فالحذَر الحذَر من كَسبِ الأموال من غير سُبُلها المباحَة! ونيلِها من غيرِ طُرُقها المشروعة! فلقد أتتِ المكاسِبُ المحرَّمة على بيوت آكليها فخرَّبتها، ودكَّت صروحَ عزِّهم ومجدِهم فهَدَمتها، فبماذا يكون الجوابُ إذا وقفوا غدًا بين يدي الله -جلّ وعلا- وسألهم عن هذه الأموال بأيّ وجهٍ أخذوها؟ وبأيّ دينٍ استباحوها؟ فأنت -أيّها المسلم- مسؤول عن مالِك: من أينَ اكتَسَبتَه؟ وفيم أنفَقتَه؟ كما صحَّ بذلك الخبر عن المعصومِ صلوات الله وسلامه عليه ..
معاشرَ المسلِمين، إنَّ عالمَ اليوم عالمٌ تغيَّرت فيه كثيرٌ من القِيَم الصّحيحة، وتبدَّلت فيه المفاهيمُ المستقيمة، عالمٌ تكالب فيه البشَر على التنافُس في جلبِ المصالح، واستِحصالِ المنافع. الدّنيا هي المُنيَة، وتحصيلُها هو الغاية، (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ) [النجم:29-30].
والغريبُ أنّ بعضًا من المسلمين استهوته تلك الموجةُ العاصفة، فزلَّت به القدمُ، ومالَت به النفسُ الأمّارة بالسّوء، فراح يجمع الدّنيا بكلِّ طريق، ويستكثِر منها بأيِّ سبيل، حتى صدَق على بعضٍ وليس بالقليلِ إخبارُ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- بقولِه: "ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يُبالي المرءُ بما أخَذَ المالَ أمِن الحلال أم مِنَ الحرام" رواه البخاري.
ولذا حرص الإسلامُ على التوجيهِ الصريح، والإرشادِ الجليّ؛ حتى يكونَ المسلم حريصًا أشدَّ الحرص بتنقيةِ مكاسبِه من كلِّ كسبٍ خبيثٍ، أو مالٍ محرَّم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [النساء:29] (ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ) [البقرة:188]؛ ورسولُنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن أكَل طيِّبًا، وعمِل في سنّةٍ، وأمِن الناسُ بوائقَه دخَل الجنّة" صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي.
معاشرَ المسلمين: المكاسبُ المحرَّمة ذاتُ عواقبَ وخيمةٍ، وآثارٍ سيّئة، أخطرُها وأشدّها أنها سببٌ من أسبابِ دخول النار، ومن أسبابِ غضَب الجبّار، فرسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول لكعبِ بنِ عُجرة -رضي الله عنه-: "يا كعبُ، إنّه لن يربوَ لحمٌ نبت من سُحتٍ إلا كانتِ النّار أولى به" حديث صحّحه الحاكم ووافقه الذهبيّ. والسّحتُ -يا عباد الله- مصطلح شرعيّ يشمل كلَّ مال اكتُسِب بالحرام.
عبادَ الله: إنّ المالَ الحرامَ مِن جميع طرُقه شؤمٌ على صاحبه، وضَرَر على جامعه، فرسولنا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يكسِب عبدٌ مالاً من حَرام فينفِق منه فيبارَك له فيه، ولا يتصدّق به فيقبَل منه، ولا يتركُه خلفَ ظهرِه إلاّ كان زادَه من النار" رواه أحمد والبيهقي وسنده حسن.
ولهذا، فمِن أسبابِ الشّقاء الشامِل، وعواملِ الخذلان المستمرِّ على بلدانِ المسلمين هو جمعُ الأموال من طريقِ المكاسب المحرَّمة، والوسائلِ الخبيثة، وإلاَّ فهل مُنِعت الاستجابةُ إلاَّ بسبَبِ المكاسب المحرّمة؟! وهل وقعتِ المصائب والإحَن إلاَّ بانتشارِ الخبائِث والموبقات؟! روى مسلم في صحيحه أن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- ذكَرَ الرجلَ يطيل السّفرَ "أشعثَ أغبرَ، يمدّ يدَيه إلى السّماء، يقول: يا ربِّ! يا ربّ! ومطعمُه حرام، وملبسه حرام، وغذِّيَ بالحرام، فأنى يستَجاب لذلك؟!" رواه مسلم.
وفي الحديثِ عند الترمذيِّ بإسنادٍ صحيح: "لا تقبَل صلاةٌ بغير طهور، ولا صدقةٌ من غُلُول"، والغلول عندَ أهلِ العلم مصطلحٌ لكلِّ ما اكتُسب من طريقٍ غيرِ شرعيّ عن طريق النّهب والسّلب.
قال مالكُ بن دينار: "أصابَ الناسَ في بني إسرائيلَ قحطٌ فخرجوا مِرارًا فلم يسقَوا، فأوحى الله إلى نبيِّهم أن أخبِرهم أنّكم تخرجون إليَّ بأبدانٍ نجِسة، وترفعون إليَّ أكُفًّا قد سفَكتُم بها الدماءَ، وملأتم بطونَكم من الحرام، الآنَ قد اشتدَّ غضبي عليكم، ولن تزدادوا مني إلا بُعدًا".
أيّها المسلمون: آكلُ الحرام منزوعُ البَركة، مسلوبُ الاستقرار والطمأنينةِ، لا يقنَع بخير يأتيه، ولا يعينه كثيرٌ يجنيه، عن أبي سعيد الخدريِّ -رضي الله عنه- قال: قام فينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطيبًا فقال: "لا والله، ما أخشى عليكم -أيّها الناس- إلاّ ما يخرج الله لكم من زهرةِ هذه الدنيا" إلى أن قال: "فمن يأخُذ مالاً بحقِّه يبارَك له فيه، ومن يأخُذ مالاً بغير حقِّه فمثَلُه كمَثل الذي يأكُل ولا يشبَع" رواه البخاري ومسلم. وفي الحديثِ الصحيح أيضًا: "فإن كذَبا وكتَما مُحِقت بركةُ بيعهما".
فيا أيّها المسلم: إن كنتَ تحِبّ نجاتَك، وترجو سعادتك، فأطِب كسبَك، ونقِّ مالَك، وتخلَّص من حقوق غيرك، فرسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كانت عندَه مظلمةٌ لأخيه من مالٍ أو عِرض فليأته فليستَحلِله من قبلِ أن يؤخَذَ منه وليسَ ثَمّ دينارٌ ولا دِرهم، فإن كانَت له حسناتٌ أخِذَ من حسناتِه لصاحِبِه، وإلاّ أخِذ من سيّئات صاحبه فطُرِحت عليه فطرِح في النار" رواه البخاريّ.
فالحذَر الحذَر من كَسبِ الأموال من غير سُبُلها المباحَة! ونيلِها من غيرِ طُرُقها المشروعة! فلقد أتتِ المكاسِبُ المحرَّمة على بيوت آكليها فخرَّبتها، ودكَّت صروحَ عزِّهم ومجدِهم فهَدَمتها، فبماذا يكون الجوابُ إذا وقفوا غدًا بين يدي الله جلّ وعلا وسألهم عن هذه الأموال بأيّ وجهٍ أخذوها؟ وبأيّ دينٍ استباحوها؟ فأنت -أيّها المسلم- مسؤول عن مالِك: من أينَ اكتَسَبتَه؟ وفيم أنفَقتَه؟ كما صحَّ بذلك الخبر عن المعصومِ صلوات الله وسلامه عليه.
فاجتنِبوا -عباد الله- في جمعكم للأموالِ المسالكَ المعوجَّة، والطرقَ الملتوِية، والمخالفةَ للأحكام القرآنيّة، والتوجيهاتِ النبويّة، والقواعدِ الشرعية. تبصَّروا فيما تقدِمون عليه، وما إليه تتَّجهون من طرُقٍ للمكاسب؛ بحثًا عن حكمِ الشرع الصحيحِ مِن مصادره المعتَمَدة، وعلمائه الثِّقات الربانيّين، فمن اتّقى الله وقاه الله، ورَزقه من حيث لا يحتسِب، ومن حيث لا يخطُر له على بال؛ ومَن ترك شيئًا لله عَوّضه الله خيرًا منه.
اللهمّ أغنِنا بحلالك عن حَرامك، وبفضلِك عمّن سواك.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعنا بما فيه من الهديِ والبيان، أقول هذا القولَ، وأستغفِر الله لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ لله على إحسانِه، والشّكر له على توفيقِه وامتنانه، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ سيّدنا ونبيّنا محمَّدًا عبده ورسوله الداعِي إلى رضوانه، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله عزّ وجلّ، فهي وصيّةُ الله للأوّلين والآخرين.
معاشرَ المسلمين: مِن أعظم الخيانةِ وأقبحِ الأعمال أن يشرِّفَك الله -أيّها المسلم- بحَملِ أمانةِ عملٍ من أعمالِ المسلمين، ثم تتَّخِذ من ذلك العمَل مطيّةً لجمع الأموالِ، ونيلِ المصالح الخاصّة، بالنّهب والسّلب، والتحايُل على ما ليس بحقّ.
فيا أيّها المسلم: اعلم عِلمًا جازمًا أنَّ أيَّ وظيفة من الوظائف، كبيرة أو صغيرة، فهي أمانةٌ عظيمة، ومسؤوليّة كبرى، لا يجوز بأيِّ حالٍ منَ الأحوال أن تجمَعَ الأموال بسبَبِها، أو أن تُكتَسَب بواسطتها، فالحذرَ الحذرَ من ذلك! فلقد أرسَى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو صاحبُ الإصلاح الشامِل، لقد أرسى قاعدًة لا تقبل تأويلَ المتأوِّلين، ولا تعسُّفَ المتعسِّفين، قاعدةً تتضمَّن تحريمَ كسبِ الأموالِ عن طريق الوظائِفِ والأعمال التي للمسلمين، فلقَد استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من الأزدِ على الصّدقة، فلمّا قدِم قال: هذا لكُم وهذا أُهدِيَ إليَّ، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على المنبر فحمِد الله، وأثنى عليه، ثمّ قال: "ما بالُ عامِلٍ أبعثُه فيقول: هذا لكم وهذا أهدِيَ إليّ؟! أفَلا قعَدَ في بيتِ أبيه أو بيتِ أمِّه حتى ينظرَ أيُهدَى إليه أم لا؟! والذي نفس محمّدٍ بيَدِه، لا ينالُ أحدٌ منكم فيها شيئًا -أي: في الأعمال- إلاّ جاءَ بهِ يومَ القيامَة يحمِلُه على عُنُقه" الحديث رواه البخاري ومسلم. وقد بوَّب له البخاريّ بقوله: "هدايا العُمّال غُلول"، قال ابنُ حجر -رحمه الله-: "وفيه إبطالُ كلِّ طريقٍ يَتَوصَّل بها مَن يأخُذ المال إلى محاباةِ المأخوذِ منه والانفرادِ بالمأخوذ".
واعلَم -أيّها المسلم في كلِّ مكان- أنَّ المالَ العامّ في ديار المسلمين من أراضٍ وعقاراتٍ وأموالٍ ومنقولات كلّها الأصلُ فيها العِصمةُ، لا يجوز الانتفاعُ بها في غيرِ محلِّها، ولا يجوز بأيِّ حالٍ الاعتداءُ على شيءٍ منها إلا بطريقٍ شرعيّ معتَبَر عند أهل العلم. فاستمِع -أيّها المتهاوِن بذلك- إلى تحذيرِ الشّرع وزَجرِه وردعه، يقول-صلى الله عليه وسلم-: إنَّ رجالاً يتخوَّضون في أموالِ الله بغير حقٍّ فلهم النارُ يومَ القيامة" رواه البخاري. والمعنى أي: يتصرَّفون في أموالِ المسلمين بالباطل، وهو أعمُّ مِن أن تكونَ بالقسمة أو غيرها كما قرَّره أهلُ العلم.
وجاء عند الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ هذا المالَ خضِرة حلوَة، مَن أصابَه بحقِّه بورِك له فيه، ورُبَّ متخوِّضٍ فيما شاءت نفسُه مِن مال الله ورسولِه ليس له يومَ القيامة إلاّ النار" والعياذ بالله.
ثمّ اعلَموا -أيّها المسلمون- أنّ الله جل وعلا أمَرَنا بأمرٍ عظيم تزكو به حياتنا، وتسعد به أنفسنا، وتطمئنّ به قلوبنا، ألا وهو الإكثار من الصلاةِ والسلام على النبيِّ المختار.
اللهمّ صلِّ وسلِّم على سيدنا ورسولنا محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديِّين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي