منهج شرعي في قراءة الأحداث – غزة أنموذجاً

مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني
عناصر الخطبة
  1. بُعدنا عن إحالة الأحداث والأزمات إلى كتاب الله .
  2. ديمومة الصراع مع الصليبيين والصهاينة .
  3. معلومات أساسية قرآنية حول هذا الصراع .
  4. القرآن الكريم يكشف عن الحِكَم من المعارك مع الأعداء .
  5. لا سبيل للنصر إلا بالجهاد .
  6. مظاهر من فسادنا وبُعدنا عن أخلاق المجاهدين .

اقتباس

وتداعت الأمة بعلمائها ومفكريها وشعوبها إلى المناصرة، وانهالت التحليلات والتعليقات والمطالبات، وتعددت رؤى الناس ومواقفهم؛ والذي أمضَّني كثيرا وآلَمَني هو مُصابٌ أجلُّ، وفاجعة أدهى، وإن كانت تلك وربي فاجعة! ذلك المصاب هو ما رأيته من غيابٍ عن كتاب الله تعالى وبعدٍ عنه في تأويل الأحداث والأزَمات، فكيف تعود أمة إلى عز، وتبغي الطريق إلى القدس، وهي غافلة عن كتاب ربها؟!

 

 

 

 

أيها المسلمون، أمة الإيمان والجهاد: أفاقت الأمة -والعالم بأسره- على كارثة إنسانية همجية بربرية تترية قام بها الصهاينة في الأرض المقدسة المباركة، قتلا وقصفا وعربدة على أهل الإسلام في غزة، والمرابطين في الجهاد من أهلها، فإذا بعدسات المصورين تنقل للعالم أبشع جرائم القتل والوحشية، وأدلها على الحنق والغيظ. 

وتداعت الأمة بعلمائها ومفكريها وشعوبها إلى المناصرة، وانهالت التحليلات والتعليقات والمطالبات، وتعددت رؤى الناس ومواقفهم؛ والذي أمضَّني كثيرا وآلَمَني هو مُصابٌ أجلُّ، وفاجعة أدهى، وإن كانت تلك وربي فاجعة! ذلك المصاب هو ما رأيته من غيابٍ عن كتاب الله تعالى وبعدٍ عنه في تأويل الأحداث والأزَمات، فكيف تعود أمة إلى عز، وتبغي الطريق إلى القدس، وهي غافلة عن كتاب ربها؟.

أيها المسلمون: متى ما أراد المسلمون اغتنام الأزمات، والانتفاع بالويلات، فعليهم حيال كل أزمة ثلاثة أمور ركيزة:

أولاً: أن يبحثوا عن نبأ الأزمة في كتاب الله تعالى، وكيف يكون موقفهم منها من خلال كتاب الله سبحانه.

ثانياً: أن يربطوا بين الأزمة وأسماء الله الحسنى العظيمة، ليعلموا أن ربهم -تعالى- معهم، عدل في قضائه، حكيم في تدبيره.

ثالثا: أن يراجعوا حالهم مع أمر الله -تعالى- ونهيه وشرعه.

ومتى ما تأمل المسلم أي حدث من خلال هذه الثلاثة الأمور انتفع غاية الانتفاع بالأزمة، وخرج نقيا صفيا من المحنة، واليوم نحاول أن نقف على هذه الركائز من خلال هذا الحدث الأليم.

أيها المسلمون: أما نبأ الأزمة في كتاب الله تعالى فقد تجلى في عدة أمور:

الأول: أن قضية فلسطين والقدس بخاصة قضية دينية شرعية مقدسة، فهي أرض الأنبياء والمرسلين، ومسرى رسول الله رب العالمين.

ولا يزال صراع المسلمين مع الصليبيين والصهاينة منذ أن دخلت الفتوحات الإسلامية في عهد عمر بيت المقدس قائما على هذه الأرض، وليس أول مصابها اليوم؛ بل لقد مسها مصاب إثر مصاب من الحملات الصليبية التي اجتاحت القدس في أواخر عهد الدولة العباسية، حتى أنه بقي رهنا أسيرا في يدهم.

يقول التاريخ عن تلك الحملة البشعة: أخذ الصليبيون في قتل المصلين وأهل الإسلام في بيت المقدس، حتى بلغ عدد القتلى أزيد من ستين ألف قتيل، وجاسوا خلال الديار، وتبروا ما علوا تتبيرا؛ ولما علم الخليفة بذلك ندب الفقهاء للجهاد، ولكن لم يفد شيئا. ما أشبه الليلة يالبارحة! حتى فاضت قرائح الشعراء بالألم الأليم:
 

أَحَلَّ الكُفْرُ بالإسلامِ ضَيْمَاً *** يطولُ عليْهِ للدِّينِ النَّحِيبُ
فَحَقٌّ ضائعٌ وحِمىً مُباحٌ *** وسيفٌ قاطِعٌ ودمٌ صَبِيبُ
وكَمْ مِن مُسْلِمٍ أمسَى سَليباً *** ومُسْلِمَةٍ لها حَرَمٌ سَليبُ
وكم مِن مسجدٍ جَعَلُوهُ دَيْرَاً *** على محرابِهِ نُصِبَ الصَّليبُ
أتُسْبَى المسلماتُ بكلِّ ثَغْرٍ *** وعيشُ المسلمين إذاً يطيبُ؟
فقل لذَوِي البصائرِ حيثُ كانوا *** أجيبوا اللهَ -ويحَكُمُ- أجِيبوا

والله تعالى أخبر في سورة الإسراء -التي سميت بسورة بني إسرائيل- عن أن طغيان بني إسرائيل مرتبط بهذه الأرض، فقال: (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُم عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرَا) [الإسراء:4-8].

وقال في خاتمتها: (وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً) [الإسراء:104].

ثانياً: إن الصراع الدائر اليوم مع اليهود والصليبيين، وهم مَن ذَكَر الله شنائعهم في كتابه، وزبر فظائعهم في وحيه، فاليهود والصلييون اليوم هم أحفاد مَن لعنهم الله وغضب عليهم، وهم الذين قتلوا الأنبياء، ودنَّسوا الكتب المقدسة، وتطاولوا على الله تعالى. أفعجيبٌ منهم ما يحدث اليوم؟ كلا كلا! إلا عند من أصمَّ الله سمعه، وأعمى بصيرته وبصره، فراح يغذ السير للسلام إليهم. وأنَّى منهم السلام؟ وأنى لنا السلام؟ وأنى لهم السلام؟!.

ثم القرآن بين لنا أن دنسهم وخبثهم وعفنهم لا يطهِّر الأرضَ منه سوى الجهاد والقتال لا غير، فالله أخبر أن فسادهم في الأرض لا يطهِّره إلا عبادٌ أولو بأس شديد، لا يرحمون اليهود، ولا في قلوبهم رأفة بهم، بل غيظ حانق لا يشفيه إلا دماء اليهود.

والله قال في كتابه: (قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) [التوبة:29-30]. أَفَبَعْدَ خبر الله خبر؟.

ثالثاً: مما بينه القرآن أن الأزمة البأساء، والمحنة الضراء التي تحيط بالمؤمنين، وتنزل بهم، لها حِكمٌ ربانية؛ ومِن أجمع مواضعها ما ذكره الله -تعالى- عقب غزوة أحد لما أبتلي المؤمنون، وقتل المجاهدون، فقال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء والله لا يحب الظالمين * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الذينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْقُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ * وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:139-148].

فأول شيء أن أنكر الله تعالى على المؤمنين يوم ظنوا أن يدخلوا الجنة بدون الجهاد في سبيله، والصبر على أذى الأعداء، فقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) إن من يتصور أن يعيش مؤمنا بلا جهاد وبلا معاناة وبلا ابتلاء قد أخطأ خطأ فادحا، لقد عتب الله على المؤمنين الأولين به، وإنما هو الجهاد، وملاقاة البلاء, والصبر على تكاليف الجهاد, وعلى معاناة البلاء، وتلك سنة ماضية على الرسل وأتباعهم، ولذا: (وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ)؛ لنعلم أن من سنة الله تعالى ابتلاء الأنبياء وأتباعهم بالقتل والاضطهاد، والبلاء والمعاناة، إلا أنهم يصبرون ويثبتون، ويستغيثون ويتضرعون، ويستكينون لله الواحد القهار.

أما الحِكَم فمنها اتخاذُ الشهداء؛ لقد أصيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وابتلي بلاء شديداً، ومحص تمحيصاً قاسيا، كان من ذلك وأشده عليه وأعظمه ذهولا وتعجبا واستنكارا يوم أن قُتل بين يديه أصحابُه وأحبابه وخُلَّص قلبه وفؤاده يوم أحد، يوم قتل مصعب بن عمير ورحل ممزقا ممثلا به، بين يديه عمه حمزة بن عبد المطلب وآخرون وآخرون قتلوا بين يديه -صلى الله عليه وسلم- في ذلك اليوم بعد أن انتصروا في غزوة بدر الكبرى، فكانت الصدمة العنيفة عليهم، كيف هذا؟ وأنَّى هذا؟ ولِم هذا؟ ونحن أنصار الله تعالى، وحمَلة شريعته!.

فجاء الخطاب الرباني يبين لهم أن الأيام دُوَل، وأن ذلك لحكمة ربانية عالية، من أجَلِّها أن يتخذ الشهداء منكم. الله أكبر! الله أكبر! يتخذ الله شهداء! يتخذ الله شهداء! إي والله! إن من يتخذه الله شهيدا فالكرامة له، ومحبة الله له؛ إن الشهادة كرامة وليست ندامة، إن الشهادة رضوان لا هوان ولا خسران.

من هنا نقرأ تلك الأجساد الممزقة بصواريخ الصهاينة من أبناء المرابطين في ثغر بيت المقدس المبارك، إنهم أصفياء أصفياء، إن الله اتخذهم شهداء، ينزلهم منازل الشهداء، فطوبى لهم! ثم طوبى لهم! إن الشهداء لمختارون، يختارهم الله من بين المجاهدين, ويتخذهم لنفسه -سبحانه-، فما هي رزية إذن ولا خسارة أن يستشهد في سبيل الله من يستشهد؛ إنما هو اختيار وانتقاء, وتكريم واختصاص.

إن هؤلاء هم الذين اختصهم الله ورزقهم الشهادة؛ ليستخلصهم لنفسه -سبحانه-، ويخصهم بقربه، فأين هذا المبدأ عنا اليوم في تحليلات القنوات والجرائد والمجلات؟ ألَا شاهت وجوهٌ لا تحيا بكتاب الله -تعالى- ولا تلوي عليه في شيء! ألَا تعِسَتْ أمَّة تحارب الجهاد في قنواتها وصحفها!.

لقد أقعد الله عن هذه الشهادة يوم أُحُد المنافقين فلم يخرجوا إليها؛ لأنه -سبحانه- يكرههم ويبغضهم، فخذلهم عن أحد ولم يتخذهم شهداء.

وما أحلى نشيد وحداء أولئك الأبطال في غزة يوم يقدمون الشهيد ويحملونه على أكتافهم قائلين: "لا تبكوا على الشهيد، عند الله مولود جديد"! ولا سبيل للشهادة بلا جهاد، إن هذه الشهادة في الجهاد من أعظم نتائجها أنها تزيل الظالمين وظلمهم، إنه لا زوال للظلم والظالمين إلا بالجهادِ، والجهادُ في سبيل الله وحده لا غير لا غير، والأمة لن تحقق شهادتها على الناس إلا بالجهاد والكفاح، من أجل حي على الفلاح.

إنَّا لَنَرى عفَنَ الظلم قد استشرى في الحياة المعاصرة، وداؤه عمَّ وطَمَّ، فلا سبيل إلى تطهير الأرض منه إلا بالجهاد، وإنْ أبى المخذِّلون المنخذلون.

من الحكم -ثانيا- تمحيص المؤمنين، الله أكبر! يا قوم! يا قوم! نبأ الله تمحيص المؤمنين، إن من أجل ذلك التمحيص وأعظمه ما أخبر به الله تعالى فقال: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [التوبة:16]، إن آلام صواريخ الأعداء وقذائف الصهاينة والصليبيين تمحيص للمؤمنين، فيها تنقية لهم من الذنوب من المعاصي، فيها تكفير، فيها تطهير، إن أمتنا لأُمَّةٌ مرحومة، أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قد عُجِّل عذابها في الدنيا.

فيها تمحيص من التعلق بغير الله من طلب النصر من غير الله، فلا يطلبون نصرا من هيئة أمم بالية، ولا مجلس خوف لا أمان له، ولا أمريكا ولا روسيا ولا عربا ولا غيرهم، يطلبونه من الله ومن أهل الإيمان فحسب؛ تمحيص من الإعجاب بالنفس، تمحيص فيه ألم، فيه شدة، فيه معاناة، ولكن عقابه برد وسلام، وجنة ورضوان، وقرب من الرحمان.

كما أنه تمييز للمؤمنين من المنافقين المندسِّين في المسلمين، إننا لنرى المنافقين اليوم ونشم روائحهم التي أزكمتنا في القنوات والصحف والمجلات، ونراهم متنقلين شرقا وغربا سالمين مسالمين لا يمسهم أذى ولا ألم؛ لأنهم منافقون اتخذوا اليهود والنصارى أولياء كما اتخذهم من قبل منافقو المدينة فأنزل الله: (يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) [المائدة:51].

إن هذه المأساة تمحيص لأولئك الثلة المؤمنة التي ترابط منذ خمسين سنة أو تزيد في ثغور بيت المقدس، فاللهم ثبت أقدامهم وغظ بهم الصهاينة والصليبيين.

من الحكم -ثالثاً- محق الكافرين. إن من حكمة الله -تعالى- في ظهور الكفار أن يجعل ذلك محقا عليهم ولهم؛ فإنهم بهذا البلاء والطغيان يزيدون في رصيدهم من السيئات، ويراكمون الظلم والعربدة والطغيان؛ فتنزل عليهم وابل الدعوات واللعنات، وتسرع إليهم العقوبات. فالله أكبر! الله أكبر!.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

أما الأمر الثاني، وهو ربط الأحداث بالأسماء الحسنى، فنرجئه إلى خطبة لاحقة، ونأتي إلى الأمر الثالث وهو حالنا مع الأمر الرباني، فالأزمات فرصة لمراجعة حالنا مع الأوامر الشرعية.

لقد وجه الله -تعالى- إلى الفئة الأولى من الصحابة في أُحد قوله: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [آل عمران:120]، فجعل السلامة من الكيد والمكر والضرر هو التقوى والصبر، فأين التقوى منا اليوم؟ أين؟ ربا، رشوة، فواحش، شهوات، ظلم، اجتراء على دين الله، طعن في الجهاد، محاربة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، تشبه بالكافرين، موالاة للظالمين، سكوت عن الكفر والردة، خيانة، ضياع، عبث، تمرد، مخدرات، رقص، أغاني، وتحكيم لغير شرع الله تعالى؛ ثم نقول: أنَّى هذا؟ هول هائل، وجرائر موبقة.

أين الأمة عن الجهاد الذي فيه رفعتها وسناؤها؟ ووالله! ثم والله! وأيم الله! وتالله! لا عافية للأمة بلا جهاد، ولا سلام لها بلا جهاد؛ ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- "إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلَّط اللهُ عليكم ذُلا لن ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم".

ثم أين الصبر؟ أين الصبر على طاعة الله تعالى؟ أين الصبر على الثبات؟ أين المحافظة على الصلوات؟ أين الصبر عن المحرمات؟ أين الصبر على البلاء ونحن نسمع اليوم من يقول ويندد بالجهاد في فلسطين؛ لما يرى تهاوي البيوت على رؤوس أهلها، والأشلاء الممزقة، من أجل ذهاب الدنيا.
ثالثاً: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54].

إن نسيان الهم الديني والدعوي، والانشغال بالحياة، والاطمئنان إليها، سببٌ لزوال الأجيال ومحقها واستبدالها بقوم همهم الله ورسوله ودينه. فأين الهم الديني في قلوب المسلمين اليوم؟ إنه يجب علينا أن نعي الحقيقة، وهي: إِنْ تتولَّوا يستبدل ربي غيركم. تلفَّتْ تجد سُعارا دنيويا في كل مكان، ابتعاث من أجل الدنيا، وشغل بالمباريات والمسلسلات، ومطاردة الدنيا والاطمئنان إليها، فأنى هذا من الجهاد؟.

وبهذه الأسس الثلاثة ترجع القدس، وتحيا الأمة بكرامة، كما رجعت بها في عهد صلاح الدين الأيوبي الذي كان مرابطا في الصلوات، ملازما للدعوات، حريصا على الجهاد، كما ذكروا عنه، يأمر بتأليف الكتب عن الجهاد، لا بتأليف الكتب عن الإرهاب، يرسل الرسائل من أجل الجهاد، لا من أجل محاربة الإرهاب الديني. بمثله ترد الأمة عزها.
 

 

 

 

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي