يظن كثير من الناس أن الاعتبار والتفكر إنما هو في الخلق -خلق السماوات والأرض وسائر المخلوقات- فحسب، وينسون ويغفلون عن الاعتبار بتدبير الله تعالى لهذا الخلق، لا سيما الإنسان، كيف يدبر شأنهم؟! كيف يقضي بينهم؟! كيف يرزقهم؟! كيف يفنيهم؟! وكيف يمضي قدره فيهم؟! وغير ذلك من شؤون التدبير الرباني لهذا الخلق ..
الحمد لله الذي أمضى في خلقه قدره، وأجرى بقدرته تدبيره لهم بلطفه، وأنفذ قدره فيهم بهم من حيث لا يشعرون، وأشهد أن لا إله إلا هو، الله الواحد القهار، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فاتقوا الله -معاشر المؤمنين-.
أيها المسلمون: لا يشك عاقلٌ أنَّ الدنيا كلَّها -صغيرَها وكبيرَها، ذرتهَا ومجرتَها، خلقَها وتدبيرَها- مليئةٌ بالعبر، ناطقة بالنذر، بل إنَّ ذرةً صغيرةً منها فيها عبرٌ لا يحصيها إلا من خلقها، فكيف بكل شيء في هذه الدنيا؟!
وإنَّ الاعتبار بخلق الله تعالى، لمن أعظم سبل صلاح الإنسان، فكم في الاعتبار بخلق الله تعالى وتدبيره من عبر؟! وكم فيه من مُدكر؟!
يظن كثير من الناس أن الاعتبار والتفكر إنما هو في الخلق -خلق السماوات والأرض وسائر المخلوقات- فحسب، وينسون ويغفلون عن الاعتبار بتدبير الله تعالى لهذا الخلق، لا سيما الإنسان، كيف يدبر شأنهم؟! كيف يقضي بينهم؟! كيف يرزقهم؟! كيف يفنيهم؟! وكيف يمضي قدره فيهم؟! وغير ذلك من شؤون التدبير الرباني لهذا الخلق، فإلى حديث موجز عن هذا الاعتبار بهذا التدبير:
أيها المؤمنون: لقد ملأ ربنا سبحانه كتابه من خبر تدبيره، وقصّ علينا نبأ تصريفه للأمم السابقة، حتى لنجد أنها تفوق عدد آيات التفكر في الخلق؛ ذلك أن الإنسان حين تغمره الغفلة ويغشاه النسيان يعظم طغيانه ويشتد في إفساده، والله تعالى جعل الإنسان فتنة للإنسان، ربما حمله على الكفر والفسوق والعصيان، وربما خاف منه وأقلق حياته، وربما علّق به أمله وربط به مصيره، والإنسان صراعه في هذه الحياة إنما مع بني جنسه في أغلب حياته، وحين يعقل الإنسان تدبير الله تعالى لهذا الإنسان ويعتبر به فإن أخاه الإنسان -مهما ملك- لن يخيفه وإن كان يحذره، ولا يملك له ضرًّا ولا نفعًا ولا حياة ولا موتًا ولا نشورًا، ونحن اليوم نعرض لنماذج يسيرة من هذا التدبير الرباني العجيب الذي يظهر ضعف الإنسان مهما ملك أمام قدر الله تعالى وقدرته، والذي ينطق بأن المدبر الحق هو الله تعالى، وأن الإنسان ما يشاء إلا أن يشاء الله تعالى، فلنا عبرة في أممٍ سابقةٍ مسها أَخْذُ رَبِّنا الأَلِيم الشَدِيد وَهِيَ ظالِمَةٌ، فإنَّ فيها عبرةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ.
فلنا عبرة فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ، وذلك حين تلاقى حزب الإيمان بقيادة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وحزب الشيطان بقيادة أبي جهل اللعين في موقعة بدر الكبرى من حيث لا يريدون: (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا) [الأنفال: 42]، حيث كان عدد المؤمنين وكان عدد الكافرين.
ومن عجيب تدبير الله تعالى في هذه الغزوة أنَّه -سبحانه وتعالى- أظهر تمام قبضه وحكمه في خلقه، حيث تحكّم في رؤيا النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا) [الأنفال: 43]، مع أنهم ضعفاهم، كل ذلك من الله تعالى حتى يحفظ جنده من الفشل: (وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [الأنفال: 43].
يا لله، من الذي له على الرؤى من خلق الله سلطان، سبحانك يا ربنا سبحانك!! بل ينفذ حكم الله تعالى في أعين الفئتين دون أن يشعروا بشيء من ذلك، فيقلل عدد الكافرين في أعين المؤمنين، ويقلل عدد المؤمنين في أعين الكافرين؛ ليمضي سبحانه قدره وأمره من خلال التحام الصفين: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)، ويلتحم الحزبان ثم ينتصر المؤمنون، (وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) [آل عمران: 13]، أي والله!! إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار!! فما يدبر الأمر إلا هو، فلا تتعلق القلوب بسواه، إنه لا يعتبر بهذا إلاّ أولو الأبصار، فالعبر ما أكثرها، ولكن ما أقل المعتبرين؟! أرأيتم كيف أمضى الله أمره بالرؤيا والتحكم في الأعين من حيث لا يشعرون؟! لا إله إلا الله.
ولنا في إخْرَاجِ الله تعالى ليهود بني النضير الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ من المدينة عبرةٌ، بعدما ظَنَّ أهل الإسلام أَنْ لا يَخْرُجُوا لشدة منعة حصونهم، وَبعدما ظَنُّوا هم أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ، لقد غرتهم منعةُ حصونهم حتى نسوا قوة اللّه التي لا تردها الحصون! ولا تمنع منها الصياصي المشيدةُ في السماء!! (فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر: 2]، أتاهم من داخل حصونهم؟! لا بل أتاهم من داخل أنفسهم هم!! من داخل قلوبهم!! لا من داخل حصونهم! أتاهم من قلوبهم التي بين جوانحهم، يا لها من قدرة ما أعمقها وما أنفذها!! إنها عبرة تقول: إنه لا أحد يدبر نفسه، ولا يستطيع أحدٌ أن يحكم أمر نفسه، فما له من مدبر غيرَ الله تعالى، إن الخلق لا يملكون ذواتهم، ولا يحكمون قلوبَهم، ولا يمتنعون على الله بإرادتهم وتصميمهم! فضلاً عن أن يمتنعوا عليه ببنيانهم وحصونهم، وقد كانوا يحسبون حساب كل شيء إلا أن يأتيهم الهجوم من داخل كيانهم.
إن من أشدِ عجائب التدبير الرباني أن الله تعالى يمضي قدره بإرادة بني آدم، أما ترون كيف أمضى الله تعالى أمره في إرسال موسى -عليه السلام- إلى فرعون؟! يكتب سبحانه ميلاد موسى في السنة التي يقتل فيها فرعون بني إسرائيل، ثم تلقيه أمه في اليم بعيدًا حيث لا يرى، ثم يكتب سبحانه أن يفلت التابوت من يد أم موسى، فيذهب إلى بيت فرعون، يا لله!! فيصير في حجر فرعون، يا فرعون: هذا موسى بين يديك صغيرًا رضيعًا، ألا تقتله؟! كلا، لقد لبثت تقتل وتقتل بني إسرائيل جيلاً بعد جيل حتى تسلم من موسى، فها هو يضعه رب العزة والجلال بين يديك، ألا تقتله إن كان لك من الأمر شيء؟! كلا لن تقتله، إن هلاكك على يديه، وتمضي الأيام فإذا موسى رسول رب العالمين، ويهلك الله فرعون على يد موسى -عليه السلام-، الله أكبر!!
(لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
ولنا عبرة جليلة في يوسف وإخوته، كيف أخرجه الله تعالى من بين أبويه وتآمر عليه إخوته، ثم يجعل الله تعالى هذا التآمر ووضْع يوسف في البئر مفتاح التمكين ليوسف في الأرض، وينتقل من غيابة البئر إلى عالي القصر لعزيز مصر، (وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) [يوسف: 21]، إن يد البشر وضعت يوسف في الجب لتخفضه فتتلقفه يد الله لترفعه: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [يوسف: 21].
سبحان من توحد بالبقاء، وتنزه عن الفناء، من كان بالتدبير متفردًا، وبتصريف الأحوال متوحدًا، لا تغيره الحوادث فهو مغيرها، ولا تجري عليها تقلبات الأحوال فهو مقلبها، سبحانه (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 26، 27].
لقد كانت الأيام المنصرمة والأسابيع الماضية، مليئة بتغير الأحوال المتباينة، وصنوف التصريف المتعددة، وأنواع التدبير الرباني المختلف، فقد أتى علينا أحوال جوية غاية في التغير والاختلاف، من سحاب قد أخرج ودقه، وغيث عم الأرض فاخضرت وأنبتت، إلى موجة من الأتربة وسحب قاتمة من الغبار تظلل الناس وتدخله معهم في بيوتهم ومساجدهم وفي كل مكان، فصار التراب للهواء قرينًا، يدخل معه حيث دخل، كما شاهدنا أحوالاً سياسية أثارت الدهشة والاستغراب، وأصيب الناس معها بالذهول العجاب من تطوح حكومات دامت سنين، وذلها من بعد عز، وفزعها من بعد أمن، ودول شاعت بها الفوضى بعد استقرارها، وأزهقت فيها أنفس، وخربت مساكنها وتبعثرت الحياة فيها، كما قد مرت علينا أحوال اقتصادية انتعشت بها أنفس وسرت بها مساكين وطابت بها قلوب، وصور ومشاهد غير ذلك من الأحوال المتغيرة والصروف المتباينة مرت علينا وتمر أتت وتأتي، مليئة بالدروس والعبر.
وإن كان تغير الأحوال ذا عبر واعظة، وآيات زاجرة، فإن الدرس الأكبر لتغير الأحوال، والعبرة الكبرى لتبدل الأوضاع، أنها ناطقة ببقاء الله تعالى وعظمته وجلاله وكبريائه، وتوحده بالملك، وتفرده بالتدبير، وأنه الغني وكل ما سواه فقير، وأنه المدبر وكل من سواه مدبَّر، وأنه القاهر والواحد القهار وكل ما سواه مقهور، وأنَّ الخلق مهما علوا وملكوا وصنعوا لا يعدون أن يكونوا خلقًا لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا، إنَّ هذه العبرة وهذا الدرس يقودنا إلى إجلال الله تعالى ومخافته وخشيته والاعتصام به.
يا لله، أي عظمة ربانية وقدرة إلهية تنطق بها هذه الأحوال، ماذا بقدرة الخلق أن يصنعوا حين يثار في أجوائهم أتربة أخف منهم وزنًا، وأدق منهم حجمًا، لا شيء إلا ما يشاؤه الله تعالى.
كم نحن بحاجة إلى استنطاق الأحوال لتصلنا بالله تعالى، واستخراج ما في القدر الرباني من عبر؛ حتى تكون قلوبنا لربنا شاهدة، ومنه خائفة، وله معظِّمة؟!
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي