صبغة الإسلام في العلم والتعليم

مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني
عناصر الخطبة
  1. الحاجة لمراجعة الواقع التعليمي .
  2. الفجوة بين العلم والسلوك وصور من فوضى الطلاب الهائلة .
  3. صبغة الله تربط العلم بالتزكية والإيمان .
  4. اجتهاد السلف وإنجازهم بعد فهمهم هذه الغاية .
  5. الغاية من التعليم ودورها في إفساد العملية التربوية .
  6. تكامل العملية التربوية بين المدرسة والبيت والمجتمع .
  7. دور الإعلام في التربية .
  8. مسؤولية الآباء .

اقتباس

إننا نرى أنه قد سيطر على غاياتنا من التعليم الغاية المادية الصرفة، يتعلم الابن والبنت لكي يحوز في المستقبل على وظيفة يأكل بها، وينال شهادة يتوظف بها! إن الحقيقة أنه نقول -بمرارة- لقد تغيرت النيات، وأصبح العلم يُطلب لينال به الرتب، وتستلمَ به الشهادات، ويُرتقى به في درجات الوظائف والمرتبات، وقليل منا من يكون غايته من هذا تربية الابن على الأخلاق والعبودية لله تعالى الخلاق ..

 

 

 

 

أيها المسلمون: صبغة الله تعالى وشريعته تتعالى عن كل صبغة بشرية، وتتسامى على كل منهجية طينية ترابية، بدءًا من العقيدة والتوحيد، إلى الشعائر التعبدية، إلى الأخلاق والسلوك، إلى مناهج النظر، وسبل الفكر والتعامل، إلى تفسير المواقف والأحداث.

نعم، إنها صبغة الله تعالى في كل شيء من حياتنا، لا يندُّ عنها شيء، ومَن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون؟ مِن هذه الحقيقة الربانية نستلهم على ضوئها مُدارسة ما نعيشه هذه الأيام من بداية الموسم الدراسي الجديد؛ لنتحدث عن أبرز ركائزه، وهي التعليم والتربية.

أيها المسلمون: في كل عام تتكرر مشاهد هذه الأفواج الزاخة إلى قاعات الدراسة، وما يكون معها من حالات استنفارية تطال جميع المجتمع، من ذات الفرد نفسه، إلى أسرته، إلى المدارس، إلى محلات القرطاسية والمكتبات، إلى أصناف أُخَرَ.

إننا بحاجة إلى مراجعة واقعنا، وامتحانه واختباره، على صبغة ربنا -سبحانه وتعالى-؛ أفواج تأتي وأُخر تذهب، وهكذا دواليك، أموال تصرف، ونفوس تتحرق وتلتهب، وجهود مضنية تترقب، ومبانٍ تُستحدث، وكُتُب تطبع، ومصارف أخر تستنزف أموالاً وجهوداً، كل ذلك يستوجب منا الوقوف لنقول كلمة حق، ونوضح منهج صدق؛ فهلم -أحبتي- لنقرأ واقع التعليم كما هو الآن.

لنبدأ أولاً بحالنا وواقعنا مع الغاية من هذا التعليم، يا ترى! كل هذه الجهود والحشود لم تبذل وتحشد؟! إننا نرى أنه قد سيطر على غاياتنا من التعليم الغاية المادية الصرفة، يتعلم الابن والبنت لكي يحوز في المستقبل على وظيفة يأكل بها، وينال شهادة يتوظف بها! إن الحقيقة أنه نقول -بمرارة- لقد تغيرت النيات، وأصبح العلم يُطلب لينال به الرتب، وتستلمَ به الشهادات، ويُرتقى به في درجات الوظائف والمرتبات، وقليل منا من يكون غايته من هذا تربية الابن على الأخلاق والعبودية لله تعالى الخلاق.

وهذا الأمر هو الذي أفسد مفعول الآيات والأحاديث والأحكام الشرعية والنصوص الأدبية التي تحث على خلق حسن، وشيم كريمة، وتنهى عن أضدادها، فلم تعد ذات أثر في سلوك الطالب وأخلاقه، بل نرى أكثرهم عن آداب التعلم معرضين، وفيما يناقضها ويضادها واقعين، ثم نرى بعد ذلك انفصالاً ذريعاً خطيراً بين سلوك الطالب وبين ما يتعلمه.

أرِسَالةُ التعليم أن يحفظ الطالب نصوصاً يتوظف بها فحسب، دون أن يكلف نفسه مسؤولية العملِ بها؟! إن رسالة التعليم لم تكن غايتها أن يحفظ الطالب أوالطالبة نصوصًا في أهمية الصلاة وكيفيتها وشروطها وواجباتها ثم هولا يصلي إلا قليلاً! أو يصليها على غير ما تعلمها، إن رسالة التعليم في الإسلام، وفي صبغة الله تعالى، أسمى من أن يكون هدفها أن يقرأ الطالب في المدرسة موضوعًا في مادة المطالعة وغيرها عن الصدق وبعده بهنيهة يكذب على معلمه وزملائه، إن رسالة التعليم في صبغة الله تعالى أشرف قدراً من أن تقف عند كتابة الطالب موضوعًا في التعبير عن الوالدين، ويُحَلِّيه ويجمِّله، ثم هو يخرج من المدرسة ليرعد ويزبد على أمه، ويعرض عن أمر أبيه!.

إن هذه النظرة هي أحد الأسباب الكبرى في فساد العملية التعليمية، أترون بعد هذا أدرك قيمة العلم مَن كان يتعلمه وهو كذوب خؤون يتمرّغ في الرذيلة، وينقض مبادئَ التربية عروةً عروة بسلوكه وأخلاقه؟! أترون بعد هذا أدرك قيمة التعليم من لم يظهر عليه أثره في أدبه مع العلم، وفي أدبه مع أساتذته، وفي أدبه مع إخوانه وكتبه؟!.

صور لا تخطئها عدسات أبصارنا ولا أسماعنا عن أحوالٍ من الفوضى الهائلة تجتاح الطلاب والطالبات، تهاونٌ في الفرائض والواجبات، تمرُّدٌ على الآداب والأخلاق، وطوفان يغمرهم من التقليد والتبعية القاتلة في الظواهر والقشور للكفور الفجور، إعجاب بالكافر وانبهار بشخصيته، أجيال وأفواج فارغو الهمم، مظلمو الروح، ضعيفو البصر والبصيرة، يتسابقون إلى قصات، ويتكسّرون في مشيات.

ضعْفٌ في همم الطلاب، ودنوّ في مطالبهم، ودناءة في أهدافهم، حيث يعيشون في واد والعلم في واد آخر، منحرفين عن الصراط المستقيم، منصرفين إلى سبل الشر والفساد، تصرفاتهم صبيانية، وحركاتهم شهوانية، بعضهم يروّج المخدرات والمفتّرات، وآخرون يتبادلون الصور الفاضحات، وتنشغل فئة منهم بمطاردة المُرْدَان، ومضايقة الغلمان، وأخرى بأشرطة الغناء، واللعب بالسيارات، كتابات سخيفة على الجدران والممرات، وفي دورات المياه، وعلى الكراسي والمكاتب، والكتب والدفاتر، بل حتى على المصاحف وكتب التفسير والفقه والحديث! والدخول في قضايا ومشكلات يجرون أباءهم وأمهاتهم إليها كانوا في غنى عنها، وراحة منها، لو اتجهوا حقاً إلى غاية العلم والتعلم ، وعرفوا الهدف المطلوب منهم؛ فسعوا إلى تحقيقه، وتركوا الانشغال بما لا فائدة لهم فيه، ولا نفع من ورائه.

أيها المسلمون: تلك أحوال من أحوال وشواهد من واقعنا على خلل نظرتنا في التعليم والعلم، لا تتفق أبداً مع صبغة ربنا -سبحانه- ومنهاجه في كتابه، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ إن لله تعالى صبغة ربانية في العلم تختلف وهذه النظرة المادية السطحية، أعلا صورها، وأبرز مسلماتها، ارتباط العلم بالعمل والإيمان والتزكية، (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الجمعة:2]، وقال تعالى: (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر:9]، وقال سبحانه: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) [فاطر:28]، وقال جل وعلا: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ) [المجادلة:11]، وقال سبحانه: (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَولا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا) [الإسراء:107]، وقال جل وعلا: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوالْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [سبأ:6].

وقد أمر -سبحانه- نبيه أن يدعوه ليزيده علمًا، وبيّن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنّ "مَن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين"، وأنّ "مَن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له طريقًا إلى الجنة"، وقال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له". إنه علم يقود إلى الله تعالى ومرضاته، وإلا فالهاوية والخسران المبين؛ قال: "من تعلم علمًا مما يُبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عَرَضًا من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة".

ولذا لَمــــــَّا فقِه السلفُ هذه الصبغة الربانية كانت حالهم في طلب العلم عجيبة، استثمروا في طلبه دقائقهم وساعاتهم، وأفنوا في تحصيله شبابهم وأعمارهم، وأمضوا في مدارسته ومطارحة مسائله أغلى أوقاتهم، فحصلوا منه ما يدعو إلى الدهشة، ويبهر الألباب، ويستنهض الهمم، ويقوي العزائم؛ رحل جابر بن عبد الله إلى بلاد الشام مسيرة شهر ليسمع حديثًا واحدًا من عبد الله بن أُنَيس، ورحل أبو أيوب الأنصاري إلى عقبة بن عامر بمصر ليسمع منه حديثًا واحدًا، وقال أبوالعَالِيَة: وكنا نسمع الحديث عن الصحابة، فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم. وكانوا على منهج أوفق، وصراط أهدى سبيلاً، قائمين بصبغة الله تعالى في التعليم.

روى الإمام أحمد عن أبي عبد الرحمن قال: حدثنا من كان يقرِئنا من أصحاب النبي أنهم كانوا يقترئون من رسول الله عشرَ آيات، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتى يعلموا ما في هذه من العلم والعمل. قالوا: فعُلِّمنا العلم والعمل. بل كانوا يسمّون معلّم الأولاد: المؤدّب، والمربي؛ لارتباط العلم بالأدب؛ قال ابن المبارك -رحمه الله-: تعلمنا الأدب ثلاثين عاماً، وتعلمنا العلم عشرين. وقال ابن سيرين: كانوا يتعلمون الهديَ كما يتعلمون العلم. وروى ابن المبارك عن ابن الحسن قال: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث.

التعليم إذاً في صبغة الله تعالى -أيها المسلمون الذين كرمهم الله بصبغته- ليس مجرّدَ كتاب يُحفَظ، ومعلومات تُلقى، وصفوفٍ ينتظم فيها الطلاب؛ بل هو إعداد جيل، وتربية نشء، وبناء عقيدة، وترسيخ مفاهيم، وغرسُ قِيَمٍ وأخلاق.

إن مهمةَ التعليم في دين الله تعالى -قبل أن تكون قاصرة على إعطاء المعلومات- مهمةٌ أجلُّ وأخطر، هي تكوينُ القلب الذي يستخدم المعلومات للخير لا للشر، ولنفع البشرية لا لضررها، ولا سبيل لذلك إلا بالتربية، تربية ترسِّخ العقيدةَ وتغرسها في أعماق القلب، حتى لا تتصدّع بشبهة، ولا تنحني لشهوة؛ تربية إيمانية بعيدةً عن اللهو والعبث والمجون، أساسها القرآن والسنة، ومنهجها فهْم سلف الأمة، وميدانها تزكية النفس، تربية تجعل النفس تتعلق بمعالي الأمور وتترفَّع عن سفسافها، فلا ترضى إلا لله، ولا تغضب إلا لله، ولا توالي إلا فيه، ولا تعادي إلا لأجله؛ إنها مهمة تكوين وصناعة القلوب الربانية؛ كيلا يكون الشاب شيطاناً يرمي بشرره وينشر الدمار والبؤسَ على العالمين، كيلا تجرفه موجات إدمان المخدرات، والأفكار المنحرفة، والعقائد الضالة.

ومن هنا أوجه لإخوتي المعلمين نداء محاسبة لأنفسهم من خلال هذا التصور الرباني، أن يطرح كل واحد منهم على نفسه سؤالا من هذه الأسئلة، ولْيُجِبْ عليها بمصداقية، ولْيَسْعَ إلى تحقيقها: ما هي القيَم التربوية التي عنيت بها في تعليمك لأبناء المسلمين؟ كم من المبادئ الإسلامية غرستها في الناشئة ودعوت إليها؟ كم رذيلة ومنكر منتشر في المجتمع حذّرتَ منها؟ كم من سلوك معوجّ ساهمت في معالجته؟ وكم ثقافة أصيلة رسختموها؟ وكم من فكر منحرف حذّرتم منه؟ تلكم -وغيرها كثير- أسئلة مهمة، ينبغي أن يَمتحن المعلم والمربي نفسه فيها.

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

أيها المسلمون: إن من أجلِّ مشكلات التربية القائمة اليوم، مع ما سبق، هي تلك الازدواجية المقيتة، والتنافض الصارخ في واقعنا التي يعيشها الطالب والطالبة بين مؤسسات المجتمع كله، حين يتعلم في المدرسة شيئاً من أمر الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم- ثم يفاجأ بسيل من المشاهد والصور التي تغتال في نفسه أمر الله ورسوله -صلى اله عليه وسلم- عبر الصحف والمجلات، أومن خلال الشاشات الملونة، والفضائيات الماجنة؛ بل من خلال فعائل الأب والأم، فيهجر أمر الله ورسوله، وينساه، ولا يلوي عليه.

إن التربية والتعليم عملية مستمرة تتكامل وتشترك فيها العديد من المؤسسات في المجتمع، الإعلام، والنوادي، والأسواق، والبيت، وغيرها. كم هو مؤلم أن تتضارب وتتناقض المؤسسات داخل المجتمع الواحد، والضحية الطلاب والطالبات.

أين دَوْرُ الآباء والأمّهات في هذا التكامل؟ وما دور وسائِلِ الإعلام في التربية والتوجيهِ والنّصح والتعليم؟ وهل أدّى التكامل في التربية من أيقظَ ابنَه للمدرسة وأهملَه في صلاة الفجر أو العصر؟! وهل رعى المسؤوليّةَ التكاملية مَن جلَبَ الفضائيّاتِ والمفسِدات لبيتِه في تناقضٍ صريح مع مقوّمات التربية التي تجاهِد المدرسةُ في إرسائِها وبنائها؟!.

إنّه لم تعدِ التربيةُ اليومَ مقتصرةً على مقاعدِ الدراسة، فمع التطوّر الهائل، والانفتاحِ المذهِل لوسائل الإعلام والاتّصال، أصبحنا في وقتٍ ينازعنا -لا بل ينتزع- غيرُنا أجيالنا فيربيهم بعيدا عن منهجنا، إننا لنعترف بمرارة فنقول: لقد أضحى الأب والأم يعيشان دوراً هامشياً في التربية! لقد بات الإعلام والتقنية هي المربي المتفرد في عصرنا بما يملكان من قوة التأثير، وسلطة الإغراء؛ فكيف يتم الزرع وفضاء البيوت يعج بفضائيات تهدمُ القِيَم والعقائد؟ في تدميرٍ ظاهرٍ لكلِّ ناظر.

كيف تُحقق الطاقاتُ والإمكانات المبذولة في التربية والتعليم تربيةً، بينما الفضائياتُ تهدِم وتفسِد وتفتِك، في حربٍ مع الدّين والقِيَم، ليُستَنبَتَ جيلٌ في هذه المستنقعاتِ قد شرِب من هذا الكدر ورتع فيه؟.

ألا فليُنقِذ كل امرئ منا نفسه، وقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6]؛ وفي الحديث: "كلُّكم راعٍ، وكلّكم مسؤولٌ عن رعيّته".

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي