سبل الوقاية من الفتن

سعود بن ابراهيم الشريم
عناصر الخطبة
  1. التحذيرات النبوية من مغبة الفتن .
  2. تعاقب الأحداث وتسارعها .
  3. ضرورة الاتعاظ من الأحداث والمستجدات الجارية .
  4. المبادرة للوقاية من الفتن .
  5. خطورة الذهول عن أهمية الوقاية من الفتن .
  6. خطورة تسويف الأخذ بمبدأ الوقاية .

اقتباس

إننا في الوقت الذي يحمدُ اللهَ فيه كلُّ مسلم أو مجتمعٍ لم تنَلْه تلكم الأحداث والمُستجدَّات، ولم تحُلَّ بدارهم؛ يجبُ أن لا يبخَلوا على أنفسهم من سؤال العافية والسلامة، وأن لا تمُرَّ عليهم تلكم الخطوب دون أخذ الدروس والعِظَة والعِبرة؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "السعيدُ من وُعِظَ بغيره، والشقيُّ من شقِيَ في بطن أمه". وإن أحسن أحوال العِبرة والعِظة -عباد الله- ما كان مُتزامنًا مع سببها، لكون الاستعداد النفسي أبلغ في مُقابل قوة الحدث، وإلا وقع السهو والنسيان ..

 

 

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد:

فيا أيها الناس: من رحمة الله -جل وعلا- على عباده أن بعثَ رسول الهدى شاهدًا ومُبشِّرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا مُنيرًا، لم يدَع خيرًا إلا دلَّ الأمةَ عليه، ولا شرًّا إلا حذَّر الأمة منه، وإن مما حذَّر منه أمتَه: الفتن التي تكون آخر الزمن وتكاثُرها وترادُف حلقاتها، والغواسِق التي تُحيطُ بالناس والمُجتمعات من كل جانبٍ، فتمُوجُ بهم كموجِ البحر، وتقعُ القوارِعُ في دارهم أو قريبًا من دارهم على حين غِرَّةٍ لم تخطُر على بالِ آمنٍ لاهٍ، ولم تلُحْ له في أُفق؛ فتحِلُّ الفجأة، وتعظُم الدهشةُ والذهول لهول الأحداث والمُستجدَّات وسرعتها، حتى يتلقَّاها السامعُ والمُشاهِد، ولا يكادُ يُسيغُها إلا بشَرَق الرَّوْع؛ لأنها لم تدُر بخلَده أو تقع في ظنِّه أن غِيَرًا وأحداثًا كونيةً واجتماعيةً وسياسيةً وفكريةً ستحِلُّ فجأةً على وجه التسارُع والتدافُع.

وهذا ما يُذكِّرنا بما أخبرنا به المصطفى -صلى الله عليه وسلم- عن أشراط الساعة وقيامها في سرعةٍ لم تخطُر على بالٍ الأحياء إبَّانَها، كما جاء في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتقُومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايَعانه ولا يطوِيانه، ولتقُومنَّ الساعة وقد انصرفَ الرجل بلبنِ لِقحَته فلا يطعمُه، ولتقُومنَّ الساعة وهو يُليطُ حوضَه فلا يسقِي منه، ولتقُومنَّ الساعة وقد رفع أكلَته إلى فِيه فلا يطعَمها".

كل ذلك -عباد الله- دليلٌ على سرعة وقوع الحدث وما يحمِلُه من مفاجآت، وأن نفسًا لا تدري ماذا تكسِب غدًا ولا بأي أرضٍ تموت.

ألا وإن تعاقُب الأحداث وترادُفها، وطلب بعضها بعضًا طلبًا حثيثًا لهو من سِمات هذه البُرهة من الزمن الحاضر الذي بلَغَت فيه الحضارة المادية أوْجَها، والغليَان المعرفي والتِّقَنيُّ قمَّته، ويخلقُ الله ما لا تعلمون.

ولقد صار من سرعة الأحداث والمُدلهِمَّات أن رياحَها لا تُتيحُ لأي رمادٍ أن يجثِمَ مكانه، ولا لأي جمرةٍ أن ينطفِئَ وميضُها، فتتراكمُ التداعيات بعضُها على بعضٍ ليخِرَّ سقفُ الهدوء، وتُقبِلَ فُلول الطوارئ والمُفاجآت في عسعسةِ الليل أو تنفُّس الصبح.

غير أن هذا كله لم يأتِ طفرةً دون مُقدِّماتٍ أو مُسبِّبات، مع اتفاقنا جميعًا بأن ساعة الحدوث تُعدُّ مفاجِئةً بسبب شَرَر وميض جمرٍ خِلَل الرماد، اشتدَّت به الريحُ في يومٍ عاصفٍ، فتطايَرَ شَرَره إلى قشٍّ يَباسٍ، فما هو إلا الضِّرام ما منه بُدٌّ، مع أن أصواتًا صادقةً وصيحاتٍ ناصحةً قد سُمِعت، فلم تلقَ رجعَ الصدى، ولم يستبِن السامعون ذلكم النُّصح إلا ضُحى الغد، ولاتَ حين مناص.

عباد الله: إننا في الوقت الذي يحمدُ اللهَ فيه كلُّ مسلم أو مجتمعٍ لم تنَلْه تلكم الأحداث والمُستجدَّات، ولم تحُلَّ بدارهم؛ يجبُ أن لا يبخَلوا على أنفسهم من سؤال العافية والسلامة، وأن لا تمُرَّ عليهم تلكم الخطوب دون أخذ الدروس والعِظَة والعِبرة؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "السعيدُ من وُعِظَ بغيره، والشقيُّ من شقِيَ في بطن أمه". رواه مسلم.

وإن أحسن أحوال العِبرة والعِظة -عباد الله- ما كان مُتزامنًا مع سببها، لكون الاستعداد النفسي أبلغ في مُقابل قوة الحدث، وإلا وقع السهو والنسيان:

وإذا لم يُغبِّر حائطٌ في وقوعه *** فليس له بعد الوقوع غُبارُ

وحينئذٍ فإن أي قُربانٍ سيجيءُ مُتأخرًا فستأكله نيران الأحداث بتغيُّظٍ وزفير.

كل ذلك -عباد الله- لتكون العِبرة والعِظة داعيةً إلى الاستباق الآمِن من الوقوع في مثلها، أو بعبارة العصريين: الوقاية خيرٌ من العلاج، أو ما يُسمَّى بـ"الأمن الوقائي"، أو بالعبارة الشرعية الأصيلة: "الدفع أولى من الرفع"، فإن مما يتفق عليه العُقلاء جميعًا أن منع وقوع الشيء المكروه خيرٌ وأولى من رفعه بعد وقوعه، وشريعتُنا الغرَّاء جاءت حاضَّةً على المُبادرة والمُسارعة بالأمور الدافعة للمكاره قبل أن تحِلَّ بالمرء والمجتمع.

فمن ذلك: قوله تعالى: (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [الزمر: 54]، ومنه قوله سبحانه: (وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) [الأنعام: 151]؛ فنهى عن القُرب منها؛ لأن القُرب سببٌ في الوقوع، وهذا دليلٌ على وجوب الوقاية.

وقد جاء في السنة المطهَّرة ما يُؤكِّد هذا المعنى صراحةً؛ حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "بادِروا بالأعمال فتنًا كقطع الليل المُظلِم، يُصبِحُ فيه الرجلُ مؤمنًا ويُمسِي كافرًا، ويُمسِي مؤمنًا ويُصبِح كافرًا، يبيعُ دينَه بعَرَضٍ من الدنيا". رواه مسلم.

وقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "اغتنِم خمسًا قبل خمس: شبابَك قبل هرَمك، وصحَّتك قبل سقَمك، وغناءَك قبل فقرك، وفراغك قبل شُغُلك، وحياتَك قبل موتك". رواه الحاكم وغيره.

ومما يدل أيضًا على رعاية الشريعة وحضِّها للوقاية والمُبادرة والحَذر: ما جاء من قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يُورِد مُمرِضٌ على مُصِحّ". رواه الشيخان.

وعند مسلم في صحيحه أنه كان في وفد ثقيف رجلٌ مجذوم، فأرسلَ إليه: "أنِ ارجع؛ فقد بايعناك".

وفي ذلك دليلٌ -عباد الله- على الوقاية من جُذامه بالاكتفاء بالمُبايعة عن بُعدٍ دفعًا للعدوى.

إذا عُرِف ذلكم -عباد الله-؛ فإن مبدأ "الوقاية خيرٌ من العلاج" مبدأٌ شاملٌ لكل شؤون الحياة، وإن من الخطأ الصريح: قصرَه على المجال الصحيّ فحسب؛ بل إنه يمتد إلى المجال الغذائي والعلمي والفكري والإعلامي والاقتصادي والسياسي على حدٍّ سواء، وإن الجهد الذي يُبذَل في الوقاية في ذلكم كله ينبغي أن يكون أسبق، وأن ينال اهتمام جميع الفئات في المجتمع بصورةٍ أكبر مما يُبذَل في العلاج، وهنا مكمنُ شعور كل فردٍ مسلم وإدراكه للعواقب، والتوجُّس من المُدلهِمَّات.

وإذا كانت الشريعةُ الغرَّاء قد حضَّت على المُبادرة بالأعمال؛ فإن هذا التحريض لم يكن قاصرًا على جهةٍ دون أخرى؛ بل إنه يشمل الفرد والأسرة، والعامِّي والعالِم، والسياسي والمُفكِّر، وأمثالهم ممن هم صورة المجتمع وتكوينه؛ إذ من الخطأ قصرُه على جهةٍ دون أخرى؛ كأن يُقصَر على القيادة فقط، أو العلماء فحسب؛ كلا، فلُحمة المجتمع، والشعور بالواجب تجاهه مهمة الجميع، والحرصُ على حمايته من أي داخلةٍ فيه انتماءٌ إيجابي يدلُّ على الأمانة الحقَّة في سبيل الاجتماع على الحق والخير، والتعاوُن على البرِّ والتقوى، لا على الإثم والعدوان؛ ليتمَّ السير بسفينة المجتمع الماخِرة إلى برِّ الأمان بعد الخروج بها من ظُلمات البحر اللُّجِّي الذي يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب.

وبعد -يا رعاكم الله-: فإن ذهول الكثيرين منا تجاه ما يقع في هذه الآونة من مُستجدَّاتٍ وغِيَر لم يكن عائدًا إلى تدنٍّ في مستوى ذكاء عموم المجتمعات، أو لضعفٍ في آلية الإنذار المُبكِّر بقدر ما كان سبب إهمال مبدأ الوقاية وتوفير أسبابها واستحضار حكمها؛ لأن الإفراط في الأمن من المُتغيِّرات هو مكمنُ الخوف والخطر، كما أن الحذر المُفرِط أيضًا مكمنٌ للجُمود والبَلادة وتأخُّر المسير.

وخيرُ الأمور في ذلكم: الوسط، وقد قيل:

إن التـوسُّط في الأمور سلامةٌ *** كي لا ضِرارَ ينالُ منك ولا ضَرَر
قـد يُهلِكُ الإنسانَ أمنٌ مُفرِطٌ *** أو يعتَريه السـوءُ من فرطِ الحذر

إن عدم الوعي التام بقيمة الوقاية من قِبَل العموم ومدى تقديرهم لحجم وطبيعة مُتطلَّبات الوقاية لهُوَ سببُ تحمُّل وقوع الشيء، ومن ثَمَّ علاجُه، وكلا الأمرين بُعدٌ عن الواقع وبرودٌ في التعامل مع المُتغيِّرات بما من شأنه دفعُ عجلة المُدلهِمَّات عن الوقوع، أو على أقل تقديرٍ الإبطاء بها إلى حين وضع السياج الآمِن الذي يحمي من خطر وقوعها إن هي وقعت؛ فضلاً عن أن الشعور بوجود عصًا سحرية لديها الاستعداد لدفع كل شيء إنما هو شعورٌ مُتولِّدٌ من لا شعور؛ لأن الفائدة من الوقاية هي التطلُّع إلى وضعٍ أفضل، أو التخلُّص من وضعٍ أسوأ؛ لأن أي أحدٍ منَّا لن يستطيع إصلاح عجلة الطائرة بعد إقلاعها، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال: 53].

وبما أن الشيء بالشيء يُذكَر؛ فإن هذه البلاد -حرسها الله- قد ضربَت مثلاً في الصلة والتلاحُم بين قيادتها وعلمائها وأفرادها، ووقفت في خِضَمِّ الأحداث موقف المسؤولية والشعور بالخطر، فيما لو أهمل كل واحدٍ منا مسؤوليته، فكان ذلك البيانُ الشافي من هيئة كبار العلماء في هذه البلاد -حرسها الله-، وكانت تلكم القرارات المشهودة الصادرة عن وليِّ أمرنا -حفظه الله- والتي أكَّد من خلالها أن الشريعة الإسلامية هي قدَرُ هذه البلاد، وأكَّد من خلالها أيضًا مكانة العلماء وأثرَهم في المجتمع بقيادتهم العلمية الداعِمة للقيادة السياسية، كما لامَسَت تلك القرارات احتياجات المجتمع والمواطن التي تفتقِرُ إلى إصلاحٍ وتجدُّد.

جعل الله ذلك في ميزان الحسنات، ووفَّق هذه البلاد قيادةً وعلماء وشعبًا إلى البر والتقوى، ووقاه كل سوءٍ وفتنة، ووقى جميع بلاد المسلمين شرَّ الفتن ما ظهر منها وما بطن.

(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ) [البقرة: 197].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قد قلتُ ما قلت، إن كان صوابًا فمن الله، وإن كان خطأً فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فاعلموا -يا رعاكم الله- أننا اتفقنا على ضرورة الأخذ بمبدأ الوقاية والإقرار به، فإن المشكلة حينئذٍ لن تكون في كيف نقِي أنفسنا، وإنما هي في متى نقِي أنفسنا ومجتمعنا؛ لأنه متى دبَّ في النفوس داء التسويف والتأجيل فإن القابلية للمفاجآت والطوارق أشد وجودًا، وإذا كانت المقولة المشهورة تقول: "لا تُؤجِّل عمل اليوم إلى الغد"، فإن لسان حال كثيرٍ من الناس يقول: لا تُؤجِّل إلى الغد ما تستطيع أن تفعله بعد غدٍ، وكأن الدنيا -عباد الله- بلا صُروفٍ ولا غِيَر ولا قوارع، ولقد أحسن من قال:

ما عند يومي ثقةٌ لي بغدِي *** لا بُدَّ من دار خلود الأبدِ

فحذارِ -عباد الله- أن يتسلَّل بعضُنا لِواذًا بداء التسويف في زمنٍ يتحتَّمُ فيه العزمُ والعمل على التهذيب والتربية على مبدأ الوقاية الذي ينقِل من السوء إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن.

وإذا كانت الغايةُ نبيلةً فإن مبدأ الوقاية سيكون محوره العدل في جميع السُّبُل، فلا يمكن أن يتجاوز جمهورُ الناس في عملهم ما يُسمُّون به حقًّا للغير، وسيكون مصبُّ الأخير في القيمة المُطلقة التي تُؤلِّف بين أفراد المجتمع الواحد في منظومةٍ واحدةٍ يعمُّها معيارٌ واحد؛ ليُؤدِّي كلٌّ منهم عمله لبقاء البِنْية الجامعة للمجتمع الواعي بلا فُتوق؛ كلٌّ في مجال عمله وتخصُّصه وما انتهى إليه علمُه.

فلا ينبغي أن يُطلَبَ من العين أن تبطِش وهي للإبصار، ولا من الأذن أن تمشي وهي للسمع، وإلا لأصبحنا كمن يأكل المِلح ليدفع به العطش، أو يشرب الماء ليدفع الجوع، أو يستنشق الغاز ليتنفَّس.

ألا وإن لكل سفينةٍ ملاَّحًا، وإذا غابَ ملاَّحُ السفينة وارتمَت بها الريحُ يومًا دبَّرَتها الضفادِع، وإن أي أمةٍ يكون الواقي والدافعُ فيها إنما هم بنوها من أفرادها إلى قادتها، ويكون كل واحدٍ منهم آخِذًا بحق الكل، لا يقصد مقصدًا بعكس مقصد السواد الأعظم، ولا غايةً تميلُ به عن غايتهم، فهي الأمة التي علا فيها التكامُل وحُسن الانتماء وتحقيق المصلحة المُشتركة التي يسعى بذِمَّتهم فيها أدناهم: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [التوبة: 115].

هذا؛ وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56]، وقال -صلوات الله وسلامه عليه-: "من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".

اللهم صلِّ وسلِّم وزِد وبارِك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين.
 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي