معاني الأمانة .. وكارثة جدة

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي
عناصر الخطبة
  1. أسباب كارثة جدة .
  2. الأمانة وحقيقتها .
  3. صور من خيانة الأمانة .
  4. دروس من الكارثة .

اقتباس

وإن أهم الدروس التي يجب أن نخرج بها مما حدث هو اختيار الأمناء على الدين والأخلاق والأمة ومشاريعها، وأن نتجنب أولئك الذين يتخذون من صيغ المدائح الفارغة، والمجاملات المذمومة، والمزاعم المكذوبة، حِيَلًا لإثراء جيوبهم، وملء خزائنهم، على حساب حياة الناس، وصلاح البلدان، فينتج من ذلك الفساد والإفساد العظيمين ..

 

 

 

 

أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أن المصائب للفرد والأمم سببٌ للرجوع والتأمل في المصاب وأسبابه وكيفية وقوعه؛ حتى لا يتكرر وقوعه فيكون تأثيره أعظم، وكارثته أكبر، في أمة لا تعي حاضرها، ولا تعالج مشكلاتها، وتعلم أن ما أصابها من فسادٍ وكوارث إنما هو ببعض ذنوبها وانفتاحها، وتقليدٍ مقيتٍ للغرب بلا وعي ولا مسؤولية. والأرواح التي فقدت بسبب الإهمال والفساد الإداري الناتج عن المحسوبيات التي طغت فآثرت وأماتت وأتلفت؛ ليركز على أهمية الأمانة التي حينما أضيعت ضاع الناس معها. 

وخيانة الأمانة سببٌ لكل فساد وبلية، وما تؤتى البلاد وتخرب إلا بخيانة الأمانة، (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء:58].

الأمانة -عباد الله- أمرنا بحفظها ورعايتها والقيام بها وأدائها إلى أصحابها، وجُعلت من صفات المؤمنين، (وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون:8، المعارج:32].

إنها الأمانة -إخوتي- التي أخبر النبي أن أداءها والقيام بها إيمان، وأن تضييعَها والاستهتار بها وخيانتها نفاق وعصيان، قال : "لا إيمان لمن لا أمانة له". فمن حرم الأمانة فقد حرم كمَال الإيمان, ومن تلبس بالخيانة فبئسَ والله البطانة! فإن فيه خصلة من خصال المنافقين، قال : "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان" رواه البخاري.

الخيانة دليلٌ على سوء البطانة، دليلٌ على نقص الإيمان بالله جل جلاله، فالإنسانُ إذا كمل إيمانه كملت أمانته، وأداها على أتم الوجوه، وخاف من الله جل جلاله من تبعتها ومسؤوليتها. إذا ضاعت الأمانة سفكت الدماء, وانتهكت الأعراض, وأكلت أموال المسلمين بالباطل. إذا ضاعت الأمانة وتفشت الخيانة فباطن الأرض خير من ظهرها.

وأعظم ما تكون به خيانة الأمانات إذا كانت خيانة لله والرسول ولولي أمر المسلمين، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [الأنفال:27]. نزلت هذه الآية في أحد الصحابة ولَّاه رسول الله أمرًا فقصر فيه؛ وهكذا تضيع الأمانة من قبل من وكلت إليهم المسؤوليات والمشاريع، فإذا بهم خونة للأمانة، وغشَشة للراعي والرعية، وهذا من أعظم الذنوب.

أيها المؤمنون: نجد الأمانة تنظم شؤون الحياة كلها؛ من عقيدة وعبادة، وأدب ومعاملة، وتكافل اجتماعي، وسياسة حكيمة رشيدة، وخلق حسن كريم. والأمانة بهذا المعنى وهذه الحدود سر سعادة الأمم، ويوم كانت أمتنا من أصدق الشعوب والأمم في حمل هذه الأمانة والوفاء بها كانت أمتنا خير أمة أخرجت للناس.

استدان ابن عمر بن الخطاب من أبي موسى الأشعري حين كان واليًا على الكوفة أموالًا من خزينة الدولة ليتاجر بها على أن يردها بعد ذلك كاملة غير منقوصة، واتَّجر ولد عمر فربح، فبلغ ذلك عمر فقال له: إنك حين اشتريت أنقص لك البائعون في الثمن، ولما بعت زاد لك المشترون في الثمن؛ لأنك ولد أمير المؤمنين، فلا جرم أن كان للمسلمين نصيب فيما ربحت، فقاسمه نصف الربح، واسترد منه القرض، وعنفه على ما فعل؛ واشتد في العقاب على أبي موسى لأنه أسرف من أموال الدولة ما لا يصح أن يقع مثله. وهذه أمانة الحاكم الذي يسهر على مال الأمة فلا يحابي بها صديقًا ولا قريبًا.

الأمانة في نظر الشرع صفة واسعة الدلالة، هي بإيجاز: شعور المرء بمسؤوليته في كل أمر يوكل إليه. وبعض الناس يقصِرون فهم الأمانة في أضيق معانيها، وهو حفظ الودائع، وحقيقتها في دين الله أضخم وأجل.

إن الأمانة هي الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها، ويستعينون بالله على حفظها، كما ورد في الدعاء للمسافر: "أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك" حديث صحيح، وعن أنس قال: ما خطبنا رسول الله إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" رواه أحمد، بل كان يستعيذ من ضياعها، كما روى أبو داود أنه كان يقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة".

فمن معاني الأمانة وضع الشيء في المكان الجدير به واللائق له، فلا يسند منصب إلا لصاحبه الحقيق به، ولا تملأ وظيفة إلا بالرجل الذي ترفعه كفايته إليها، فلا اعتبار للمجاملات والمحسوبيات والقرابات، حتى الصحبة لا ينظر إليها. انظروا إلى أبي ذر حين قال: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب يده على منكبي، ثم قال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها" رواه مسلم.

إن الكفاية العلمية والعملية ليست لازمة لصلاح المرء لحمل الأمانة، فقد يكون الرجل حسن السيرة، حسن الإيمان، لكنه ليس أهلًا للمنصب؛ ألا ترون إلى يوسف الصديق -عليه السلام- حين رشح نفسه لإدارة المال لم يذكر نبوته وتقواه، بل طلبها بحفظه وعلمه: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) [يوسف:55]. فالأمانة تعني أن نختار للأعمال أحسن الناس قيامًا بها، فإذا مِلنا عنه إلى غيره لِهوى أو رشوة أو قرابة فقد ارتكبنا بتنحية القادر وتولية العاجز خيانة فادحة.

إن الأمة التي لا أمانة فيها هي من تعبث فيها الشفاعات بالمصالح، وتطيش بأقدار الرجال الأكفاء لتهملهم، وتقدم من دونهم عليهم.

ومن معاني الأمانة أن يحرص المرء على أداء واجبه كاملًا في العمل المنوط به، وأن يحسن فيه تمام الإحسان. إنها الأمانة -عباد الله- التي يمجدها الإسلام بأن يخلص الرجل لعمله، ويُعنى بإجادته، ويسهر على حقوق الناس التي وضعت بين يديه. واستهانة الفرد بما كلف به هو من استشراء الفساد في كيان الأمة وسبب لتداعيه. وخيانة الواجبات وتقديم القرابات والمحسوبيات تتفاوت إثمًا ونكرًا، وأشدها شناعة ما أصاب الدين وجمهور المسلمين، وتعرضت البلاد لأذاه.

وفي الولايات كل من كان واليًا على شيء خاص أو عام فهو أمين عليه يجب أن يؤدي الأمانة فيه، فالقاضي أمين، والأمير أمين، ورؤساء الدوائر ومديروها أمناء، يجب عليهم أن يتصرفوا فيما يتعلق بولايتهم بالتي هي أحسن، وفيما ولوا عليه حسبما يستطيعون، وأولياء اليتامى وناظرو الأوقاف وأوصياء الوصايا كل هؤلاء أمناء، يجب عليهم أن يقوموا بالأمانة بالتي هي أحسن، قال : "إذا جمع الله بين الأولين والآخرين يوم القيامة يرفع لكل غادر لواء يعرف به فيقال: هذه غدرة فلان"، وفي رواية "لكل غادر لواء يرفع له بقدر غدرته، ألا ولا غادر أعظم من أمير عامة" رواه البخاري، أي: ليس أعظم خيانة ولا أسوأ عاقبة من رجل تولى أمور الناس ومشاريعهم فنام عنها حتى أضاعها.

ومن معاني الأمانة أيضًا أن يستغل الرجل منصبه لجر منفعة إلى شخصه أو قرابته، فإن التشبع من المال العام جريمة، قال : "من استعملناه على عمل فرزقناه رزقًا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول" رواه أبو داود.

أما الذي يلتزم حدود الله في وظيفته، ويأنف من خيانة الواجب الذي طوقه، فهو عند الله من المجاهدين لنصرة دينه وإعلاء كلمته، قال : "العامل إذا اسْتُعْمِل فأخذ الحق وأعطى الحق، لم يزل كالمجاهد في سبيل الله حتى يرجع إلى بيته" رواه الطبراني.

وقد شدد الإسلام في ضرورة التعفف عن استغلال المنصب، وشدد في رفض المكاسب المشبوهة، فعن عدي بن عمير قال: سمعت رسول الله يقول: "من استعملناه منكم على عمل فكتمنا مخيطًا فما فوق كان غلولًا يأتي به يوم القيامة" رواه مسلم.

ومن معاني الأمانة أنها تدعو إلى رعاية الحقوق، وتعظيم النفس عن الدنايا، ولا تكون إلا إذا استقرت في وجدان المرء وحافظ عليها، فالأمانة إذًا هي تمثل الكتاب والسنة، فإذا ذهب إيمانه انتزعت الأمانة، فما يغنيه ترديد الآيات، ولا دراسة السنن؛ وأدعياء الإسلام يزعمون للناس ولأنفسهم أنهم أمناء على الأمة، ولكن هيهات أن تستقر الأمانة في قلب تنكّر للحق وأهله! فمن الأمانة حماية الدين وتعاليمه، ونبذ مبادئ التغريب التي تفسد الأمة، وتسبب لها العقوبات الماحقة، والفيضانات المهلكة.

هذه -إخوتي- معاني الأمانة التي نحتاج إحياءها وتمثلها في مجتمعنا ومسؤولياتنا التي أوكلت لنا، هذه الأمانة التي أصبحت غريبةً اليوم في بعض المجتمعات. روى مسلم عن حذيفة بن اليمان عن رسول الله أنه قال: "إن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن وعلموا من السنة"، يقول حذيفة: ثم حدّثنا عن رفع الأمانة وأنه من علامات الساعة حين ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل الوكت، ثم ينام الرجل النومة فتنقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر المجل، أي: أقل، ثم قال: فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، وحتى يقال للرجل: ما أجلده! ما أظرفه! ما أعقله! وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان. رواه مسلم.

إن الأمانة -إخوتي- فضيلة ضخمة، لا يستطيع حملها الرجال المهازيل، وقد ضرب الله المثل لضخامتها، فأبان أنها تثقل كاهل الوجود كله، فلا ينبغي للإنسان أن يستهين بها، أو يفرط في حقها، ومع كل ذلك فقد تحملها الإنسان.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72]. اللهم ارزقنا الأمانة وجنبنا الخيانة.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

وبعد: فاتقوا الله عباد الله. إن ما حدث في مأساة جدة ينبهنا جميعًا إلى أهمية الأمانة وأثر الاهتمام بها، وكيف نبه إليها خادم الحرمين الشريفين وحاول من خلال بيانه علاج المأساة، ومواساة أهلها، والبحث عن المتسبب بها مهما كان منصبه وقرابته، ومن ثم عقوبته.

وإن أهم الدروس التي يجب أن نخرج بها مما حدث هو اختيار الأمناء على الدين والأخلاق والأمة ومشاريعها، وأن نتجنب أولئك الذين يتخذون من صيغ المدائح الفارغة، والمجاملات المذمومة، والمزاعم المكذوبة، حيلًا لإثراء جيوبهم، وملء خزائنهم، على حساب حياة الناس، وصلاح البلدان، فينتج من ذلك الفساد والإفساد العظيمين. وهذا من إضاعة الأمانة.

عن أبي هريرة أن رسول الله جاءه أعرابي فقال: يا رسول الله! متى الساعة؟ فمضى يحدث فقال بعض القوم: سمع ما قال فكرِه ما قال، وقال بعضهم: بل لم يسمع. حتى إذا قضى حديثه قال: "أين السائل عن الساعة؟" قال: ها أنا يا رسول الله. قال: "إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة". قال: كيف إضاعتها؟ قال: "إذا وُسَّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" رواه البخاري.

والمحافظة على حقوق الله وحقوق العباد تتطلب خُلُقا لا يتغير بتغير الأيام، وذلك هو جوهر الأمانة.

إنه من الخطر أن يتراجع الإيمان، وتخون الضمائر، ويُنال من المال العام؛ لينتج بعد ذلك مصائب تمطر البلاد والعباد. من الخطر أن تختصر بعض المشاريع الكبرى التي وضعتها الدولة لعموم الناس فتنفذ على الورق وتذهب ميزانيتها إلى جيوب ذئابٍ بشرية هجرت الغابات واستوطنوا المدن لينقضوا على مشاريعها الكبرى بفسادهم، وليعبثوا بالميزانيات، فإذا ما جاءت الأمطار أو غيرها من المصائب أظهرت عوار هذه الذئاب، وتركت المدن تواجه أقدارها.

ولذلك كان لا بد من هذه الغضبة لولي أمر هذه البلاد وهو المسؤول الأول عن رعاية الدين والخلق التي تمثلت في لجنةِ تحقيق غير مسبوقة، ندعو الله أن تضرب بيدٍ من حديد على كل فسادٍ إداري أو مالي، جاعلة العدل والحقوق مرجعها، ومصالح الناس غايتها، وخادم الحرمين ضمانتها.

وندعو لتفعيل هذه اللجنة في كل مكان لتكون درسًا لكل من تسول له نفسه الولوغ بالمال العام، والعبث بمصالح الناس، وهدم منجزات الوطن، والتعدي على الأراضي والحقوق، كائنًا من كان منصبًا أو أسرة، فهذه خيانة للأمانة الملقاة تستلزم المحاسبة والتشهير بمن خانها للعبرة والعظة.

اللهم إنا نسألك أن تصلح قلوبنا، وتزكي أعمالنا، وترزقنا الصدق والأمانة، وتطهرنا من الكذب والخيانة، اللهم اخلف علينا في مصاب جدة، وارحم موتانا، واشف مرضانا، وأمن روعهم، واجبر مصابهم، وعوض عليهم ما تلف، وهيئ المسؤولين لخدمتهم وإغاثتهم، والنصر لحقوقهم، والمحافظة عليها؛ اللهم ولّ علينا خيارنا، واكفنا شر شرارنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا أرحم الراحمين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد...

 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي