لقد حارب الرسول -صلى الله عليه وسلم- الرياء في الأعمال الصالحة، واعتبره الإسلام شركًا بالله رب العالمين، إن الرياء من أفتك العلل بالأعمال، وهو إذا استكمل أطواره وتمكن في النفس أصبح ضربًا من الوثنية التي تقذف بصاحبها في سواء الجحيم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة ..
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله.
أيها المسلمون: الغرائز البشرية المصروفة هي قواعد السلوك العام، كطلب السلامة، والحرص على المال، والميل للفخر، والتطلع للظهور، وغيرها، والإسلام بشموله يرقب بعناية فائقة ما يصاحب أعمال الناس من نيات، وما يلابسها من عواطف وانفعالات، وقيمة العمل عنده ترجع قبل كل شيء إلى البواعث التي تسوق المرء إلى العمل، وتدفعه إلى إجادته، وتغريه بتحمل التعب فيه، أو بذل الكثير من أجله.
فالإنسان إذا أعطى هبة جزيلة يريد بها استمالة القلوب، أو ليوصف بالكرم، فهذه بواعث لديه، لكن الإسلام لا يعتد بالصدقة إلا إذا خلصت من شوائب النفس، وتمخضت لله وحده على ما وصف القرآن الكريم: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل: 18-21].
إن تصحيح اتجاهات القلب، وضمان تجرده من الأهواء هو الإخلاص الذي نوضحه اليوم ويدعونا الله إلى استحضاره في كل عمل.
عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه". متفق عليه.
إن ألوف المسافرين يقطعون المسافة بين مكة والمدينة لأغراض شتى، ولكن نية الانتصار للدين والحياة به هي التي تفرق بين المهاجر والمسافر، وإن كانت صورة العملين واحدة.
إن صلاح النية وإخلاص الفؤاد لرب العالمين يرتفعان بمنزلة العمل الدنيوي البحت، فيجعلانه عبادة متقبلة، وإنّ خُبْث الطوية يهبط بالطاعات المحضة، فيقلبها معاصي شائنة، فلا ينال المرء منها بعد التعب في أدائها إلا الفشل والخسران.
إن اللذائذ التي تشتهيها النفس إذا صاحبتها النية الصالحة والهدف النبيل تحولت إلى قربات، فالرجل يواقع امرأته يريد أن يحفظ عفافه ويصون دينه، له في ذلك أجر: "وفي بضع أحدكم صدقة". وما يطعمه في بدنه أو أولاده وزوجته مثابة بنية الخير التي تقارنه؛ عن سعد بن أبي وقاص أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال له: "إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعله في فم امرأتك". رواه البخاري.
أيها المؤمنون بالله ورسوله: إن القلب المقفر من الإخلاص لا ينبت قبولاً، كالحجر المكسو بالتراب، فهو لا يخرج زرعًا، وما أنفس الإخلاص وأغزر بركته، فهو يخالط القليل فينميه حتى يزن الجبال، ويخلو منه الكثير فلا يزن عند الله هباءة، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام-: "أخلص دينك يكفيك العمل القليل". رواه الحاكم في مستدركه.
وعلى قدر نقاء السريرة وسعة النفع تكتب الأضعاف، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم". رواه مسلم.
فمن اكتفى من دينه بالشكل والمظهر، وأهمل القصد والمخبر، فقد ظلم نفسه، وفقد الأجر، وكسب الوزر، وترك الدين القيم: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة:5].
الإخلاص يسطع شعاعه في النفس، وأشد ما يكون تألقًا في الشدائد المحرجة، فعندها ينسلخ الإنسان من أهوائه، ويتبرأ من أخطائه، ويقف في ساحة الله أوّابًا، يرجو رحمته، ويخاف عذابه: (قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ) [الأنعام:63-64].
عباد الله: لقد حارب الرسول –صلى الله عليه وسلم- الرياء في الأعمال الصالحة، واعتبره الإسلام شركًا بالله رب العالمين، إن الرياء من أفتك العلل بالأعمال، وهو إذا استكمل أطواره وتمكن في النفس أصبح ضربًا من الوثنية التي تقذف بصاحبها في سواء الجحيم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اليسير من الرياء شرك، ومن عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة، إن الله يحب الأبرار الأتقياء والأخفياء، الذين إن غابوا لم يفقدوا، وإن حضروا لم يعرفوا، قلوبهم مصابيح الهدى، يخرجون من كل غبراء مظلمة...". رواه الحاكم في مستدركه.
وإنما كانت حملات الإسلام على الرياء وغيره من العلل الناشئة عن فقد الإخلاص على ما هي عليه من الشدة؛ لأنه فساد وشرك وخطر داهم على المجتمع، فالرذيلة والمنكر جريمة يراها المجتمع ويحقرها، لكنها إذا ظهرت في لباس من الطاعة، وفيمن ظاهره الخير، فخطرها أعظم وشرها أعم، فمصيبة المجتمع من الفضلاء ظاهرًا المنافقين باطنًا أنكى من مصائبه التي يُنزِلها به أهل الإجرام ومن عرف به.
إن ضعف الإخلاص عند كثير من أهل الفضيلة والمواهب جعل البلاد تشقى بهم وترجع القهقرى. إن تلويث الفضيلة بأقذار الهوى عدوان على منزلتها وإسقاط وتشويه لها. إن الرجل الذي يقصد بعلمه وجه الناس، ويذهل عن وجه ربه، رجل لا يدري لسفاهته حِطة ما يصنع، إنه ينصرف عن القوي الغني ذي الجلال والإكرام، إلى الضعاف الفقراء الذين لا حول لهم ولا طول؛ يقول -عليه الصلاة والسلام-: "إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم القيامة، ليوم لا ريب فيه، نادى منادٍ: من كان أشرك في عمله لله أحدًا، فليطلب ثوابه من عنده، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك...". رواه الترمذي وحسنه.
إخوة الإيمان: إن أعظم ما تكون فيه نية الإخلاص مهمة وعظيمة لدى العالم الذي يطلب العلِْم ويؤديه للناس ويتخذ بناءً عليه المواقف، فإن العلم أشرف ما ميّز الله به الأكرمين من خلقه، فمن الخطأ أن يسخر لعوامل الشر أو أن تختلط به الأهواء والفتن؛ قال -صلى الله عليه وسلم-: "من تعلّم علمًا مما يبتغى به وجه الله تعالى، لا يتعلمه إلا ليصيب عرضًا من الدنيا، لم يجد عُرفَ الجنة يوم القيامة". رواه أبو داود.
والعلم لا يحقق مطلبه ويصل إلى هدفه الأسمى إلا بالتجرد، كذلك يكون الحق والتعالي عن الأغراض الدنيوية وبالتضحيات الغالية، الإخلاص مهم وعظيم لدى المجاهد الذي يضحي بنفسه وبدمه ليكون في سبيل الله ولإعلاء كلمته، لا لهوى ولا عصبية ولا يقاتل حمية، وإلا ذهبت تضحيته هباءً وهدرًا، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال رجل: يا رسول الله: إني أقف الموقف أريد وجه الله وأريد أن يُرى موطني، فالتفت عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يرد عليه، حتى نزلت: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) [الكهف:110].
كذلك يجب إخوتي على الموظف والمعلم، وهو في ديوانه أن يعتاد ما يكتبه وما يحسبه وما يعلمه وما يكد فيه عقله، ويتعب فيه يده عملاً يقصد به مصلحة بلاده ومجتمعه ويحتسبه عند الله طلبًا لرضاه، ومن المؤسف أنك ترى بعضًا من الموظفين يهملون ذلك، فلا يفقهون إلا منطق المال والدرجة والترقية، ويحتسبون بدينهم ودنياهم داخل هذا الأمر ما انطلاقا منه، ولذلك ترى منهم إهمالا وكسلا وعدم توفيق وإعانة من الله، كذلك ينبغي لنا أيها الأخوة المؤمنون أن نتذكر إخلاصنا لله جل وعلا وتجردنا إليه في كل عمل نأتيه ونذره، وأن نحتسب أعمالنا تلك عند الله، تقربنا إليه وتنجينا من عذابه كالصدقة، والإنفاق، وتربية الأسرة، ورعايتها، والخلق الكريم، والإصلاح بين الناس، وخدمتهم، وسائر العبادات والطاعات، نسأل الله أن يرزقنا النية الصالحة والسداد في القول والعمل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ألا لله الدين الخالص، والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفّار .
بارك الله لي ولكم في الفرقان العظيم . . .
الحمد لله على إحسانه.
اتقوا الله تعالى عباد الله.
إن العلل الناشئة عن فقدان الإخلاص كثيرة، وهي إذا استفحلت استأصلت الإيمان، وإذا قلّت تركت به ثُلَمًا شتى ينفذ منها الشيطان، وإنما يسخط الله -عز وجل- على ذوي الأغراض والمرائين وغيرهم من عباد المال والجاه؛ لأن المفروض في المسلم أن يضحي بالأغراض والعلاقات والشهوات في سبيل الله، لا أن يذهل عن وجه ربه في سبيلها.
انظروا إلى قصة سحرة فرعون كيف كانوا آية في اليقين الصحيح، والإخلاص العالي لدين الله عندما رفضوا الإغراء وحقروا الإرهاب، وداسوا حب المال والجاه وقالوا للملك الجبار: (فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:72-73].
وشتان بين هؤلاء الذين يستهينون في التقرب من كبير وبين اللاهثين للاستحواذ على عرض حقير.
نسأل الله العظيم -جلت قدرته- أن يصلح أحوال المسلمين، وأن يصلح لنا الدنيا والدين، وصلوا وسلموا يا عباد الله.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي