كيف لا يحب الله؟

محمد بن عبدالرحمن محمد قاسم
عناصر الخطبة
  1. إحسان الله مَدعاة لمحبته .
  2. كمال الله مدعاة إلى محبته .
  3. تحقُّق المحبة بشهادة أن لا إله إلا الله .
  4. المواطن التي تظهر فيها المحبة .
  5. محبة الله تعالى سبيل الفوز في الدنيا والآخرة .

اقتباس

ومن لم يتحقَّق بمحبته علمًا وعملاً، لم يتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه؛ وليس ذلك إلا لله وحده؛ ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه، وأهل غضبه ونقمته.

 

 

 

 

الحمد لله الذي نصب طاعته والخضوع له على صدق محبته دليلا، وفَضَّل أهل محبته ومحبة كتابه ورسوله على سائر المحبين تفضيلا. 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مُقِرٍّ بربوبيته، شاهد بوحدانيته، منقاد إليه لمحبته، مذعن له بطاعته، معترف بنعمته، فارٍّ إليه من ذنبه وخطيئته، لا يبتغي سواه ربا، ولا يتخذ من دونه وليًا ولا وكيلا.

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده، أحبُّهم إليه، وأكرمهم عليه. فصلَّى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وجميع عباده المؤمنين عليه، وعلى آله وصحبه، وسلَّموا تسليمًا.

أما بعد: روى الترمذي وحسَّنَه عن ابن عباس مرفوعًا: "أحِبُّوا الله لما يغذوكم به من نعمة". والمحبة -يا عباد الله- تنشأ من الإحسان، ومطالعة الآلاء والنعم؛ فإن القلوب جُبلت على حبِّ من أحسن إليها، وبُغض من أساء إليها، ولا أحد أعظم إحسانًا من الله -سبحانه-، فإن إحسانه على عبده في كل نفَسٍ ولحظة، وهو يتقلب في إحسانه في جميع أحواله، ولا سبيل له إلى ضبط أجناس هذا الإحسان، فضلاً عن أنواعه أو أفراده.

ويكفي أنَّ مِن بعض أنواعه نعمة النفَس التي لا تكاد تخطر ببال العبد، له عليه في كل يوم وليلة أربعة وعشرون ألف نعمة، فإنه يتنفس في اليوم والليلة أربعة وعشرون ألف نفَس، فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه؟ (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم:34].

هذا إلى ما يصرِف عنه من المـَضَرَّاتِ وأنواع الأذى التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة، والعبد لا شعور له بأكثرها، (قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ؟) [الأنبيَاء:42] أي: هو سبحانه المنعم عليهم بحفظهم وحراستهم مما يؤذيهم بالليل والنهار وحده، لا حافظ لهم غيره.

هذا مع غناه التَّام عنهم، وفقرهم التام إليه -سبحانه-. وفي بعض الآثار:" أنا الجواد، ومَن أعظم مني جودًا وكرمًا؟ أبيت أكلأ عبادي في مضاجعهم، وهم يبارزونني بالعظائم". وفي الترمذي، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى السحاب قال: "هذه روايا الأرض، يسوقها الله إلى قوم لا يذكرونه ولا يعبدونه". وفي الصحيحينِ عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا أحد أصبر على أذىً سمِعَه من الله، إنهم ليجعلون له الولد، وهو يرزقهم ويعافيهم". وفي بعض الآثار، يقول الله تعالى: "ابن آدم! خيري إليك صاعد، كم أتحبَّب إليك بالنعم وأنا غني عنك! وكم تتبغض إلي بالمعاصي وأنت فقير إلي! ولا يزال الملَك الكريم يعرج إليَّ منك بعمل قبيح".

ولو لم يكن من تحببه إلى عباده، وإحسانه إليهم، وبرِّه بهم، إلا أنه خلق لهم ما في السموات والأرض، وما في الدنيا والآخرة، ثم أهَّلهم وكرَّمهم، وأرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وشرع لهم شرائعه، وأذن لهم في مناجاته كل وقت أرادوا، وكتب لهم بكل حسنة يعملونها عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، وكتب لهم بالسيئة واحدة، فإن تابوا منها محاها وأثبت مكانها حسنة، وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء ثم استغفره غفر له، ولو لقيه بقراب الأرض خطايا ثم لقيه بالتوحيد لا يشرك به شيئًا لأتاه بقرابها مغفرة.

وشرع لهم الحج الذي يهدم ما كان قبله، فوفقهم لفعله، وكفَّر عنهم سيئاتهم به؛ وكذلك ما شرعه لهم من الطاعات والقرابات، هو الذي أمرهم بها، وخلقها لهم، وأعطاهم إياها، ورتَّب عليها جزاءها، فمنه السبب، ومنه الجزاء، ومنه التوفيق، ومنه العطاء أولاً وآخرًا.

أعطى عبده مالَه وقال: تقرَّبْ بهذا إلىَّ، أقْبَله منك! فالعبد له، والمال له، والثواب منه؛ فهو المعطي أوَّلاً وآخرًا. فكيف لا يُحَبُّ مَن هذا شأنه؟ وكيف لا يستحيي العبد أن يصرف شيئًا من محبته إلى غيره؟! ومَن أولى بالحمد والثناء والمحبة منه؟! ومن أولى بالكرم والجود والإحسان منه؟! فسبحانه وبحمده، لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

ويفرح -سبحانه وتعالى- بتوبة أحدهم إذا تاب إليه أعظمَ فرح وأكمله، ويكفِّر عنه ذنوبه، ويوجب له محبته، وهو الذي ألهمه إياها، ووفقه لها، وأعانه عليها! وملأ سبحانه سمواته من ملائكته، واستعملهم في الاستغفار لأهل الأرض، واستعمل حمَلة العرش منهم في الدعاء لعباده المؤمنين، والاستغفار لذنوبهم، ووقايتهم عذاب الجحيم، والشفاعة إليه بإذنه أن يدخلهم جناته.

فانظروا إلى هذه العناية، وهذا الإحسان، وهذا التحنُّن والعطف، والتحبُّب إلى العباد واللطف التام بهم.

ومع هذا، وبعد أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وتعرَّف إليهم بأسمائه وصفاته وآلائه، ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا يسأل عنهم، ويستعرض حوائجهم بنفسه، ويدعوهم إلى سؤاله، فيدعو مُسِيئهم إلى التوبة، ومريضهم إلى أن يشفيه، وفقيرهم إلى أن يسأله غناه، وذا حاجتهم أن يسأله قضاءها، وهذا كل ليلة.

يدعوهم إلى التوبة وقد حاربوه، وعذبوا أولياءه، وأحرقوهم بالنار، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا، فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ، وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) [البُرُوج:10] قال بعض السلف: انظروا إلى كرَمه! عذَّبوا أولياءه وحرقوهم بالنار، وهو يدعوهم إلى التوبة! فهذا الباب يدخل منه كل أحد إلى محبته سبحانه وتعالى؛ فإن نعمته على عباده مشهودة لهم، يتقلبون فيها عَدَدَ الأنفاس واللحظات.

فإذا انضمَّ داعي الإحسان والإنعام إلى داعي الكمال والجمال، لم يتخلف عن محبة مَن هذا شأنه إلا أردأ القلوب وأخبثها، وأشدّها نقصًا، وأبعدها من كل خير؛ فإن الله فطر القلوب على محبة المحسن الكامل في أوصافه وأخلاقه، ولا أحد أعظم إحسانًا منه سبحانه وتعالى، ولا شيء أكمل منه ولا أجمل، فكل كمالٍ وجمال في المخلوق من آثار صنعه سبحانه، دالٌّ على كمال مبدعه؛ كما أن كل علم في الوجود فهو من آثار علمه، وكل قدرة فمن آثار قدرته؛ ولا نسبة أصلاً بين كمالات العَالَم وكمال الله سبحانه، فيجب أن يكون حب العبد له أعظم من حبه لكل شيءٍ بما لا نسبة بينهما.

ومن لم يتحقق بمحبته علمًا وعملاً، لم يتحقق بشهادة أن لا إله إلا الله؛ فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه، وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه؛ وليس ذلك إلا الله وحده؛ ولهذا كانت لا إله إلا الله أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداؤه، وأهل غضبه ونقمته.

فاتقوا الله عباد الله، وأحِبوا الله بكل قلوبكم، فهذا شأن المؤمنين به. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البَقَرَة:165].

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على نعمه وإحسانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكامل في صفاته وأسمائه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أعرف الخلق بربه، وأشدهم حبًا له، وطلبًا لرضوانه.

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الذين عرفوا أن الغاية من الخلق هي العبادة، والعبادة هي غاية المحبة والذل له سبحانه.

أما بعد: عباد الله: تظهر حقيقة المحبة في مواطن أربعة: عند أخذ المضجع، والانتباه منه، والصلاة، والشدائد.

فعندما يأخذ المؤمن مضجعه، وتفرغ حواسه وجوارحه من الشواغل، فإنه لا ينام إلا على ذكر من يحبه ويشغل قلبه؛ وعند انتباهه من النوم، فإن أول شيء يسبق إلى قلبه ذكر محبوبه الذي كان قد غاب عنه في النوم؛ وعند دخوله في الصلاة، التي هي محك الأحوال، وميزان الإيمان، فبها يوزن إيمان الرجل، ويتحقق مقامه ومقدار قربه من الله ونصيبه منه، فإذا قام إلى الصلاة، واطمأنَّ بذكره، وقرَّتْ عينه بالمثول بين يديه ومناجاته، وانفسح قلبه وانشرح واستراح، دل على حقيقة المحبة؛ وعند الشدائد والأهوال فإن القلب في هذا الموطن لا يذكر إلا أحب الأشياء إليه، ولا يهرب إلا إلى محبوبه الأعظم عنده.

والمحب يتسلى بمحبوبه عن كل مصيبة يصاب بها دونه؛ ولهذا لما خرجت تلك المرأة الأنصارية يوم أُحد تنظر ما فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مرت بأبيها وأخيها مقتولين، فلم تقف عندهما، وجاوزتهما تقول: ما فعل رسول الله؟ فقيل لها: ها هو ذا حيٌّ. فلما نظرت إليه قالت: ما أبالي إذا سلِمْتَ هلَك من هلك!.

وهكذا مصائب الموت وما بعده، ومصائب القيامة، إنما تسهل وتهون بالمحبة، وأعظم المصائب مصيبة النار، ولا يدفعها إلا محبة الله وحده، ومتابعة -رسوله صلى الله عليه وسلم-؛ فالمحبة أصل كل خير في الدنيا والآخرة؛ كما قال سحنون: ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "المرء مع من أحب"، فهم مع الله.

اللهم اجعل حبك أحبَّ إلينا من أنفسنا، ومن الماء البارد على الظمأ.

 

 

  


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي