واستمرت الأمة تنعم برابطة الإيمان وأخوة العقيدة قرونًا من الزمن، ورغم ما كان يصيبها أحيانًا من ثغرات تنفذ إليها، لكنها بالإجمال ما تخلت عن أخوة الإيمان، استمرت حالها كذلك حتى اتفاقية سايكس بيكو وإرهاصاتها التي فرقت الأمة المسلمة أشتاتًا وأحزابًا وقطعًا وإربًا، من خلال وضعها لحدود أرضية مصطنعة فصلت جموع الأمة في جزر، ومن خلال إذكاء روح العنصرية والطائفية فيها ..
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله.
وبعد:
أيها المسلمون: بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا العالم، فوجد الناس من حوله يعيشون في جزر منغلقة ومتقطعة: جزر القبلية ومضايق العشائرية وأنفاق العصبية، فقام بجهد لا نظير له في تاريخ الإنسانية، فأزال كل الحدود المعنوية والمادية التي قطّعت أوصالهم وجمعهم جَمْعة مباركة، أصيلة الوثاق، قوية العرى، جَمَعهم على أخوة العقيدة التي أزالت الجزر وهدمت المضايق والأنفاق التي لطالما ردحت فيهم عقودًا من الزمن تفت في عضدهم.
ثم غادر النبي -صلى الله عليه وسلم- الأمة وقد تركها على المحجة البيضاء، تعصمها أخوة العقيدة، وتوحّدها عقيدة التوحيد، وتعلوها رابطة الإيمان، واستمرت الأمة تنعم برابطة الإيمان وأخوة العقيدة قرونًا من الزمن، ورغم ما كان يصيبها أحيانًا من ثغرات تنفذ إليها، لكنها بالإجمال ما تخلت عن أخوة الإيمان، استمرت حالها كذلك حتى اتفاقية سايكس بيكو وإرهاصاتها التي فرقت الأمة المسلمة أشتاتًا وأحزابًا وقطعًا وإربًا، من خلال وضعها لحدود أرضية مصطنعة فصلت جموع الأمة في جزر، ومن خلال إذكاء روح العنصرية والطائفية فيها، التي أدخلت جموع الأمة في مضايق وأنفاق مظلمة.
وكان الأجدر بالأمة وبقادتها في مثل هذا الوضع أن لا يسمحوا لجزر سايكس بيكو أن تضعف رابطة العقيدة بين أبناء الأمة رغم هذه الحدود المصطنعة، ولكنَّ ما وقع -وما زال يقع- أن كثيرًا ممن قادوا هذه الأمة في تلك الجزر المصطنعة عمّقوا هوة الخلاف بين المسلمين، وشجعوا فيهم عُقَد العصبيات والولاءات الضيقة، وأحيوا فيها ما أماته الإسلام، فأصبحت حال الأمة فيما بعد سايكس بيكو بعقود أنكى حالاً حتى من العقود الأولى لعهدها، فمارس المتسلّطون على رقاب المسلمين من أبناء جلدتهم كل أشكال الجلد والتمويه والتحطيم لرابطة العقيدة والأخوة بين المؤمنين الموحدين في مشارق الأرض ومغاربها؛ ليصنعوا من المؤمن شخصًا بالكاد يعنيه فقط ما يجري في بقعته المصطنعة، شخصًا قابلا للانشطار حتى في ظل نفقه الضيق، ليصبح متلون الولاء، متقلب المواقف، متشتت المبادئ، بل قرأ بعضهم الفاتحة وكبر أربع تكبيرات على رابطة العقيدة وأخوة الإيمان، واستبدلها بشعارات ليس للإسلام فيها حظ، بل يرفضها الإسلام، ولطالما تبرأ منها ودعا إلى نبذها.
أيها الإخوة: في المنهج النبوي توضيح تام لمعالم هذا الدين، وفي سيرة نبينا وسنته تطبيق وبيان لأصول هذا الإيمان، التي جهلت في زماننا أو تم تجاهلها وتغييبها عن واقع المسلمين، وفي هذه الخطبة سنقف مع معلم من معالم المنهج النبوي الأصيل الذي من خلاله نعالج هذا الواقع الأليم المشحون بنفثات سايكس بيكو، ومع الأسف هذه المرّة من أفواه أبناء جلدتنا، نقف مع القائد الأمين والقدوة الصادقة وهو يعالج موقفًا طارئًا في زمانه -صلى الله عليه وسلم- ولكنه مزمن في عصرنا.
أيها الإخوة: في صحيح مسلم والبخاري وفي السنن وكتب السيرة، عن جابر -رضي الله عنه- وغيره قال: غزونا مع رسول الله -صلى الله عليه و سلم- قيل: غزوة الْمُرَيْسِيعِ وقيل: غزوة بني المُصْطلق سنة ست من الهجرة، وقد ثاب –اجتمع- معه ناس من المهاجرين حتى كثروا، فحصلت -يا أيها الإخوة- حادثة دعونا نستمع إليها من راوي الحديث سيدنا حابر -رضي الله عنه-، فيقول متابعًا كلامه: وكان من المهاجرين رجل لعاب -يلعب بالحراب أو مزاح-، فكَسَعَ –ضرب- أنصاريًا -هو سنان بن وبرة-، فغضب الأنصاري غضبًا شديدًا حتى تداعوا -استغاثوا ونادى بعضهم بعضًا-، وقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فخرج النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "ما هذا؟! أدعوى الجاهلية؟!"، ثم قال: "ما شأنهم؟!"، فأخبر بكسعة المهاجري للأنصاري قال: فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "دعوها فإنها خبيثة"، وفي رواية: "دعوها فإنها منتنة".
أيها الإخوة: هذه هي الحادثة التي وقعت، أصلها رجل مسلم يضرب رجلاً مسلمًا، فيا ترى ماذا كان موقف النبي -صلى الله عليه وسلم- قائد وحاكم المجتمع الإسلامي آنذاك؟! هل قال: هذا حدث عابر، ولا داعي لأن أتدخل فيه وأمنعه وأبين الحق فيه من الباطل؟! لا، لم يفعل ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنه يعلم أنه المسؤول الأول أمام الله عن إقام العدل بين الناس، وأن الله سائله عن رعيته، وهو سيد من اتقى الله وخافه.
هل أخذته -صلى الله عليه وسلم- الحمية؟! وقال: أنا معكم -أيها المهاجرون- ضد إخوانكم الأنصار، هل عمل على تجييش الموقف وإضرام نار الفتنة فيه؟! هل طلب من كبار المهاجرين -أصحاب النفوذ والتأثير في المجتمع- أن يقودوا حملة شعْواء ضد إخوانهم الأنصار؟! كما يفعلها اليوم بعض المتسلّطين؟! كلا ثم كلا، وحاشاه -صلى الله عليه وسلم- ثم حاشاه أن يفعل ذلك؛ فهو نبيّ وقائد أمة كلها مؤمنة مسلمة موحدة، يعرف ما هو دوره تجاه مجتمعه المسلم، ويعرف كيف يفعل ما يرضي الله تعالى، لا ما يرضي شهواته وشهوات من حوله، ويعرف أن ربه سائله عن هذا.
ولذلك اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الحدث موقفًا يرضي الله تعالى، وما يرضي الله جزمًا سيرضي عباد الله المؤمنين، اتخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من هذا الحدث موقفًا يُقِرّه الشرع، موقفًا طبق عليهم فيه أصول العقيدة والشريعة، موقفًا وزن به هذا الحدث بميزان الشرع وقاس به تداعيات هذا الحدث بمقياس الشرع والعقل: وإذا به يخرج -صلى الله عليه وسلم- عليهم قائلاً لهم: "ما هذا؟! أدعوى الجاهلية؟!"، "ما بال دعوى الجاهلية؟!"، "دعوها فإنها خبيثة"، "دعوها فإنها منتنة"، ما معنى هذه الجُمَل النبوية؟!
"ما بال دعوى الجاهلية": ما الذي قصده النبي بوصف وبحكم دعوى الجاهلية؟! قال شراح الحديث: دعوى الجاهلية: هي التناصر والتداعي بالعصبية والتفاخر بالآباء؛ أي: لا تداعوا بها، بل تداعوا بالإسلام الذي يؤلف بينكم.
"دعوها": اتركوا هذه الدعوات والتجمعات على لافتات غير إسلامية وإنما على العصبيات، يقول نبينا لهذه الأمة -إن كانت مازالت تصغي له-: "دعوها فإنها خبيثة"، أي: قبيحة منكرة، وكريهة مؤذية، تثير الغضب والتقاتل. وفي رواية: "دعوها فإنها منتنة"، ومنتِنة من النتن: أي إنها قبيحة خبيثة.
أيها الإخوة: نحن أمام سؤال كبير: ما الذي دفع النبي -صلى الله عليه وسلم- لاتخاذ هذا الموقف الصارم، وإصدار هذا التحذير الجاد، وبيان هذا الحكم العقدي القاطع؟! هل هو مجرد الضرب؟! أن شخصًا ضرب آخر؟! لا، فالضرب لو توقف عند هذا الحد فإنّ نبينا -صلى الله عليه وسلم- الحاكم العادل سيقتص لهذا من هذا، لا أنه سيضيّع الموضوع بتصريحات مخدرة.
لكن الذي أغضب النبي -صلى الله عليه وسلم- ودفعه إلى هذا الموقف الحازم هو أنه رأى عند بعض المسلمين عودة إلى التجمع والتحزب والتنادي والتجمهر على أساس العصبيات الجاهلية، على لافتات غير لافتات الإسلام والعقيدة، رأى منهم عودة إلى عصبيات جاهلية مقيتة لطالما تجمعوا على أساسها قبل الإسلام، ولطالما فتّت في عضدهم، ولطالما بذل -صلى الله عليه وسلم- جهودًا جبارة حتى طهّر نفوس وقلوب وعقول وحالة المسلمين المؤمنين منها، وإحلال رابطة الأخوة الإيمانية، رابطة العقيدة، رابطة التوحيد مكانها.
وفعلاً استطاع ذلك نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم-، ولكن هذه الحادثة -وإن كانت عرضية- كشفت مواطن خلل وضعف في نفوس بعضهم، وأنه لابد من علاجها لتكون درسًا للأمة طوال مسيرتها، فلا تسمح بدعوات الجاهلية بينها، ولا تتجمع وتتجمهر على أساس العصبيات الأرضية؛ لأنها إن فعلت ذلك فهي جاهلية، إن ادعت الإسلام وهي تنادى بدعوى الجاهلية، بل رابطتها الأصيلة: رابطة الإيمان ورابطة العقيد ورابطة الإسلام ورابطة التوحيد، تلكم هي الرابطة التي ارتضاها لها ربها، جامعة لهم وعاصمة، ارتضاها لها ربها يوم أن قال لها: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وقال سبحانه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ) [التوبة:71]، وقال سبحانه: (الأَخِلاَّء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ) [الزخرف:67]، وقال الله تعالى ذامًّا أهل الحمية لغير الدين: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِى قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) [الفتح: 26].
نعم، تلكم هي الرابطة التي ارتضاها لنا نبينا -صلى الله عليه وسلم-، وحذّر وخوّف وتوعد وهدّد كل من يخالفها، وكل من يريد استبدالها، وكل من يريد إحياء غيرها بين المسلمين، وشدد النكير، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية"، وقال: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَالْفَخْرَ بِالآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ خُلِقَ مِنْ تُرَابٍ، لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ فَخْرِهِمْ بِآبَائِهِمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجُعْلاَنِ الَّتِى تَدْفَعُ النَّتَنَ بِأَنْفِهَا". فويل لدعاة العصبيات والقوميات بين أظهر المسلمين!!
أيها الإخوة: ولا بد من الإشارة إلى أن هذه الحادثة كانت عرضية، لا مزمنة كما هي حال المسلمين اليوم، وكانت حادثة ومرّت مرور الكرام؛ لأن هؤلاء صحابة قد تربّوا على أخوة العقيدة والإيمان وعلى التناصر على أساسها، فالمسلم أخو المسلم، والمؤمن أخو المؤمن، همّهم همّ واحد، ودعوتهما دعوة واحدة، وعقيدة التوحيد ورابط الإيمان عندهم فوق كل الروابط الأرضية، تربّوا على الآية: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [التوبة: 71]، وهذا المعنى عبَّر عنه مصعب بن عمير -رضي الله عنه- حين قال لرجل من الأنصار في غزوة بدر رآه قد أسر أخاه أبا عزيز بن عمير قال: اشدد وثاقه فإن له أمًّا غنية ستفديه، فقال أبو عزيز لمصعب: أهكذا وصاتك بأخيك؟! فقال مصعب: "إنه أخي دونك".
نعم، ليست تلكم الصورة وهذه الواقعة إلا استثناءً في علاقة الصحابة ببعض، في علاقة المهاجرين بالأنصار الذين أثنى الله عليهم في كتابه، وليست إلا عرضًا وقع بين فئات قليلة منهم، وإلا فالأصل في علاقتهم أنهم إخوة في العقيدة.
أيها المؤمنون: لقد شاءت حكمة الله تعالى أن يكون رابط العقيدة ورابط أخوة الإيمان بين المجموعة المسلمة الأولى، بين النواة الرئيسة التي تكونت منها الأمة المسلمة، من مختلف قبائل العرب ومن مختلف قارات العالم، ومن مختلف أطياف وألوان البشرية: فلقد جمعت فيهم: أبا بكر العربي من بلاد العرب، وبلال الحبشي من بلاد إفريقيا، وصهيبًا الرومي من بلاد الروم، وسلمان الفارسي من بلاد فارس، وجمعت فيها سائر بطون قريش وقبائل العرب، وعشائر الناس، شاءت حكمة الله تعالى ذلك ليكون هذا أقوى إعلان يعرض، وأصدق لافتة ترفع، وأحسن حديث يقال؛ ليعبر عن الرابط العقدي والإيماني الذي أراده الله سبحانه ليكون الجامع الأول لهذه الأمة، وليكون رسالة واضحة لكل العالم الذي حولهم: أن هذه المجموعة الأولى التي تمثل الإسلام وجوهر رسالته وعقد أمته وبذور حملته، ها هي ظاهرة أمامكم على أرض الواقع، لا يجمعها إلا أخوة العقيدة والإيمان بالله العظيم.
نعم، ها هي شاخصة أمامكم وحدة واحدة ملتحمة متعاضدة متفانية فيما بينها، قد ذابت فيها وانتهت من بينها كل الروابط الأرضية التي يتقاسم عليها غيرهم من الناس المصالح، ويتفرقون عليها ويتقاتلون بسببها، لا مكان لها اليوم في جمع الصحابة هذا، ولا في مجتمع محمد -صلى الله عليه وسلم-.
نعم، أرادها الله أن تكون ردًّا واضحًا على كل دعوات الروابط الأرضية أنكم قد فشلتم وعجزتم أن تجمعوا الناس على غير رابطة القبيلة أو المصلحة المادية، بل وجعلت ذلك مستحيلاً، فها هو الإسلام يجمعهم جَمْعَة ًلا مثيل لها، ويربطهم برابط لا شبه له.
نعم -يا أيها الإخوة- إن إرادة الله تعالى في أن تمثل الإسلام والأمة المسلمة في مرحلتها الأولى هذه العناصر البشرية مختلفة الأوطان والأعراق والألوان والعصبيات، تحتاج وتحتاج إلى وقفات وتأملات من قبل المسلمين وقادة الأمة في كل عصر من العصور؛ لأنها صمّام الأمان لوحدة المجتمع المسلم ولا صمّام أمان غيره.
أيها الإخوة: لقد استطاع النبي -صلى الله عليه وسلم- وبفضل من الله تعالى أن يجمع من تفرقهم عصبيات شتى، وأن يشدهم بوثاق الإيمان شدًّا، وأن يصهر كل عناصر الطرد والفرقة في بوتقة العقيدة، فعل -صلى الله عليه وسلم- ذلك ليكون شاهدًا على صدق دعوته -صلى الله عليه وسلم- أنها دعوة ربانية الولاء المطلق فيها لله الواحد الأحد سبحانه، والحكم الفصل فيها لعقيدة التوحيد، فالأوسي يحب الخزرجي، والخزرجي يوالي الأوسي، والهاشمي يعانق الدوسي، والرومي يؤاخي الفارسي والعربي، لا لشيء إلا لأنهم يقولون: ربنا الله، وديننا لإسلام، وعقيدتنا الإيمان، ونبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-، ودستورنا القرآن، فانطلقت هذه المجموعة الأولى برابط جديد صلب صادق عالي الشأن رفيع المقام، إنه رابط عقيدة التوحيد والإيمان، انطلقت في الأرض كلها، تقدِّم شهادات صادقة للعالم كله إلى أن تقوم الساعة على أن دعوة الله تعالى دعوة سماوية، تشد إليها أهل الإيمان من كل أرجاء الأرض، دعوة تكسر كل الروابط الأرضية المقيتة التي يتقاتل الناس عليها، وكل الفواصل الأرضية التي تحجز الناس عن بعض، ويدفع بعضهم بعضًا على أساسها، ويوالي بعضهم بعضًا على أساسها، تكسر كل هذه الروابط المقيتة ليحل محلها رابط ارتضاه الله لنا، إنه رابط الأخوة والموالاة والمحبة والمناصرة على أساس العقيدة والإيمان والتوحيد، هكذا فهم الصحابة الأوائل، وهكذا عاشها المؤمنون: صهيب الرومي، وأبو بكر العربي، وسلمان الفارسي، وبلال الحبشي، وذاك الدوسي، وهذا الخزرجي.
أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسولنا الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
أيها الإخوة المؤمنون: هذه النزعة التعصبية المفرِّقة لأمر المسلمين، والبديلة عن رابط التوحيد والإيمان، والتي واجهها النبي -صلى الله عليه وسلم- بأقسى العبارات وأشدها، ووصفها بأنها نزعة جاهلية، حرص أعداء الإسلام منذ عصر الشعوبية الفارسية إلى عهود الاستعمار والاستشراق إلى زماننا هذا زمان سايكس بيكو وزمان القومية والعولمة، حرصوا كل الحرص على إحلال روابط شتى مزخرفة؛ ليتجمع على أساسها المسلمون المؤمنون الموحدون بديلاً عن رابط الإسلام والعقيدة، فأذنوا لكل تحزب للمسلمين، وسمحوا بكل تعنصر لهم، وشجعوا كل تجمع لفئاتهم ودولهم على أي رابط أرضي أيًّا كان، المهم أن لا يكون هذا الرابط هو رابط إسلامنا العظيم، وقرآننا المجيد، وإيماننا التليد، مع الأسف استجاب لهم فئام من هذه الأمة، وانساقوا وراء دعواتهم العنصرية المقيتة، بل ووجد في المسلمين من أذكاها وما يزال يذكيها ويشعل شرارتها، وما زال بعض المسلمين اليوم من ضعفة العقيدة وطلاب الدنيا وعباد المصالح والمنصب قدوته سايكس بيكو لا محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبدل أن يفعل كما فعل رسول الله، ويعيد جمع الأمة على أساس رابط العقيدة، فإذا به يكرّس دعوة سايكس بيكو، ويعمّق الشرخ الذي جاءت به، ويزيد من سعار الجاهلية وروابطها بين أبناء الأمة الواحدة، على النقيض تمامًا مما جاء به نبينا -صلى الله عليه وسلم-.
أخي المؤمن: استمع معي إلى هذا الحديث الذي يغوص بنا إلى أعماق رابطة العقيدة وأخوة الإيمان، فيعلي من شأنها، ويكر على الروابط الأرضية المقيتة فيحطمها تحطيمًا، واستمع معي لهذا الحديث: عن أبي بن كعب قال: انتسب رجلان على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال أحدهما: أنا فلان ابن فلان -حتى عد تسعة- فمن أنت لا أمّ لك؟! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انتسب رجلان على عهد موسى، فقال أحدهما: أنا فلان ابن فلان حتى عد تسعة، فمن أنت لا أمّ لك؟! قال: أنا فلان ابن فلان ابن الإسلام، فأوحى الله -عز وجل- إلى موسى -عليه السلام-: ائت هذين المنتسبين، أما أنت أيها المنتمي -أو المنتسب- إلى تسعة في النار وأنت عاشرهم في النار، وأما أنت المنتسب إلى اثنين فأنت ثالثهم في الجنة".
عباد الله: المطلوب من كل الدعاة والمصلحين والإعلاميين والكتاب، التأكيد على أخوة الإسلام التي ارتضاها الله لهذه الأمة، وارتضاها نبينا -صلى الله عليه وسلم- لأتباعه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10]، وأن يكون التناصر فيما بينهم تناصرًا على أساس هذه الرابطة الإيمانية، وأن يعملوا على طرد كل الروابط الأرضية التي يراد لها أن تقارع رابطة العقيدة وأن تكون بديلاً عنها، وأن تحذر من دعاتها الذين يزخرفون القول للناس، وما قولهم في الحقيقة إلا من دعوى الجاهلية، فليدعوها فإنها منتنة.
اللهم اجعل أعمالنا صالحة، واجعلها لوجهك خالصة، ولا تجعل لأحد فيها شيئًا، يا رب العالمين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي