كلما عظم الهدف وزاد اليقين في قلبك كلما قلت العوارض والشواغل والصوارف التي تحول بينك وبين الجنة، من سبقوا كانوا في شغل دائم، كيف يصلون إلى الجنة؟! كيف ينجون من النار؟! هذا ربما يأتينا عند الموعظة، بل إن رأيت تغيرًا ظاهرًا في حالك. ولذلك ينبغي أن نراعي أمر تغير النفس، وأمر تغير الحال (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) ..
إِنَّ الحَمْدَ للهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لهُ. وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [ الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ تعَالَى، وَخيرَ الهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَة.
أما بعد:
عباد الله: الناس يسيرون إلى الله -عز وجل- ينقسمون إلى فريقين، فريق يمضي إلى الجنة، وفريق إلى السعير.
والفريق الأول طريقه صعب وشاق، أعني الذين يسيرون إلى الجنة، صعب لقلة المُعين، وقلة الزاد، وعدم اليقين، ولكثرة قطَّاع الطرق.
والفريق الثاني كثر؛ لأن الطريق قد يكون ممهدًا، والمغريات كثيرة، والمستحث على هذا الطريق قوي، نفس غويَّة وشيطان توعَّد، وأمور يطول ذكرها.
الفريق الأول متعثر، قلَّ أن ترى منه سابقًا، وقل أن ترى منه من على يقين، يتقدم أحيانًا، ويقف كثيرًا، وربما يرجع، وهذا خللٌ عظيم، حينما ترى قِلَّة معين، وقِلَّة زاد.
نرى أن أصحاب النبي -صلي الله عليه وعلى آله وسلم- كانوا كثرًا؛ لوجود المستحث من يذكرهم بالله -عز وجل-، ويريهم الطريق، ويُبيِّن لهم العقبات، فكانوا على بصيرة من أمرهم، ثبتوا على الطريق، ومضوا إلى الله -عز وجل- بسلام، بذل أحدهم المهج؛ لعلمه أن الثمن غال، وأن السلعة نفيسة، الثمن النفس فما دونها، والسلعة هي الجنة، فهان في طلب السلعة كل شيء، في زمن المتغيرات ترى هناك تقدمًا، ووقوفًا وتأخرًا.
قِلَّة السالك إلى الله -عز وجل- وضعفه له أسباب كثيرة؛ من أعظم هذه الأسباب: أن العبد ليس على بصيرة من أمره، أن أمر الجنة مجرد مواعظ، ترد على القلب حينما يعظ الواعظ، ويُذكِّر المُذكِر؛ لأن هناك همًّا أعلى وهمًّا أعظم؛ أن الإنسان مشغولٌ بما يدور حوله، مشغولٌ بمستحث الدنيا، هموم تتراكم على القلوب وتشغل العقول، فمن ثَم ترى أن الغالب يتقدم ثم يرجع، يتقدم ثم يرجع، وقلَّ أن ترى الثبات في هذا الزمان.
وعلاماته كثيرة أنك ترى أنها أصل، وأن العبد لا يتأثر إلا عند موعظة، وأن الغالب مفرّط حتى في الأصول، فهذا نذير خطر، بل نذير شؤم، أن العبد إن زهد في طريقه إلى الله -عز وجل- تخلَّ الله -سبحانه وتعالى- عنه: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال: 53].
هذا الدين هو أعظم نعمة، والله الذي لا إله غيره لن ترى نعمة ولا لذة إلا في هذا الإسلام، كل اللذائذ عَرَض، هذا الدين يعطيك علوًّا في الأرض وفي الآخرة، يعطيك زهادة في العَرَض الحقير، وتَشَوُّف للنعيم الدائم، من ثَم كلما عظم الهدف وزاد اليقين في قلبك كلما قلت العوارض والشواغل والصوارف التي تحول بينك وبين الجنة، من سبقوا كانوا في شغل دائم، كيف يصلون إلى الجنة؟! كيف ينجون من النار؟! هذا ربما يأتينا عند الموعظة، بل إن رأيت تغيرًا ظاهرًا في حالك.
ولذلك ينبغي أن نراعي أمر تغير النفس، وأمر تغير الحال (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
إن تقدمت فالله معك، وإن تكعكعت وتأخرت تخلَّ الله عنك، أنت في معية الله -عز وجل- حينما تكون على أمره، بل على يقين من أمره، ترى أن الله -سبحانه وتعالى- يعينك ويؤيدك ويثبتك، حتى في أشد وأعظم الحوالك، ترى نفسك معينًا، لا ولن يتخلى الله عنك أبدًا، أما إن كان قلبك هائمًا واهنًا، يتمنى أن يجمع بين الأمرين، فالله -عز وجل- عزيز، لا يرضى منك إلا الكل، الكل إن قرَّبته لله -عز وجل- نجوت، أما إن كان في قلبك غير الله -سبحانه وتعالى- تخلَّ الله عن هذا العبد (إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ) [الرعد: 11].
إن تقدم العبد إلى الله -عز وجل- وهو في الحضيض، غيَّر الله حاله، كم من أقوام كانوا على ذنوب ومعاصٍ وآثام فلما عقدوا العزم على التأخير، وتقدموا خطوات أخذ الله بأيديهم، فرفع الله أمرهم، وأعلى شأنهم، وأعزّهم بين العباد، بل منهم من صاروا علماء، بل من خيرة العلماء.
الفضيل بن عياض كان قاطع طريق، كان ينام النهار ويسهر الليل، معه جماعة من الأشرار هو زعيمهم وهو قائدهم، كانوا ينتظرون عودة الحجيج ومعهم بضائع وأشياء، يختفون في الطريق، فإذا أراد هؤلاء أن يقيلوا هجم عليهم الفضيل، فسمع مرة -وقل أن يسمع هؤلاء- سمع مرة أحدهم يقول: عجلوا بالسير ليقطعن فضيل عليكم الطريق، أي قبل حلول الظلام أسرعوا، سمعها الفضيل وقعت في قلبه، فقال: كل الناس يخاف فضيلاً، وممن تخاف يا فضيل؟! ألا تخاف من الله؟! وقعت في نفسه، ترك الأمر كله، وأقبل على شأنه فأصلحه، كان من خيرة عباد وزهاد الأمة: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11].
ظل عابدًا قانتًا مطيعًا مقبلاً على شأنه، دخل الرشيد، وصل حاجًا إلى بيت الله الحرام، فلما فرغ من الحج قال: أريد أن أسامر علماء مكة، فجيء بابن عيينة وفلان وفلان، فقال: من بقي؟! قالوا: ليس إلا الفضيل. فقال: ائتوني به. فقالوا: يا أمير المؤمنين: إن الفضيل لن يأتيك أبدًا. فقال: لم؟! قالوا: لا يأتي إلى الملوك، رضي بحاله، وعكف على شأنه. فقال: نذهب إليه، فخرج الرشيد ووجد بيتًا من لبن من طين، باب ليس له مزاليج، يُنزع ويوضع، طرق الحاجب على الفضيل، فنزل إليه الفضيل من مشربة كان يجلس فيها بعيدًا عن أهله، ليعكف على شأنه، فقال: من؟! قال: حاجب أمير المؤمنين. قال: وماذا تريد؟! وماذا يريد مني أمير المؤمنين؟! فقال: هو معي. فأدخله وأجلسه، فجلس الرشيد أمير المؤمنين -الذي ملك الدنيا- بين يدي الفضيل، جلس منكّس الرأس. فقال له: يا فضيل: عظني. فقال: يا أمير المؤمنين: إن الله -عز وجل- خوّلك على أمر العباد، وليس بينك وبين الله عبد، فاتق الله في الرعية. قال: زدني. قال: يا أمير المؤمنين: إن لجهنم زفرة ما سمعها ملك مقرب إلا صعق، فبكى الرشيد، بكى حتى قال الحاجب للفضيل: كدت أن تهلك أمير المؤمنين. فقال له أمير المؤمنين: دعه إنه ناصح أمين، ثم أخرج صرة فيها ذهب وأعطاها للفضيل، فبكى الفضيل وقال: يا أمير المؤمني:ن أتظن أني ما وعظتك إلا من أجل هذه، بئس العبد أنا، ضع مالك في يد حاجبك وانصرف راشدًا، نكّس أمير المؤمنين رأسه وخرج، ثم قال لحاجبه: أظن قد استحيا من المجلس، فعد إليه بالصرة فعسى أن يقبلها، فعاد الحاجب وطرق الباب مرة أخرى، خرج الفضيل وقال: ما بك؟! قال: عدت إليك بالصرة. قال: بل ارجع بها إلى أمير المؤمنين.
أهلُ الفضيل -الزوجة والأولاد- يتضاغون جوعًا منذ ثلاثة أو أربعة أيام، فلما رجع أقبلت عليه الزوجة قالت: أهلكتنا يا فضيل، منذ ثلاثة أو أربعة أيام ونحن بلا طعام، فلم لم تقبل الصرة؟! فوقف الفضيل خطيبًا في زوجه وأبنائه وقال لهم: إن مثلي ومثلكم كمثل قوم كان عندهم بقرة يشربون من ألبانها، ويستعملونها في الحرث، فلما هرمت -كبرت- ذبحوها، ووالله لن تذبحوا فضيلاً، والله لن تذبحوا فضيلاً، وظل ساكنًا على هذا الحال.
رُزق بولد كان من صلحاء القوم يسمى عليًّا، كان الفضيل إذا صلى بالقوم يقرأ بآيات الجنة والنار، فكان يخرّ علي مغشيًا عليه. فقالت أمه: يا فضيل: لا تقتل ولدك، لا تقرأ بآيات النار، فكان الفضيل ينظر، إن رأى ولده في الصف لا يقرأ بآيات النار، فمرة نظر فلم ير عليًّا وكان في جانب من جوانب الصف، فقرأ آيات فيها ذكر للنار، فسقط علي مغشيًا عليه، حُمل إلى بيته فمات.
أيها الأحباب: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال: 53].
إن العبد لابد أن يتقدم إلى الله -عز وجل- حتى يعان، هذا الذي يلعب على أرجوحة تارة إلى اليمين وتارة إلى اليسار، لن يستقر به مقام قط إلا عند سكرة الموت، وسيرى أنه كان في لعب، وأن الغفلة عطلت هذا العمر على أن يستعمل في طاعة الله -عز وجل-.
أيها الأحباب: إن هناك أسبابًا للتقدم، وأسبابًا للتأخر، أسباب التقدم: الإخلاص، أن تعمل العمل لله، لا ترى فيه ذاتًا ولا نفسًا ولا أحدًا، مهما عظم عملك فهو حقير في جنب نعم الله -عز وجل- عليك، كم من قائم وليس له من قيامه إلا السهر؟! وكم من نائم غافل لاهٍ؟! فسد الأول الذي قام، وفسد الثاني الذي غفل ونام، لأن الإخلاص قليل.
الأول أحس أنه قرّب إلى الله -عز وجل- شيئًا، ظن أن له مكانة، ما نظر إلى نفسه الحقيرة الدنية، وأن قيامه هو نعمة من نعم الله -عز وجل- كباقي النعم، فعظمت نفسه، وانخدش الإخلاص، والثاني غافل، يرتع في نعم الله -عز وجل- ولا يذكر الله إلا إذا ذُكِّر، بين القلب وبين الرب سدود، حواجز تحول دون لذة المناجاة، دون لذة القرب، دون لذة الإحساس أنك عبد لرب بيده ملكوت السموات والأرض، رب كريم جواد، يسبغ عليك النعم بلا سؤال، وإن سألت عظَّم لك النعمة لأنه يحب ذلك، ولكن الغفلة واليقين بالنفس عطَّل الغالب عن السير إلى الله -سبحانه وتعالى-.
عباد الله: الإخلاص عزيز يحتاج من العبد إلى مجاهدة، لا ترضَ بمنزلة عند أحد من الخلق لأن الخلق جميعًا هم عبيد لله -عز وجل- الذي تعبده، هم عبيد كما أنت عبد، ما ينفعك الخلق، ما يضرك الخلق، نفعهم وضرهم من الله -عز وجل-، إن أراد الله -عز وجل- لك نعمة فمن الله، وإن أراد لك نقمة فمنه، والخلق وسائط ووسائل.
أيها الأحباب: هذا الدين له ثوابت وأصول لا تتغير إلى قيام الساعة، نحن في كل يوم نتبدل ونتغير، نلبس جلودًا ونخلع جلودًا، نتقمص شخصيات ونخلع شخصيات، تميز الجيل الأول بالثبات على هذه الأصول، وهذه الأصول أعني بها ما أمر الرب سبحانه وتعالى بها في كتابه، وما بيَّن نبيه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- في سنته، ثوابت لا تتغير أبدًا، مهما تقدَّم الزمان أو تأخر، مهما تغير الحال، ثوابت وأصول أبقاها الرب -سبحانه وتعالى- الذي أجرى مقاليد السموات والأرض وهي بيده كيفما شاء، ثوابت إلى قيام الساعة لا تتغير أبدًا، من حافظ على هذه الأصول نجا، أما من اتكأ على بعضها وترك البعض هلك، أن نأخذ شيئًا وندع آخر لا: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65]، (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) [البقرة: 85].
فسمى ربنا -تبارك وتعالى- الترك كفرًا، كفرًا بنعم الله -عز وجل- التي لا تعد ولا تحصى.
أيها الأحباب: من علامات التكعكع والتأخر: الإقبال على المعصية ولو كانت هينة، أن ترى لك نفسًا دنية حقيرة تذلك أمام الملك، حتى وإن كان لا يراك أحد، العبد لا يعز ولا يذل إلا على أيدي الملك، عزك في طاعته، وذلك في معصيته، احذر أن يراك على ذنب، وتقول: إنه ذنب هين.
إن من سبق ما أهلكتهم إلا الذنوب، حتى عدم الشكر ذنب من أعظم الذنوب، هلك من سبق لأنهم هان عليهم أمر الله -عز وجل-، هان عليهم أمر الله فعصوه، ولو عظموه ما وقعوا في معصية قط، وإن وقعوا في معصية سرعان ما يستغيثون بالملك، فيأخذ بأيدهم، فتنقلب المعاصي إلى قربات، والذنوب إلى حسنات، لأن العبد معرض في الطريق إلى الآفات، فإن جاء قاطع طريق فغلب وعبر أنجاه الله -سبحانه وتعالى-، يقول ربنا -عز وجل-: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ) [النحل: 112].
أمم كافرة أو مسلمة يسوق الله إليها نِعَمًا، هذبها لهم وعظمها ووسعها، نِعَم الأمن ونعم الرزق (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) آمنة في الوقت الحالي لا تخاف من الغد، مطمئنة على ما هو آتٍ، فأمنهم الله -عز وجل- في الحاضر والمستقبل، (آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا) سهل ميسر ليس هناك أي من أنواع التعب في طلب الرزق، (رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) في أي وضع كان، ينزل الرزق سهلاً ميسرًا، قابلوا هذه النعم بالجحود، بعدم الشكر، (فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) على النقيض تمامًا، انقلب الأمن إلى خوف، والرزق إلى ضيق (فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].
وليس أمر سبأ ببعيد (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سبأ:15].
رزق سهل ميسر، ورب كريم جواد يغفر جميع الذنوب، (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)، قابلوا هذه النعم بالجحود والغفلة، وأول أبواب السقوط: أن نغفل عن نعم الله -عز وجل-، أن ترى أن النعم تأتيك رغدًا سهلة ميسرة، فتنسى الشكر، والشكر لا يكون باللسان فقط، إنما بذل القلب والجوارح.
ولذلك لما وقع من سبأ ما وقع (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ * فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ) [سبأ: 15، 16].
أعظم شقوة أن تسلب النعمة، المنع أهون من العطاء ثم السلب (وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ)، أشجار لا نفع فيها، شوك، يرون الذل بأعينهم بعد النعم (ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) [سبأ: 16]، نبق كله شوك، (ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ) [سبأ: 17].
المعاصي شؤم، المعاصي بريد الكفر، خطوة إلى المعصية هلاك؛ لأنك رجعت، وإن رجعت ربما لا تعود أبدًا.
عودوا إلى ربكم واستغفروه.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
عباد الله: المعوقات في السير إلى الله -عز وجل- كثيرة، بل وكثيرة جدًّا؛ لقلة المعين، وضعف السالك، وكثرة القواطع، ولذلك كان على العبد أن يكون على فطنة من أمر نفسه، كيف يدفعها إلى الطريق؟! وكيف إذا انقلبت به السفينة كيف يسبح ويعبر إلى الشاطئ الآخر؟! ربما يرى أن في الأمر جهدًا، وأن في الأمر صعوبة، ولكن إذا اتضح لك الهدف هانت الوسيلة، وقطعت الطريق بشوق ولذة.
أيها الأحباب: قلة المعين في غياب القدوات، لا يلتفت العبد حوله إلا ويرى متقلبات ومتغيرات، يرى أن الليل ثابت وأن النهار ثابت، ولكن أحوال العباد تتغير، فمن ثمّ وَاكَبَت نفسه التغير، فتغيرت نفسه مع من تغير، وتنكب مع من تنكب.
النفس تمل في سيرها إلى الله -عز وجل-، تحتاج إلى أنيس، وتحتاج إلى جليس، ولذلك كانت قلة القدوات أصلاً في تعثر الأمة.
قال عبد الله بن بشر: إذا جلست مع عشرين أو دون العشرين من الرجال، فلم ترَ فيهم أحدًا يهاب من خشية الله -عز وجل-، فاعلم أن الأمر ذهب، وأن الأمر رق.
الأمة تحتاج إلى رجال في وقت المحن يثبتون الخلق، ويثبتون العباد، حينما نسمع ونرى عن حال قرية، هذه القرية كانت مغموصة في الذنوب والمعاصي والآثام، فأرسل الله إليها رسولاً، فأبت، فأرسل ثانيًا، فأبت، فعزز بثالث، فأبت، فإذا في القرية رجل نجار بسيط لا حول له ولا قوة، ولكنه أيقن أن قومه في خطر، وأن الأمر جلل، ذُكِّروا ولم يتذكروا، وُعِظوا ولم يتعظوا، فترك عمله وأسرع إلى وسط المدينة كما قال -عز وجل-: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [يس: 20-24].
أراد أن يعبر عن حالهم بحال نفسه، يا قوم: حالنا -إن تركنا اتباع الأنبياء وتركنا أمر الله عز وجل- فنحن في ضلال مبين، فصرخ بها مدويًا: (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) [يس: 25].
رفضوا ما قاله، بل قاموا عليه قومة واحدة فقتلوه، فربنا -عز وجل- بيَّن حاله، وذكر مآله، ما ذكر القتل ولا التعذيب، ولكن هم قتلوه فدخل الجنة، قال سبحانه: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) [يس: 26]، ما أحوج الأمة إلى القدوات، إلى من يخشى الله -عز وجل-، إلى من يرى أن الطريق من الدنيا إلى الجنة، لا طريق بعد الدنيا إلا الجنة أو النار، من أخطأته الجنة دخل النار، طريق لا يختلف عليه نبي من الأنبياء، ولا رسول من الرسل، ولا أمة من الأمم ممن عرف الله -عز وجل-، (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) لما رأى حاله ومآله (قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) [يس: 26].
لا يعلم العبد حقيقة الأمر إلا عند السكرة، إلا عند لحظة الخروج، هو في الدنيا آمن (يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ) [النحل: 112]، يرى أن الله هذب له الرزق، وأمد له العمر، وأعطاه الصحة، فمادام في عافية لا يعرف الله أبدًا، مادامت الدنيا ميسرة لا يعرف الله أبدًا، بل لا يزال يضرب ويضرب حتى يسقط، عند السقوط بل عند أول مراحل الخروج من الدنيا، وعند أول مراحل الدنو من الآخرة، يرى أن الدنيا ولّت، وأن العمر قد انصرف في غير طاعة، يتمنى أن يرجع، يتمنى أن يعود.
أين ذهب العمر؟! أين الأيام؟! ضاعت. أين الليالي؟! ذهبت. أين الشباب؟! راح، ما بقيت إلا الحسرات.
والله الذي لا إله غيره يتمنى أن يعود لحظة من الزمان ليسجد سجدة، ليذكر ذكرًا، ليستغيث ويقول: وا غوثاه للملك: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ) [المؤمنون: 99، 100]، أرجع وأختم ختامًا حسنًا (كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا).
كم قالها من قبل ويقولها؟! وربما لو أعطاه الله -عز وجل- فسحة من الزمان لقالها مرة أخرى، كما قال -عز وجل-: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الأنعام: 28].
لذلك -أيها الأحباب- الخطب جلل، والأمر عظيم، قَلَّ من يأخذ بيدك إلى الجنة، قَلَّ من يقبض عليك وينحيك ويبعدك عن النار، في زمن الدنيا، في زمن المتغيرات، في زمن الغفلة، في زمن البعد عن الله -عز وجل- إلا من رحم.
ولذلك لما ركب نوح، وعصى الولد: (قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ) [هود:43]، بيَّن له نوح الحقيقة (قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ) [هود:43].
اركب السفينة التي توصلك إلى الجنة، واحذر من الشواغل والصوارف، وإياك أن تتعثر، فإن الحبس بين الجنة والنار لا يكون إلا لأقوام تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، لهم ذنوب تدخل النار، ولهم حسنات تدخل الجنة، يقفون (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ) [الأعراف: 47]، تُصرَف إلى النار صرفًا حتى يعلموا نعمة الله عليهم: (وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) [الأعراف: 47].
تنالهم الرحمة بعد هذه المحنة فيدخلون الجنة، ثم ينقسم العباد: فريق في الجنة وفريق في السعير.
أيها الأحباب: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد: 11]، إن كنت على الطريق مسرعًا فتباطأت وتأخرت وتكعكت ونسيت الأمر غيَّر الله حالك، من لذة الطاعة وقرب المناجاة، إلى قسوة في القلب وغفلة، ربما يتمنى العبد أن يقطَّع أو أن يحرَّق، ولا يكون في هذه الحالة.
لذة الإيمان لذة من ذاقها لا يتخلى عنها أبدًا، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاَّ لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ". رواه البخاري (16)، ومسلم (43).
أسأل الله الكريم الملك المنان الغفور الرحيم أن يغفر ذنوبنا، وأن يقيل عثرتنا، اللهم ارزقنا الإخلاص في السر والعلن، اللهم ارزقنا الإخلاص في السر والعلن، اللهم امنن علينا بتوبة نصوح، اللهم ارزقنا الجنة، ارزقنا الجنة، ارزقنا الجنة. وأقم الصلاة...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي