وقد يستهين العبد بذنب استصغره فأصرَّ عليه فأورده المهالك، وختم له بالسوء على أثره، وما أُهبط آدم من الجنة إلا بسبب معصية واحدة كان في غنى عنها، وكانت هذه المعصية سبباً لابتلائه، وابتلاء ذريته من بعده، على وفق حكمة أرادها الله تعالى. قال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله تعالى-: "لقد أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً".
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أحسن الحديث كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الناس: لكل بداية نهاية، ولكل أجل كتاب، وسَنتنا هذه كان لها بداية، وها هي الآن تنتهي لتخلفها سنة أخرى تبتدئ ثم تنتهي، وكما كان للدنيا بداية قبل مئات السنين، فإن لها أجلاً تنتهي عنده، لا يعلم حينه إلا الله تعالى.
وهذه الأرض، وما يدب عليها من ملايين البشر والحيوان والوحش والطير، وما فيها من بحار وجبال وعمران، وحركة دائبة لا تتوقف؛ مضى أزمان لم تكن موجودة قبل خلق الله تعالى لها، ومضى عليها زمن بعد خلقها خالية من الأحياء التي تعمرها، وسيأتي على عمرانها يومٌ يعود خراباً كأن لم يكن من قبل؛ وذلك حينما يأذن الله تعالى بانتهاء أجلها، فتُسجَّر بحارها، وتُسيَّرُ جبالها، وتتناثر كواكبها، وتُكورُ شمسها، ويخسف قمرها، وتنشق سماؤها، ويُبعث أحياؤها من بطنها للحشر والحساب والجزاء؛ لتكون نهاية المكلفين من الجن والإنس: الخلود في الجنة أو في النار.
إنها بدايات عجيبة، ونهايات أعجب، علمها العليم الحكيم، وقدرها اللطيف الخبير، في نظام بديع دقيق، ووفق حكمة بالغة.
إن مما يناسب الحديث عنه في نهاية عام وبداية آخر أن ننظر في بداية هذا الأمر كله: في بداية الخلق، وبداية الإنسان، وبداية التكليف، ثم انتهاء ذلك كله على وفق ما جاء في النصوص المعصومة من الكتاب والسنة؛ ومعرفة ذلك تعني معرفة أسباب وجودنا، وماذا يريد منا من أوجدنا من العدم، وربانا بالنعم، ثم ما هو مصيرنا ونهايتنا! والعاقل من يسعى في صلاح ما يبقى، والأحمق من يقدم ما يفنى على ما يبقى؛ فلا ما يفنى بقي له، ولا هو أصلح ما يبقى.
إن علم بدايات الخلق والإنسان والتكليف، ومعرفة المرجع والمصير، ليست عندنا – معاشر المسلمين- أوهاماً نتوهمها، أو تخيلاتٍ طرأت على عقولنا، أو توقعاتٍ أنتجتها أفكارنا، أو استجلبناها من بشر مثلنا.
إنها حقائق من رب العالمين، ويقين مسطور في الكتاب والسنة، جاء فيهما تفصيل البدايات والنهايات، بما لا مجال فيه لمــُــتَوهِّمٍ أو خرَّاصٍ أو كاهنٍ أن يقولوا فيه قولاً؛ فالله تعالى هو الخالق، خلق خلقه لحكمة يريدها، ابتدأهم وهو القادر على إعادتهم وبعثهم بعد موتهم، (وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الروم:27]، وما من موجود على قدره أو انخفض إلا وهو خلقٌ من خلق الله تعالى، وعبد من عبيده، شاء أم أبى.
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن بداية الخلق لما جاءه أهل اليمن فسألوه وقالوا: "جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر ما كان؟ فقال -عليه الصلاة السلام-: كان الله ولم يكن شيءٌ قبله، وكان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وكتب في الذكر كل شيء" رواه البخاري.
وفي رواية له: "كان الله ولم يكن شيءٌ غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السموات والأرض".
وأول شيء خلقه الله تعالى عرشه؛ كما جاء في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعاً قال: "كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء"، فلما أراد -سبحانه وتعالى- تقدير كل شيء خلق القلم، وأمره بالكتابة؛ كما جاء في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن أول ما خلق الله تعالى القلم، فقال له: اكتب، قال: ربّ! وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة" رواه أبو داود والترمذي ولفظه: "اكتب القدر ما كان وما هو كائن إلى الأبد".
وجميع ما خلقه الله تعالى في السموات والأرض مما ينتفع به المكلفون فإنما خلقه الله سبحانه لأجلهم؛ كما قال عز من قائل: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) [الجاثـية:13]. وفي الآية الأخرى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة:29].
وأما بداية البشرية فإن الله تعالى لما أراد خلق أصلهم أخبر ملائكته بذلك، (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ) [البقرة:30]، خلق آدم من طين كما جاء في آيات كثيرة من القرآن، وهذا الطين كان قبضة قبضها الجبار -جل وعلا- من جميع الأرض كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحَزَنُ، والخبيث والطيب" رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وقال الترمذي: حسن صحيح.
وأكرم الله تعالى أصل البشر بأن نفخ فيه من روحه، وأمر ملائكته بالسجود له، (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [ص:71-76].
لقد استكبر إبليس على أمر ربه، واستحقر شأن آدم، وحسده على ما أكرمه الله تعالى به من الخلق، ونفخةِ الروح فيه؛ فأبى أن يسجد له، فحقت عليه لعنة الله تعالى، فأعلن عداوته لهذا المخلوق الجديد الذي طرد من الرحمة بسببه، وأقسم بعزة الله تعالى ليغوينه وذريته: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر:39-40]، (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) [الأعراف:16-17].
إنه ابتلاء ابتلى به آدم -عليه السلام-، وابتليت به ذريته من بعده؛ لحكمة يريدها الله تعالى، وهو العليم الحكيم.
وبعد خلق آدم -عليه السلام- خلقت زوجه من ضلعه؛ كما جاء في الآية (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ) [النساء:1]، وثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "استوصوا بالنساء، فإن المرأة خلقت من ضلع، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه".
أسكن الله تعالى آدم وزوجه جنته، وأباح لهما الأكل منها حيث شاءا إلا شجرة واحدة حرمها عليهما امتحاناً لهما، وكان إبليس ماضيا فيما عزم عليه من إغواء آدم وذريته، وكان يعلم أن لوساوسه مدخلاً عليهم؛ لما رآه من طبيعة خلق أبيهم، وما فيه من مركب الشهوة؛ كما جاء في حديث أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لما صور الله آدم في الجنة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يُطيفُ به، ينظر ما هو، فلما رآه أجوف عرف أنه خلق خلقاً لا يتمالك"، رواه مسلم، والأجوف صاحب الجوف، وقوله: لا يتمالك: أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشهوات، وقيل: لا يملك دفع الوساوس عنه، والمراد جنس بني آدم.
ولأجل ذلك فإن الله تعالى حذر آدم وحواء -عليهما السلام- أشد التحذير من عداوة إبليس ووسوسته، وجعل ثمن طاعتهما لأمر ربهما بعد الأكل من الشجرة المنهي عنها البقاء في الجنة، والتمتع بما فيها من خيرات؛ وبدأ إبليس ينفذ ما وعد من الوسوسة، وكانت تلك هي بداية تكليف آدم وحواء وامتحانهما: (وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأعراف:19]، (فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى) [طـه:117-119].
ولما كانت هذه النعم مشتهاة عند آدم وزوجه -عليهما السلام-، ويجدان فيها من اللذة ما كمل به نعيمهما، فإنهما خشيا من زوالها، وتلك الشهوة كانت هي نقطة الضعف التي تسلل الشيطان من خلالها إلى قلبيهما، (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى * فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) [طـه:120-121].
إنه وزوجه قد زلاَّ الزلة التي نهاهما عنها ربهما، ولكن من رحمة الله تعالى بآدم وحواء وذريتهما من بعدهما أنهما لم يُصرا على الخطيئة كما فعل إبليس، ولم يجادلا كما جادل؛ بل بادرا بالتوبة والاستغفار فور سؤال الرب تعالى لهما: (وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الأعراف:22-23].
فقبِل أرحم الراحمين توبتهما، وعفا عنهما، وأهبطهما إلى الأرض كما أهبط إبليس، وجعل الأرض مقراً للبلاء والامتحان فترة زمنية معدودة هي الحياة الدنيا، (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [الأعراف:24].
وجرى قلم التكليف على ذرية آدم من بعده، وظل إبليس ينفذ وعده، ولا يزال يفعل، وسيظل إلى ما شاء الله تعالى، وانقسم بنو آدم إلى قسمين، وسلكوا طريقين لا ثالث لهما؛ فقسم منهم -وهم الأقل- سلكوا طريق أبيهم آدم -عليه السلام-؛ طريق الإيمان بالله تعالى، والتوبة من الذنوب، والاعتراف بالخطأ. وهؤلاء يلحقون بأبيهم آدم في جنة الخلد برحمة الله تعالى لهم.
وأما القسم الآخر فاتبع طريق إبليس، وخضع لوساوسه، وأطاعه فيما أراد من الكفر والجحود والاستكبار عن عبادة الله تعالى؛ فمآلهم مآل إبليس اللعين، نعوذ بالله من حالهم ومآلهم، ونسأل الله تعالى أن يجنبنا طريقهم، وأن يسلك بنا طريق المرسلين، وأن يجعلنا من عباده الصالحين، إنه سميع مجيب.
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه، واحذروا الذنوب؛ فإن أهل المعاصي جديرون بالعقوبة، وإن أهل الطاعة والاستغفار لحقيقون بالرحمة، (اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة:98].
أيها المسلمون: تنطوي قصة بداية الخلق، وبداية الإنسان، وبداية التكليف على دروس وعبر حقيق بالمسلم أن يتأملها، وينعم النظر فيها، ويتدبر النصوص التي عرضتها، ويتأكد ذلك في وقت التبس فيه الحق بالباطل عند كثير من الناس، وقوي فيه أنصار الشر، وكثرت أحزاب الشيطان؛ لصرف الناس عن دينهم الذي ارتضاه الله تعالى لهم.
وكما ابتلي أبونا آدم -عليه السلام- بوساوس الشيطان فإننا لا ننفك عن الابتلاء بها، مع ما يقوم به شياطين الإنس من ضغوط ومضايقات لصرفنا عن الحق؛ ولا معصوم من الزلة والانحراف إلا من عصمه الله تعالى. وإذا اعتصم المؤمن بربه، واستعاذ به من الشيطان الرجيم، وسأل الله تعالى الثبات على الحق بقلب موقن مخلص، فإن الله تعالى لا يخيبه، وسيكون الثبات والتوفيق حليفاً له.
وإذا ما زَلَّ في حال غفلة وجهل تذكر زلة أبيه -عليه السلام- من قبل، وعمل مثل ما عمل، فبادر بالتوبة والاستغفار، وهرع إلى الله تعالى طالباً الرحمة والمغفرة، وخاف من الإصرار على الذنب، والاستكبار عن التوبة؛ لئلا يكون مصيره مصير إبليس اللعين.
وقد يستهين العبد بذنب استصغره فأصرَّ عليه فأورده المهالك، وختم له بالسوء على أثره، وما أُهبط آدم من الجنة إلا بسبب معصية واحدة كان في غنى عنها، وكانت هذه المعصية سبباً لابتلائه، وابتلاء ذريته من بعده، على وفق حكمة أرادها الله تعالى. قال إبراهيم بن أدهم -رحمه الله تعالى-: "لقد أورثتنا تلك الأكلة حزناً طويلاً".
إن قصة بداية الخلق لتدل على قدرة الخالق وعظمته، واستحقاقه أن يفرد بالعبادة دون ما سواه. فهذه الأحياء المتكاثرة على الأرض، في البر والبحر والجو، وهذا العمران العريض في الأرض، وما في السماء من عجائب الأفلاك والأنجم؛ كل ذلك مضى عليه أزمانٌ لم يكن موجوداً، فأوجد الخالق سبحانه كل ذلك، ودبره أحسن تدبير، وسيره في نظام دقيق عجيب، وجعل له أجلاً ونهاية.
وهكذا البشرية التي تزخر الأرض بهم، ويتكاثر عددهم حتى بلغوا المليارات، كانوا من نسل رجل واحد، فتكاثروا بأمر الله تعالى وتقديره حتى بلغوا ما ترون، ويخلف الأموات منهم أحياء يعمرون الأرض إلى أن يأذن الله تعالى بانتهاء ذلك.
وقد مضى حينٌ من الزمن لم يكن هناك أي بشر: (هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) [الإنسان:1-3].
إنه يجب علينا -أيها الأخوة- أن نفطن لأمر مهم جداً في قصة بداية الخلق، وهو ما منَّ الله تعالى به على آدم لما وقع في الخطأ، وأكل من الشجرة؛ إذ بادر بالتوبة، ولم يسلك مسلك إبليس الذي استكبر وجادل وخاصم، فكانت هذه التوبة من آدم نعمة من الله تعالى، وفضلاً عليه أخرجه بها من غضبه إلى رحمته، وكانت لولده من بعده إذا استزلتهم الشياطين؛ فأبواب التوبة أمامهم مفتوحة.
فهل نحن أهلٌ لشكر المنعم -سبحانه وتعالى- على هذه النعمة العظيمة بلزوم التوبة، وكثرة الاستغفار؟ وثمة نعمة عظيمة أخرى اختص الله تعالى بها هذه الأمة التي تدين بدين محمد -صلى الله عليه وسلم-، تلك هي نعمةُ معرفة قصة بداية الخلق، وبداية الإنسان، وبداية التكليف، ونهايات ذلك كله؛ فأمم الأرض من غير المسلمين تتخبط في ذلك كله بين أقوال أهل الكتاب التي داخلها من التحريف ما أفسدها، وبين أوهام الفلاسفة والمنظرين والكهان والعرافين والمنجمين.
ولقد كانت هذه القضية -أعني معرفة البداية والنهاية- سبباً في انتحار كثير من غير المسلمين، وشقاء الباقين منهم، وحيرتهم في أمرهم ومصيرهم، وقد هدى الله تعالى المسلمين إلى معرفة ذلك عن طريق الوحي الذي تكفل الله تعالى بحفظه؛ فتجد الشيخ المسلم الكبير العامي الأمي يعرف ذلك تمام المعرفة على وجه الإجمال، كما تجد الطفل الصغير في مجتمعات المسلمين يفهم ذلك ويتصوره، وقد عجز عن معرفته كبار النُظَّار والفلاسفة من غير المسلمين، فاللهم لك الحمد على نعمة الإسلام، وعلى نعمة القرآن، ونسألك اللهم الثبات على الحق إلى الممات.
وكما كان عامنا هذا بالأمس يبتدئ ها هو ينتهي، وكما كان للدنيا بداية فإن لها نهاية، وكما يولد الإنسان فإنه يموت، وإذا مات الميت قامت قيامته؛ فاعتبروا -يا عباد الله- واتعظوا، وأحسنوا أعمالكم تحسن خواتمكم، اللهم اختم عامنا هذا بخير، واخلفه علينا بخير، واجعلنا فيه من المقبولين، واحفظ ديننا وأمننا، إنك سميع مجيب.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي