1/ الرشوة من شر ما يصيب الأمة 2/ خطورة الرشوة وآثارها 3/ صور الرشوة المختلفة 4/ النصوص في التحذير من الرشوة والوعيد عليهاي
أما بعد: فاتقوا الله أيها الناس، اتقوه وأخلصوا له الدين وأحسنوا العبادة.
أيها المسلمون: تبتلى الأمم في أيام محنتها وانتقاص أطرافها وضعف نفوس أبنائها بأمراض كثيرة، تضعف شأنها، وتقوض صفاء عيشها وطمأنينة مسيرتها وسلامة طرق الكسب فيها، وتقضي على حياتها.
إن من شر ما تصاب به الأمم في أهلها وبنيها أن تمتد أيدي فئات من عُمَّالها وأصحاب المسؤوليات فيها إلى تناول ما ليس بحق، فصاحب الحق عندهم لا ينال حقه إلا إذا قدم مالاً، وذو الظلامة فيهم لا ترفع مظلمته إلا إذا دفع رشوة.
أيها الإخوة: وفي قراءة تاريخ الأمم: لقد نعت الله قومًا من قبلكم بأنهم: (سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة:42]، إنهم أقوام طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وانطفأت جذوة الإيمان في صدورهم، وثقلت عليهم التكاليف وكرهوا الشرائع، فأحبوا الكذب، وألفوا الزور وسمعوه وسعدوا به، وكرهوا الحق، ونبذوا الصدق: (ياأَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِى الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْوهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ * وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّـاعُونَ لِقَوْمٍ ءاخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـاذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا خِزْىٌ وَلَهُمْ فِى الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ سَمَّـاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـالُونَ لِلسُّحْتِ) [المائدة: 41،42].
هذه طبيعة القلوب حين تفسد، والأرواح حين تطمس، تحب الباطل والزور: (قَالُواْ ءامَنَّا بِأَفْوهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ) [المائدة:41]، (يُحَرّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوضِعِهِ) [المائدة:41].
نعم -أيها الإخوة-، مسالك الباطل وأساليب السحت رائجة في المجتمعات المنحرفة، أما طرق الحق وأنوار الصدق فهي عندهم مظلمة معتمة.
وفي نعت آخر لهؤلاء وأمثالهم: (وَتَرَى كَثِيراً مّنْهُمْ يُسَـارِعُونَ فِى الإِثْمِ وَلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لَوْلاَ يَنْهَـاهُمُ الرَّبَّـانِيُّونَ وَلاْحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [المائدة:62،63]، مسؤولية مشتركة بين الواقع في الإثم والمقتصر في الأمر والنهي.
سور قرآنية لنفوس مريضة قد استشرى الفساد في أحشائها، وسقطت القيم من حسابها.
مسارعة بارتكاب الآثام، واجتراء في العدوان على الحقوق، وتهارش وتكالب على أنواع السحت، لقد سيطر الشر على تفكيرها، وامتلأت بالحرام أجوافها، فاستباحت حمى الله ومحارمه، ولا تسل -عافاك الله- عما ينجم من الأضرار التي لا حصر لها من أكل السحت وبذل الرشاوى؛ فالكرامة ضائعة، والحقوق مهضومة، والنبوغ مقبور، والجد مدفون، والغيرة على مصالح الأمة مضمحلة، والأمانة في خدمتها غائبة، وتقدير المخلصين متلاشٍ.
الرشوة خيانة عند جميع أهل الأرض، وهي في دين الله أعظم إثمًا وأشد مقتًا: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الراشي والمرتشي".
إنها تخفي الجرائم، وتستر القبائح، وتزيف الحقائق.
بالرشوة يفلت المجرم، ويدان البريء، بها يفسد ميزان العدل الذي قامت به السموات والأرض، وقام عليه عمران المجتمع، هي المعول الهدام للدين والفضيلة والخلق.
الرشوة -أيها الناس- تلبس عند أهلها ثيابًا مستعارة، فتأخذ صورًا متلونة، وأغراضًا متعددة، فهذه هدية، وتلك إكرامية، وهذه محاباة في بيع أو شراء، وذلك إبراء من الدين، والصور في ذلك لا تتناهى، وسبل الشياطين وأعوانهم في ذلك عريضة واسعة، في القطاع العام والقطاع الخاص، وفي المؤسسات وفي الشركات.
أما أغراضها عندهم فمتعددة: طمس لحق أو سكوت على باطل، وتقديم لمتأخر وتأخير لمتقدم، ورفع لخامل، ومنع لكفءٍ، وتغيير للشروط، وإخلال بالمواصفات، وعبث بالمناقصات، وتلاعب في المواعيد، في أغراض لا تتناهى.
أما الراشي والمرتشي والرائش فإنهم -لا بارك الله فيهم ولا لهم- متساعدون على تضييع الحقوق، ويروجون لأكل أموال الناس بالباطل، ويزرعون السيئ من الأخلاق، ومن ثم تستمرئ الأمة هذا المرعى الوبيل.
الراشي والمرتشي والرائش ملعونون عند الله على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، مطرودون من رحمة الله ممحوق كسبهم، زائلة بركتهم، خسروا دينهم وأضاعوا أمانتهم، استسلموا للمطامع، واستعبدتهم الأهواء، وأغضبوا الرب، وخانوا الإخوان، وغشوا الأمة، في نفوس خسيسة وهمم دنيئة.
كم من مظالم انتهكت، وكم من دماء ضيعت، وكم من حقوق طمست!! ما أضاعها وما طمسها إلا الراشون والمرتشون، فحسبهم الله الذي لا تنام عينه، وويل لهم مما عملت أيديهم وويل لهم مما يكسبون.
أيها الإخوة: الرشوة فخ المروءة، ومصيدة الأمانة، وغرق الديانة وحبائل الشرف.
بفشوِّ الرشوة تصاب مصالح الأمة بالشلل، وعقول النابغة بالقصم، ومواهب المفكرين بالجمود، وجهود العاملين بالفتور، وعزائم المجدين بالخور.
أي خير يرجى في قوم مقياس الكفاءة فيهم ما يتزلف به المرؤوس لرؤسائه من قرابين؟! وأي إنتاج يرتجى لأعمال لا تسير عندهم إلا بعد هدايا الراشين والمرتشين؟!
نفدت ثروات، وهدمت بيوت، وأهينت نفوس، وفرقت جماعات، وارتفع باطل، وغاب حق، وما كان ذلك إلا بسبب الرشاوى المحرمة والخصومات الفاجرة والإدلاء إلى الحكام بالباطل.
وإنك لترى في المفتونين من هؤلاء من يزعم أنه ذو شطارة ودهاء، وقد عمي عمَّا أصابه من الأرزاء وتعب النفس والقلب وإيذاء عباد الله والاستغراق في الحرام، فتراه مع أقرانه بالفسق يتنابذون، بالحسد والكيد يتعاملون، ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الخاسرون.
ولقد جاء في الخبر عنه -صلى الله عليه وسلم-: "وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب"، "والراشي والمرتشي في النار".
وقد وأخرج البخاري -رحمه الله- في صحيحه عن أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- قال: استعمل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- رجلاً من بني أسد يقال له: ابن اللتبية على صدقة، فلما قدم قال: هذا لكم وهذا أهدي لي. فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "ما بال العامل نبعثه فيأتي فيقول: هذا أهدي لي؟! فهلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى له أم لا؟! والذي نفسي بيده لا يأتي بشيء إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته؛ إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيْعَِر". ثم رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه: "ألا هل بلغت". ثلاثًا.
بلى لقد -بلّغ عليه الصلاة والسلام-، فوالله "لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن ماله؛ من أين اكتسبه؟! وفيم أنفقه؟!"، وإن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، فأنى صلاح، وهم ذوو جرأة على الله، حتى إنهم ليأخذون من الحرام الصراح، لا يتوبون ولا هم يذكرون؟!
يقول يوسف بن أسباط: "إن الرجل إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟! فإن كان مطعم سوء قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه".
قال الحافظ الذهبي -رحمه الله-: "ويؤيد ذلك ما ثبت في الصحيح من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "في الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، ومطعمه من حرام، ومشربه من حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك؟!".
لهذا قال بعض السلف: "لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تعلم ما يدخل بطنك؛ أحلال أم حرام؟!".
ألا فاتقوا الله -رحمكم الله-، وراقبوا ربكم، فرُب متخوضٍ في مال الله له النار يوم القيامة، ألا يخشى أكَـلة السحت أن يسحتهم الله بعذاب؟! وقد خاب من افترى.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْولَكُمْ بَيْنَكُم بِلْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِلإثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة:188].
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالحق، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه أنوار الحق ومصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
أيها الناس: خاطب النبي -صلى الله عليه وسلم- صاحبه كعب بن عجرة -رضي الله عنه- فقال له: "يا كعب ابن عجرة: إنه لا يدخل الجنة لحم أو دم نبت من سحت، النار أولى به. يا كعب: الناس غاديان؛ فغاد في فكاك نفسه فمعتقها، وغاد فموبقها".
وفي الخبر الآخر: "إن العبد ليقذف اللقمة الحرام في جوفه، ما يتقبل الله عمله أربعين يومًا، وأيُّما عبد نبت لحمه من سحت فالنار أولى به".
فاتقوا الله -رحمكم الله- وليتق الله هؤلاء المقصرون، فهلا أخذوا بأوامر ربهم، واستمسكوا بتوجيهات نبيهم، ففي ذلك ما يحفظ حقوقهم، ويطهر قلوبهم، ويملأ بالرضا والإيمان نفوسهم، ويمنع تقاطعهم وشحناءهم وتحاسدهم وبغضاءهم.
فطوبى لمن أكل طيبًا وعمل في سنة، طوبى لمن حَسُنَ تعامله وعفَّ في طعمته، حفظ الأمانة وصدق في الحديث، وأمِنَ الناس بوائقهُ.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي