وهناك آدابٌ تحتمها الطِبَاعُ السوية، وتدعو إليها الفطر السليمة، ويتعارف عليها العقلاء من البشر، كالتحلي بالنظافة، والاهتمام بالزينة؛ فالاستنجاء من الأذى، وغسل اليدين قبل الطعام وبعده، وإماطة الأذى عن الطريق، ونظافة البدن واللباس، ومكان العمل والدار، أمور يتفق عليها جميع البشر، ويفعلها المسلم، وقد يفعلها الكافر؛ إذ هي من عادات الإنسان العاقل السوي، فهو يكره القذر، ويحب النظافة ..
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71].
أما بعد: فإن أصدق الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون: تعتني الشريعة ببدن الإنسان كما تعتني بقلبه، وتهتم بصلاح جسده كما تهتم بصلاح دينه وأخلاقه؛ لذا كانت نصوص الآداب والتهذيب تضاهي نصوص الأحكام والتشريع.
وهناك آدابٌ تحتمها الطِبَاعُ السوية، وتدعو إليها الفطر السليمة، ويتعارف عليها العقلاء من البشر، كالتحلي بالنظافة، والاهتمام بالزينة؛ فالاستنجاء من الأذى، وغسل اليدين قبل الطعام وبعده، وإماطة الأذى عن الطريق، ونظافة البدن واللباس، ومكان العمل والدار، أمور يتفق عليها جميع البشر، ويفعلها المسلم، وقد يفعلها الكافر؛ إذ هي من عادات الإنسان العاقل السوي، فهو يكره القذر، ويحب النظافة.
لكن الإسلام من عنايته بأمور الحياة -التي قد يراها الناس من أمور العادة- رتب عليها أجوراً عظيمة، ورغب فيها حتى أضحت سنناً، إذا فعلها المؤمن حسبةً نال أجراً عظيماً، وثواباً جزيلاً.
والعنايةُ بالفم ونظافته، وتطييب رائحته، لِحَقِّ النفس ولحق الغير، ليست تنفك عن عناية الشريعة واهتمامها؛ ولذا شرع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- السواك، ورغب فيه، وأكد عليه؛ حتى أصبح من السنن المؤكدة. قال ابن قدامة -رحمه الله تعالى-: "واتفق العلماء على أنه سنة مؤكدة، لحث النبي -صلى الله عليه وسلم- ومواظبته عليه، وترغيبه فيه، وندبه إليه، وتسميته إياه من الفطرة" اهـ، قال النبي-صلى الله عليه وسلم-: "لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة".
وما ترك النبي-صلى الله عليه وسلم- السواك حتى في المرض الذي مات فيه؛ بل كان السواك آخر فعلٍ فعله قبل أن يتشهد للموت، وهذا يدل على عظيم اهتمامه بشأنه، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "دخل عبد الرحمن بنُ أبي بكر على النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنا مسندته إلى صدري ومع عبد الرحمن سواكٌ رطب يستنُّ به، فأبّده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بصره، فأخذت السواك فقضمته ونفضته وطيبته، ثم دفعته إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فاستن به، فما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- استن استناناً قط أحسن منه، فما عدا أن فرغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رفع يده أو أصبعه، ثم قال: "في الرفيق الأعلى" ثلاثا، ثم قضى. أخرجه البخاري. قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: "وفيه دلالة على أمر السواك لكونه -صلى الله عليه وسلم- لم يخلّ به على ما هو فيه من شاغل المرض".
وأما نوع السواك فشجرُ الأراك، أو غيره مما يحصل به المقصود من النظافة، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يتسوك بالأراك، وثبت أنه تسوك بالجريد، كما في رواية ابن أبي مليكة عند البخاري من حديث عائشة -رضي الله عنها- في قصة سواكه عند موته. قال ابن عبد البر -رحمه الله تعالى-: "وكان سواك القوم الأراك والبَشَامَ. وكلُ ما يجلو الأسنان، ولا يؤذيها، ويطيِّب نكهة الفم، فجائز الاستياك به".
وأما وقت السواك فهو مستحب في جميع الأوقات، قال النبي -عليه الصلاة السلام-: "السواك مطهرة للفهم مرضاة للرب" أخرجه النسائي والدارمي. قال النووي -رحمه الله تعالى-: "لكن في خمسة أوقات أشد استحباباً، أحدهما عند الصلاة، سواء كان متطهراً بماء أو بتراب، أو غير متطهر، كمن لم يجد ماءً ولا تراباً؛ الثاني عند الوضوء، الثالث عند قراءة القرآن، الرابع عند الاستيقاظ من النوم، الخامس عند تغير الفم؛ وتغيره يكون بأشياء منها ترك الأكل والشراب، ومنها أكل ما له رائحة كريهة، ومنها طول السكوت، ومنها كثرة الكلام".
قال الشوكاني: "وقد قامت الأدلة على استحبابه في جميع هذه الحالات التي ذكرها". كما في قول النبي-صلى الله عليه وسلم-: "لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" متفق عليه.
وفي حديث آخر: "لو لا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء" أخرجه مالك وأحمد، وكان -صلى الله عليه وسلم- إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا يرقد من ليل ولا نهار فيستيقظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ" أخرجه أبو داود بإسناد حسن، وفي حديث آخر: "كان-صلى الله عليه وسلم- لا ينام إلا والسواك عند رأسه فإذا استيقظ بدأ بالسواك"، وسئلت -رضي الله عنها: بأي شيء كان يبدأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل بيته؟ قالت: "بالسواك" أخرجه مسلم، وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي بالليل ركعتين ركعتين، ثم ينصرف فيستاك". أخرجه ابن ماجه، وروي عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: "إن أفواهكم طرق للقرآن فطيبوها بالسواك".
وقد ذكر الفقهاء -رحمهم الله تعالى- أن السواك يكون على اللثة والأسنان، وسقف الحلق واللسان؛ لأنها كلها مقصودةٌ بالنظافة والتطهير، وقد جاء في حديث أبي بريدة عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: "أتينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نستحمله، فرأيته يستاك على لسانه" أخرجه مسلم وأبو داود وللفظ له.
واستحب جمع منهم أن يكون السواك عرضاً لحديث حذيفة -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك" متفق عليه. قال ابن العربي: "والشوص هو الإيساك عرضاً". والأرجح أنه يختار الطريقة التي تكون أكثر نظافة، وأقل ضرراً، طولاً أو عرضاً؛ إذ مقصود السواك التنظيف... ومن سقطت أسنانه فإنه يتسوك على لثته ولسانه وسقف حلقه؛ لأن الحكمة من السواك تنطبق على من له أسنان ومن لا أسنان له، وحتى يصيب ثواب السنة.
والصائم يتسوك قبل الزوال وبعده ولا فرق في ذلك. والأحسن أن يغسل المتسوك السواك قبل أن يتسوك؛ لحديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعطيني السواك أغسله فأبدأ به فأستاك ثم أغسله ثم أدفعه إليه" أخرجه أبو داود.
ويبدأ سواكه بجانب فمه الأيمن؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعجبه التيمن في كل شيء، في ترجله، وتنعله، وتطهره، وسواكه؛ ممسكاً المسواك بيده اليسرى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وذلك لأن السواك من باب إماطة الأذى فهو كالاستنثار والامتخاط ونحو ذلك، مما فيه إزالة النجاسات كالاستجمار ونحوه باليسرى، وإزالة الأذى واجبها ومستحبها باليسرى" اهـ .
ويوم الجمعة عيد الأسبوع، شرع فيه الغسل والزينة، وقرن مع ذلك السواك، قال-صلى الله عليه وسلم-: "غُسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، وسواك، ويمسُ من الطيب ما قدر عليه" أخرجه الشيخان.
نفعني الله وإياكم بهدي القرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين...
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أيها المؤمنون: أهملَ كثيرٌ من الناس سنة السواك تهاوناً بها، أو جهلاً بفضلها، أو استعاضة بغيرها عنها، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- يقول: "السواك مطهرة للفم، مرضاة للرب" أخرجه أحمد بسند صحيح.
وفي هذه الجملة الموجزة يظهر اجتماع خيري الدنيا والآخرة في السواك؛ لأن الله تعالى إذا رضي عن العبد سهل له أمور الدنيا والآخرة.
وبلغ من عناية الشريعة بالسواك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر به كثيراً حتى قال: "أمرت بالسواك حتى خفت على أسناني" أخرجه الطبراني. وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت بالسواك حتى ظننت أو حسبت أنه سينزل فيه قرآن".
ونقل الصنعاني عن صاحب البدر المنير قوله: "قد ذكر في السواك زيادة على مائة حديث. فواعجباً لسنةٍ تأتي فيها الأحاديث الكثيرة ثم يهملها كثير من الناس! بل كثير من الفقهاء! فهذه خيبة عظيمة" اهـ.
أيها الأخوة: بان لكم ما في هذه السنة المباركة من الخير الكثير، والأجر العظيم، فلا جهل يحول بينكم وبينها؛ وأما التهاون فلا يحسن أن يكون صارفاً عن سنن المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وأما الاستغناء بغيره عنه فذلك من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولا ثمة مانع للجمع بين ما هو خير وما هو أدنى.
وقد ذكر أرباب الطب الحديث من عرب وعجم، ومسلمين وغير مسلمين في أبحاث كثيرة، وبعد تجارب عديدة؛ أن السواك أنفع للفم من سائر المنظِّفات، وقرروا أن مفعول السواك في قتل الجراثيم يمتد إلى خمس ساعات على الأقل؛ أما أقوى المستحضرات الحديثة فلا يصل إلى عشرين دقيقة، وذكروا له أكثر من ست عشر فائدة طبية، وهذه المنافع منافع دنيوية، ويكفينا في ذلك -معشر المسلمين- مرضاة الرب، وامتثال سنة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ثم تطييب رائحة الفم للقرآن والصلاة والذكر، وحتى لا يتأذى الملائكةُ وجلساؤك من رائحة فمك.
فاتقوا الله ربكم، وامتثلوا سنة نبيكم، وأخلصوا لله نيتكم، واستحضروا في سواككم امتثال السنة، وطلب مرضاة الرب سبحانه وتعالى، قال الحافظ ابن حجر: "وينوي به الإتيان بالسنة"، قال ابن قاسم: "وذلك لأن السواك مما يُتعبد به".
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم ربكم...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي