فما يهرب أحد منه إلا وجده أمامه بين يديه.
سوف يحتضنك الموت الذي تفر منه، فهو ينتظرك أبدًا دون تململ، وأنت مع هربك منه تتقدم إليه دون تراجع.
معاشر المسلمين: ولأن القبرَ واعظٌ بليغُ الموعظة، وناصحٌ واضح النصيحة، حث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أكثر من موضع على زيارة القبور، وزار قبر أمِّه فبكى وأبكى من حوله، وقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور فإنها تذكر الموت". رواه مسلم، وللترمذي: "تذكر الآخرة"، وزاد ابن ماجه من حديث ابن مسعود: "وتزهد في الدنيا".
إن زيارة القبور -يا عباد الله- تذكّر مَنْ طبعه النسيان بالنهاية الحتمية، وهي الموت، وهذا من شأنه أن يجعل المرء متذكرًا للآخرة، عاملاً لما بعد الموت.
ألا إنَّ التراب الصامت في المقابر ما هو إلا واعظ بليغ الموعظة، وزيارة ذلك الواعظِ ومجالستُه وكثرة التردد عليه من أكبر أسباب تقوية القلب، وإزالة الغشاوة، فأنت عندما تذهب إلى المسجد يوم الجمعة تستمع إلى واعظ واحد، فالمصلون كثيرون والواعظ واحد، ولكن الصورة على العكس في المقبرة، فكل قبر واعظ، والمقبرة مليئة بالوعاظ، وأنت تستمع إليهم في آن واحد، وتعتبر من حالهم، وهذه حالة فريدة لا تكون إلا في ذلك المكان.
وزيارة القبور تذكر بالموت الذي هو هادم اللذات ومفرق الجماعات، مَنْ أكثرَ ذكرَه تعلق بالآخرة وزادت خشيته، فبادر بالأعمال قبل لحاق الموت بك، يقول رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا ذكر هادم اللذات، الموت"، رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان، وزاد الطبراني: "فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه الله عليه، ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقه عليه".
يقول ابن مسعود -رضي الله عنه- لما سئل: أي الناس أكيس؟! قال: "أكثرهم للموت ذكرًا، وأحسنهم لما بعده استعدادًا، أولئك الأكياس".
وقال عمر بن عبد العزيز: "الدنيا سريعة الفناء، قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء، ثم تخلف في الوفاء، وتنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة وهي سائرةٌ سيرًا عنيفًا، ومرتحلةٌ ارتحالاً سريعًا".
أيها الإخوة في الله: لا بد أن نتذكر ذلك اليوم الذي تتوقف فيه الابتسامات والقهقهات، وتلك الحفرة التي يتوقف فيها الجدال والصرخات، ويتوقف فيها العناد والكبرياء، والإخلاص والرياء، ويتحول الوجه الفاتن، واليد الظالمة، واللسان الكذوب، والعين الخائنة، والقلب القاسي، إلى جماجمَ وأعظمٍ نخرة، ولا يبقى إلا العمل الذي قدمه صاحب القبر.
هناك تزول أسئلة الدنيا: من أنت وماذا تملك، وإلى من تنتسب؟! ولا يبقى إلا سؤال واحدٌ مهم: ما عملك الصالح؟! ما عملك الذي يحيل قبرك إلى روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار؟! يقول رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم-: "يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله". رواه مسلم.
معاشر المسلمين: إننا نريد تذكر الآخرة لكي نعمل لها، إن التذكر مطلوب شرعًا ليكون موصلاً إلى العمل الذي هو من أسباب النجاة من النار، ولا ينفع البكاء والندم بتذكر الموت والآخرة إذا لم يقترنا بالعمل، لا بد من العمل، لا بد من العمل للآخرة، لقد أكثرنا من العمل لدار الغرور فلا بد أن نعمل للآخرة:
يـا بـاني الدار الـمعد لها *** ماذا عملت لدارك الأخرى
ومـمهد الفرش الـوثيرة لا *** تغفل فراش الرقدة الكبرى
أتراك تحصي من رأيت من الـ *** أحياء ثـم رأيتهم موتى
فلـتلحقن بعـرصة الـموتى *** ولتنزلن مـحلة الـهلكى
وإذا رأيت القبر -يا عبد الله-، فتذكر أن له منظرًا فظيعًا، وظلمة شديدة، وضمة وضغطة.
أما المنظر الفظيع والهول العظيم، فقد قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما رأيت منظرًا قط إلا القبر أفظع منه". رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن عثمان وحسنه الألباني.
وأما الظلمة الشديدة، فقد قال -عليه الصلاة والسلام- بعد أن صلى على قبر المرأة التي كانت تَقُمّ المسجد: "إن هذه القبور مليئة ظلمة على أهلها، وإن الله -عز وجل- منورها لهم بصلاتي عليهم". متفق عليه.
وأما الضمة والضغطة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "للقبر ضغطة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ". رواه أحمد وصححه الألباني، وعند النسائي عَنْ ابْنِ عُمَرَ أن رَسُول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ في سعد: هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ، وَفُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَشَهِدَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ، لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ".
قال بعض العلماء: ضَغْطَة الْقَبْر: اِلْتِقَاء جَانِبَيْهِ عَلَى جَسَد الْمَيِّت، ولا يَنْجُو مِنْها صَالِح وَلا طَالِح غَيْر أَنَّ الْفَرْق فِيهَا: دَوَامُ الضَّغْط لِلْكَافِرِ، وَحُصُوله لِلْمُؤْمِنِ فِي أَوَّل نُزُوله إِلَى قَبْره ثُمَّ يَعُود إِلَى الانْفِسَاح لَهُ.
إخوتي في الله: ليتصور الواحد منا الفرق بين ليلتين، الليلة الأولى يجلس فيها بين أهله وأبنائه يلاعبهم ويداعبهم، والليلة التي تليها يدفن فيها في قبره وحيدًا منفردًا، لا يدري ما يكون حاله فيه، أمن المنعمين أم من المعذبين؟!
فارقت موضع مرقدي يومًا *** ففارقنـي السـكـون
الـقبـر أول لـيلـةٍ بالله *** قل لـي مـا يكـون
أول ليلة في القبر، بكى منها العلماء، وشكا منها الحكماء، لا أنيسَ فيها ولا جليس، ولا مناصبَ ولا أموال، ولا زوجةَ ولا أطفال، بل إن أقرب الناس إليك الذي كان يقبلك ويعانقك ويهرع بك إلى الطبيب لأدنى علة، هو من يسعى ويجدُّ مسرعًا في دفنك وإهالة التراب عليك.
متى نراجع حساباتنا مع الله -يا عباد الله-؟! (حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون: 99، 100].
كلا!! الآن تراجع حساباتك؟! الآن تتوب من ذنوبك؟! ألم تكن مدبرًا عن الصلاة والمساجد؟! معرضًا عن القرآن منتهكًا لحدود الرحمن؟! آلآن تتوب؟! أين أنت قبل ذلك؟!
والله لو عاش الفتى في عمره *** ألفًا مـن الأعوام مالكَ أمرِه
متنعـمًا فيها بكـل لذيذة *** متلذذًا فيها بسكنى قصـره
لا يعتريه الهم طولَ حـياته *** كلا ولا تَرِدُ الهموم بصدره
ما كان ذلك كلُه في أن يفي *** فيهـا بأولِ ليلـةٍ في قبره
اللهم ارزقنا عملاً صالحًا نفوز به، اللهم ارزقنا عملاً نرحم به فيزحزحنا ربنا عن النار ويدخلنا الجنة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم...
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
أما بعد:
فيا عباد الله: لا شك أن الانشغال بالدنيا عن الآخرة هو من أكبر أسباب ضعف الاستعداد وجمود العمل لما بعد الموت، ومن جعل الآخرة همّه حسُن عمله؛ يقول الحسن البصري -رحمه الله-: "ما أكثر عبد ذكر الموت إلا رأى ذلك في عمله، ولا طال أمل عبد قط إلا ساء العمل"؛ ولهذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عمر: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك". أخرجه البخاري.
فقِصَر الأمل ومعرفة حقيقة الدنيا وزوالها طريق إلى الاهتمام بالآخرة، وما أضر على العبد من التسويف في التوبة والنظر إلى المعمرين من الناس ظنًّا أن سيكون منهم، يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "يجب على من لا يدري متى يبغته الموت أن يكون مستعدًا، ولا يغتر بالشباب والصحة، فإن أقل من يموت الأشياخ -يعني كبار السن- وأكثر من يموت الشبان، ولهذا يندر من يكبر ويعمر، ولذا قال الشاعر:
يعمر واحد فيغِرُ قومًا *** ويُنسى من يموت من الشباب
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا.
اللهم صلّ على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي