تقدمت بعض حقوق أهل الكتاب في بلاد المسلمين، لكن لا يقرون على كل شيء، ولا يساوون بالمسلمين؛ فمن الشروط التي أخذها عمر -رضي الله عنه- على أهل الكتاب أن لا يظهروا شعائرهم الباطلة، فمما جاء في شروطه -رضي الله عنه-: "وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر صليبًا ولا كتبًا في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيًا ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: يعيش في البلاد الإسلامية والعربية بعض من غير المسلمين من أهل الكتاب، فبعضهم مستوطن لهذه البلاد، والبعض دخلها لغرض معين يرحل بعده، طالت المدة أم قصرت، فأذكر أهم الأحكام التي تتعلق بحقوقهم.
فمن حقوقهم: العدل معهم وعدم ظلمهم وبخسهم حقوقهم؛ قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة:8]، فلا يحمل المسلم بغضه لغير المسلمين من ظلمهم وبخسهم حقوقهم.
ومن حقوقهم: عدم إكراههم على الدخول في الإسلام، فإذا أبوا يقرون على دينهم: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ) [البقرة: 256]، لكن يدفع المواطنون الجزية.
ومن حقوقهم: الوفاء لهم بالعهد الذي سلف من أجدادهم ما لم ينقضوه؛ قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/475): "صار في اصطلاح كثير من الفقهاء أهل الذمة عبارة عمن يؤدي الجزية، وهؤلاء لهم ذمة مؤبدة". اهـ. وقال الماوردي في الأحكام السلطانية ص284: "إذا اجتهد رأيه في عقد الجزية معها على مراضاة أولي الأمر منهم صارت لازمة لجميعهم ولأعقابهم قرنًا بعد قرن، ولا يجوز لوالٍ بعده أن يغيره إلى نقصان منه أو زيادة عليه".
ومن حقوقهم: حرمة دمائهم وأموالهم؛ فعن عبد الله بن عمرو عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قتل نفسًا معاهدًا لم يرح رائحة الجنة". رواه البخاري (6914).
ويحرم الاعتداء عليهم اعتداءً حسيًّا أو معنويًّا، حتى إن غيبتهم تحرم؛ قال القرافي في الفروق (3/14): "فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيّع ذمة الله تعالى وذمة رسوله -صلى الله عليه وسلم- وذمة دين الإسلام". انتهى.
وردت بعض النصوص التي قد يسيء فهمها البعض، فيجعلها ذريعة لأذيتهم؛ فعن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام؛ فإذا لَقِيتُم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه". رواه مسلم.
فالسلام اسمه ووصفه وفعله والتلفظ به ذكر له، فيصان بذله لغير أهل الإسلام، فلا يحيى به أعداء السلام، ولهذا كانت كتب النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى ملوك الكفار: "سلام على من اتبع الهدى". ولم يكتب لكافر سلام عليكم أصلاً.
قال القرطبي في المفهم في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فإذا لَقِيتُمُ أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه"، معناه: لا تتنحوا لهم عن الطريق الضيق إكرامًا لهم واحترامًا، وعلى هذا فتكون هذه الجملة مناسبة للجملة الأولى في المعنى، وليس المعنى إذا لَقِيتُمُوهم في طريق واسع فألجئوهم إلى حرفه حتى يضيق عليهم؛ لأن ذلك أذى لهم، وقد نهينا عن أذاهم بغير سبب".
الإحسان إليهم غير منهي عنه لعموم قوله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة: 8، 9].
بل المحسن للكفار غير المحاربين مأجور على إحسانه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينا رجل يمشي فاشتد عليه العطش، فنزل بئرًا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له". قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرًا؟! قال: "في كل كبد رطبة أجر". رواه البخاري (2363) ومسلم (2244).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح (7/226): "فيه الحث على الإحسان إلى الناس؛ لأنه إذا حصلت المغفرة بسبب سقي الكلب فسقي المسلم أعظم أجرًا. واستُدل به على جواز صدقة التطوع للمشركين، وينبغي أن يكون محله ما لم يوجد هناك مسلم، فالمسلم أحق". اهـ.
وليعلم أن الإحسان إليهم لا يقتضي محبتهم، فالإحسان لهم عبادة، وكرههم وبغضهم أيضًا قربة، والإنسان قد يحسن إلى من لا يحب، بل يحسن إلى من لا يمكن تصور محبته.
تقدمت بعض حقوق أهل الكتاب في بلاد المسلمين، لكن لا يقرون على كل شيء، ولا يساوون بالمسلمين، فمن الشروط التي أخذها عمر -رضي الله عنه- على أهل الكتاب أن لا يظهروا شعائرهم الباطلة، فمما جاء في شروطه -رضي الله عنه-: "وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا، ولا نظهر صليبًا ولا كتبًا في شيء من طرق المسلمين، ولا أسواقهم، ولا نضرب بنواقيسنا في كنائسنا إلا ضربًا خفيًا". قال شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (1/320): "رواه حرب بإسناد جيد".
وقال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/719): "لما كان الصليب من شعائر الكفر الظاهرة كانوا ممنوعين من إظهاره". انتهى.
ووجه كونه كفرًا أنه تكذيب للقرآن، فهم يزعمون صلب عيسى عليه السلام، والقرآن يكذب ذلك، فمن اعتقد خلاف ما جاء بالقرآن فهو كافر: (وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً * وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً) [النساء: 156 – 158].
كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقوم بإزالة التصاليب التي في الثياب والفرش وينقضها وإن كانت من غير قصد؛ فعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "لم يكن يترك في بيته شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه". رواه البخاري (5952).
فإذا كانوا ينهون عن إظهار ما يخالف القرآن، فالمسلم ينهى من باب أولى، فيحرم على المسلم لبس ما فيه صليب أو حمل الصليب.
سئلت اللجنة الدائمة (2/119) عن حكم لبس المسلم الصليب فكان الجواب: "إذا بين له حكم لبس الصليب، وأنه شعار النصارى، ودليل على أن لابسه راضٍ بانتسابه إليهم، والرضا بما هم عليه، وأصر على ذلك، حُكِم بكفره؛ لقوله -عز وجل-: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة: 51]، والظلم إذا أطلق يراد به: الشرك الأكبر. وفيه أيضًا إظهار لموافقة النصارى على ما زعموه من قتل عيسى -عليه الصلاة والسلام-، والله سبحانه قد نفى ذلك وأبطله في كتابه الكريم حيث قال -عز وجل-: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء: 157]". انتهى.
هل يجوز لمن له ولاية على المسلمين أن يولي غير المسلمين عملاً من أعمال الدولة المسلمة؟! وهذه من مسائل الخلاف بين أهل العلم، ولهم فيها عدة أقوال، ولعل القول الوسط وهو الذي لا يسع ولاة أمور المسلمين في هذا الزمان إلا العمل به، هو إذا كان للموظف ولاية ويأمر وينهى، أي له سلطة فيفوض له صلاحيات اتخاذ القرارات، فلا يولى هذا المنصب، وإذا كان عمله تنفيذيًا فقط فيجوز أن يولى الولاية؛ لقوله تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء: 141]، فإذا كان منفذًا فقط ولم يكن له ولاية بخلاف إذا كان بيده سلطة، وحُكْمه نافذًا على المسلمين وغيرهم.
قال الماوردي في الأحكام السلطانية ص66-68: "وزارة التنفيذ حكمها أضعف وشروطها أقل؛ لأن النظر فيها مقصور على رأي الإمام وتدبيره، وهذا الوزير وسط بينه وبين الرعايا والولاة يؤدي عنه ما أمر، وينفذ عنه ما ذكر، ويمضي ما حكم، ويخبر بتقليد الولاة وتجهيز الجيوش، ويعرض عليه ما ورد من مهم وتجدد من حدث ملم؛ ليعمل فيه ما يؤمر به، فهو معين في تنفيذ الأمور، وليس بوالٍ عليها ولا متقلدًا لها، فإن شورك في الرأي كان باسم الوزارة أخص، وإن لم يشارك فيه كان باسم الواسطة والسفارة أشبه، وليس تفتقر هذه الوزارة إلى تقليد، وإنما يراعى فيها مجرد الإذن، ولا تعتبر في المؤهل لها الحرية ولا العلم؛ لأنه ليس له أن ينفرد بولاية ولا تقليد، فتعتبر فيه الحرية، ولا يجوز له أن يحكم فيعتبر فيه العلم... ويجوز أن يكون هذا الوزير من أهل الذمة، وإن لم يجز أن يكون وزير التفويض منهم". انتهى.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي