ومن الدعائم المرتبطة بالإيمان ارتباطًا وثيقًا، والمؤَكِّدة لهذا التكامل بين عناصر الوجود، دعوة الإسلام إلى محبّة الوطن والذّود عنه وفدائه بكلّ غالٍ ونفيسٍ، ففي الأثر: "حبُّ الوطن من الإيمان". وتذكُرُ كُتب السّيرة أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمّا خرج مهاجرًا إلى المدينة قال: "والله -يا مكَّةُ- إِنَّكِ لأحبُّ بلادِ الله إليَّ، ولَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجوني مِنْكِ ما خرجتُ أبدًا" ..
الحمد لله الذي خلق من الماء بشرًا، فجعله نَسَبًا وصِهْرًا، وكان ربُّك قديرًا، أحمدُهُ و أَشْكُرُهُ ربّي له النّعمةُ والفضلُ والثناءُ الحسنُ الجميلُ، وأشهدُ أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شرَّفنا بنعمة الإيمان والإسلام وكفى بهما من نعمٍ. اللهمّ ببابك نقف فلا تطردنا، وإيّاك نسأل فلا تُخيّبنا، وإلى جناب رسولك محمّد -صلى الله عليه وسلم- ننتسب فلا تبعدنا. وأشهد أنّ سيّدنا محمّدًا عبدك ورسولك وصفوتك من خلقك، بعثته إلى الحياة مُبَشِّرًا، وبعثته بالقرآن الكريم هاديًا وفي الأكوان بدرًا نيِّرًا، اللهمّ فصلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وكلّ من سار على دربك، واتّبع سنّتك.
أمّا بعد:
فيا أيّها الّذين آمنوا: مفهوم الإيمان مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالحياة؛ بحيث يؤثّر تأثيرًا واضحًا في السّلوك والعقول والأخلاق والمعاملات والتصرّفات؛ لذلك نجد أنّ الحقّ -تبارك وتعالى- حينما يمدح عباده المؤمنين فإنّما يذكر لهم صفات بشرية دنيويّة ذات علاقة بالواقع، مصداقًا لقوله تعالى: (قد أفلحَ المُؤْمنونَ * الذين هُمْ في صلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * والذين هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * والذين هُمْ للزَّكاةِ فاعِلُونَ) [المؤمنون: 1-4]، ولهذا نجد أنّ النّصوص الدّينية تربط دومًا بين الإيمان وبين العمل؛ يقول رسول الله -صلّى الله عليه وسلم-: "الإيمانُ ما وَقَرَ في القلبِ وصَدَّقَهُ العَمَل".
والإسلام دينُ الأخوّة الإنسانية، والحرية، والحوار، والبناء الحضاري، أركانه الأساسية: كتاب الله وسنّة رسوله، والاجتهاد العقلي المستنير بهديهِما، المتفاعل مع المستجدّات الإيجابية المختلفة فهمًا واستيعابًا وإسهامًا، دعائمه الإيمان والعلم والعمل، حرَّرَ العقول من زيف الأوهام والأساطير والأباطيل، واستنهض الشعوب والأمم لتتخلّص من ضلال العادات والتقاليد، ونزعات الاستعلاء والاعتداء.
ولذلك حرّض ديننا الإسلاميّ الإنسان على فهم الحياة وكشف أسرار الكون، بحثًا وتحقيقًا، واستدرارًا للنّفع، وبرهنة على خالق الموجودات ربّ العالمين، ليعبُدَهُ موقِنًا مقتنعًا، ويحمدَهُ ويذكرَهُ متضرّعًا خاشعًا؛ لأنّ الإسلام في جوهره استسلام للخالق الواحد الأحد، وسِلْمٌ وسلامٌ ومسالمةٌ مع البشر.
كما أعطى ديننا قيمة متكافئة لكلٍّ من المادّة والرّوح، وجمع بينهما في تكامل محكم مراعاة لفطرة الإنسان، فأرسى بذلك عوامل استقامته، وسعيه الدّائب إلى التعمير، وجعل منه نواة المجتمع المتوازن الفاضل؛ قال الحقّ تعالى: (وابْتَغِ فيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ولا تَنْسَ نصيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) [القصص: 77].
ومن الدعائم المرتبطة بالإيمان ارتباطًا وثيقًا، والمؤَكِّدة لهذا التكامل بين عناصر الوجود، دعوة الإسلام إلى محبّة الوطن والذّود عنه وفدائه بكلّ غالٍ ونفيسٍ، ففي الأثر: "حبُّ الوطن من الإيمان". وتذكُرُ كُتب السّيرة أنّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لمّا خرج مهاجرًا إلى المدينة قال: "والله -يا مكَّةُ- إِنَّكِ لأحبُّ بلادِ الله إليَّ، ولَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجوني مِنْكِ ما خرجتُ أبدًا". وفي رواية أخرى: "اللهمّ إنّكَ قد أخرجتني من أحبّ البلاد إليَّ، فأسْكنِّي أَحبَّ البلادِ إليكَ". وهو ما يدلّ على مبلغ حبّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- لبلده، واعتزازه به، لذلك كان من صفات المؤمن الحقّ أن يحبَّ وطنه وأن يعمل على رفعته والإعلاء من شأنه، وأن يضحّيَ بما يستطيع أن يُضَحِّيَ به في سبيل النهوض به والذّود عنه وحمايته من كلّ سوء.
عبادَ الله: نستحضر هذه المعاني في حدث عزيز علينا -أبناءَ وطني-، وهو انتفاضة شباب تونس من هيمنة ابن علي الظّالم، الغاشم، ومن عبث الطرابلسية واستيلائهم على متاع الشعب وآثار تاريخه وحضارته، ثورة غالية استطاع البوعزيزي أن يعلّم شعب تونس كيف يعيش حرًّا أو يموت مجيدًا، التونسيّون حيث جعلوا نصب أعينهم قول الحقّ -تبارك وتعالى-: (كمْ من فِئَةٍ قليلةٍ غلبتْ فِئَةً كثيرَةً بإِذْنِ اللهِ واللهُ مَعَ الصَّابِرينَ) [البقرة: 249]. وقد مَنَّ -سبحانه وتعالى- على شعبنا بالسّيادة والحرّية، فكان هروب الطّاغوت كمرحلة أولى في 14 يناير 2011م بفضلٍ من الله وتوفيقه وتأييده ونصره.
أيّها المؤمنون: إنّ محبّة الوطن اليوم هي ذاتُ أبعادٍ جديدة تتمثّل أساسًا في العمل والبذل في سبيل تجسيم أهداف الثورة وتحقيق التقدّم والنّماء، هذا العمل الذي جعله الإسلام عبادةً نتقرَّبُ بها إلى الله كما نتقرّب إليه بالصلاة والصيام والحجّ؛ ذلك أنّ الله -عزّ وجلّ- قد استخلفنا في هذه الأرض لنعمّرها ونُفِيدَ منها؛ قال تعالى: (هُوَ الذي جعل لكُمُ الأرْضَ ذلولاً فامْشُوا في مناكِبِها وكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ و إليه النُّشُورُ) [الملك: 15]، وهو العمل الذي اشترط فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- الإتقان؛ حيث قال: "إنَّ اللهَ يحبُّ إذا عمِل أحدُكم عملاً أن يتقِنه"؛ لذلك فأَنْ يُحِبَّ الرجل منّا وطنه ويغار عليه اليوم هو أن يعمل ويبذل الجهد الذهنيّ والبدنيّ من أجل رقيّه وازدهاره، لا لأجل تحقيق أهدافه الشخصية ومشاريع حزبه أو تنظيمه أو تكتّله.
وتعني محبّة الوطن أيضًا نبذ التواكل والقعود، والخلود إلى البطالة والكسل، "فمن نام لم تنتظره الحياة"، فنحن اليوم في عصرِ تيقُّظٍ وعملٍ لا ينفع فيه التراخي أو المشي على مهل، بل لا بدّ من مجاراة الأمم المتقدّمة الطموحة، وبذل كل ما في الوسع للالتحاق بها في الأعمال المفيدة، فالشراكة تفرض علينا جودة البضاعة وصدق الوعد في التجارة والإتقان؛ حتى تضاهي بضاعتنا بضاعتهم أو تفوق، ومسؤوليتنا في هذا جسيمة، ولا يتحقق لنا ذلك إلاّ إذا صدق حُبُّنا لوطننا، وأقلعنا عن العادات السلبيّة التي تحبط العزائم، قال تعالى: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 139].
وتعني محبّة الوطن اليوم أيضًا عدم الإسراف في استنزاف خيرات البلاد وثرواتها الطبيعية، وعدم انفراد البعض باستغلالها عن البقية، تحقيقًا لمبدأ الاعتدال والعدالة في الاستهلاك والإنفاق الذي ميّز الله به المؤمنين من عباده، حين قال تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) [الفرقان: 67].
وتعني محبّة الوطن اليوم حماية بيئته ورعايتها من كلّ ما من شأنه الإساءة إليها بتلويثها، ولهذا أشارت النّصوص الدّينية إلى ضرورة استصلاح الأرض وغراسة الأشجار، والآيات والأحاديث عديدة في هذا المجال.
وحبّ الوطن يعني أيضًا تكريس مبدأ التضامن بين أفراده دعمًا لروح التآزر والتراحم التي حثّ عليها الدّين الحنيف في مثل قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2]، وقول النبيّ -صلى الله عليه وسلّم-: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضُه بعْضًا".
عباد الله: إنّ حرص كُلّ فرد من أفراد المجتمع على تحقيق هذه المعاني فيه وفاءٌ لقيم الإسلام السمحة الزكيّة، يؤكد به جدارته بالاستخلاف، وفيه أيضًا تأكيد لمحبّة الوطن والوفاء لأمجاده والتطلّع إلى مستقبل أفضل.
اللهم وفقنا لرفعة ديننا ووطننا، واجعلنا هادين مهديين، غير ضالين ولا مضلّين، أقول ما تسمعون فإن كان حسنًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن الشيطان ومن نفسي، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدي ولوالديكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله المستحقّ للحمد على جميع الأحوال، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، شهادة من تفتّح قلبه لبالغ العظات واتّبع رضوان ربّه في الجهر والخلوات، ونشهد أنّ سيّدنا محمّدًا عبده ورسوله، ميّزته بالرسالة الخاتمة فاستحقّ من ربّه أعلى الرّتب والمقامات، اللهم فصلّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه إلى يوم قراءة الكتب ونشر الرسالات.
أمّا بعد:
أيّها الناس: لقد شملت رحمةُ اللهِ وعنايتُه الإنسان، وتعدّدت مظاهرُ ذلك في كلّ ما يتعلّق بهذا المخلوق، باعتباره الكائن الذي اختاره المولى -تبارك وتعالى- لعمارة الأرض، قال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) [هود: 61]، وعمارة الأرض لا تكون إلاّ بالعمل والكدّ لتحقيق الرزق، والإنسان محلّ عناية الخالق سبحانه لأنّه المعنيُّ دون سائر المخلوقات بتنفيذ أوامر الله ونواهيه من أجل تحقيق الإصلاح وضمان أسباب الصلاح، قال تعالى: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88].
عباد الله: لقد برزت العناية بالإنسان شابًا، وذلك بالدّعوة إلى مصاحبته وإلى توجيهه إلى ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه، خصوصًا أنّ فترة الشباب هي من أهم فترات حياة الإنسان التي يتوافر فيها النشاط بعوامله المختلفة، ويحلّق فيها الخيال في آفاقه الواسعة، لذلك فإن واجبات المجتمع تجاه الشباب كبيرة ومهمة؛ خاصة في ظل تسارع التحوّلات التي تشهدها المجتمعات، فهذه الفئة المهمة، التي نفخر في تونس بأنّها هي الأرفع نسبة، تتطلّب من المجتمع الإحاطة وتوفير أسباب التعلّم في مختلف الاختصاصات التي تعتبر في عصرنا مفتاح كلّ نجاح.
والمجتمع مدعوٌّ أيضًا إلى الاستماع للشباب باعتبارهم قلب الأمّة النابض وغدها الباسم؛ إذ هو عماد المجتمع وسبيله نحو الرّفعة والتقدّم، بعقولهم وسواعدهم تُبنى الحضارات، فإذا أراد الله تعالى بأمّة خيرًا هيَّأَ لها من شبابها عناصر عاملين مخلصين يقدّرون مسؤولياتهم، ويؤدّون واجباتهم على أكمل الوجوه، أمّا إذا أراد الله تعالى بأمّة شرًّا هيَّأَ لها من شبابها عناصر الانحراف والإجرام والهدم، نسأل الله تعالى لبلادنا وشبابنا العافية والسلامة.
نفعني الله وإياكم بأسرار كتابه المبين، ووفّقني وإياكم للوقوف مع آدابه التي بها الفوز المكين، وحشرنا جميعًا في زمرة نبيّه الكريم.
اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، وآمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمنًا سخيًّا رخيًّا وسائر بلاد المسلمين، اللهم إنَّا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ومن الخوف إلا منك، ومن الذل إلا لك، نعوذ بك من عُضال الداء، ومن شماتة الأعداء، ومن السَلْب بعد العطاء، اللهمَّ بفضلك ورحمتك أعلِ كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين، وخذ بيد شعبنا إلى ما تحب وترضى، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير. والحمد لله رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي