وَكَمْ مِنْ شَخْصٍ أَضَاعَ دِيْنَهُ فِيْ سَفَرِهِ؟ واللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَحْفَظُ المُؤْمِنَ الْحَافِظَ لِحُدُوْدِ دِيْنِهِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِيْنَهُ ودنياه بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِفْظِ لَا يَشْعُرُ الْعَبْدُ بِكثير منها؛ وعَجَبٌ من أقوام يصحبون معهم الحقائب والأمتعة لتحقيق الرغبات ولا يصحبون معهم التقوى! بل هي عندهم في عداد المخلَّفين والمخلَّفات، ولا يمنحونها تأشيرة سفرٍ معهم، فينزعون رداء التقوى، ويلقون بجلباب الحياء حين يطاولون السماء، ويخرجون إلى الفضاء ..
أيها المسلمون: في تعميق لصلة العبد بربه، وتثبيت لديمومة استحضار المرء معية الله تعالى له، ها هو نبينا -صلى الله عليه وسلم- يعلمنا حين نضع أقدامنا في مراكبنا ونستوي على ظهورها مستقبلين سفراً أن نعلن في بداية انطلاق سفرنا عبوديتنا لله تعالى، ونجدد ميثاق الصلة مع ربنا -سبحانه-، وأنه رقيبنا وحفيظنا وكفيلنا، وخليفتنا في أهلنا.
وقد أعلَمَنَا بذلك بطريق التطبيق العملي المستمر كلما أراد سفراً، يخبر بذلك عنه ابنُ عمر وأبو هريرة وعبدُ الله بن سرجس وابنُ عباس والبراءُ بن عازب -رضي الله عنهم- كلهم يذكرون دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ أنه يُكَبَّرُ ثَلاَثًا: الله أكبر، الله أكبر،الله أكبر؛ ثُمَّ يَقول: "سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ، وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ في سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، وَالْخَلِيفَةُ في الأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ، وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ في الْمَالِ وَالأَهْلِ".
وما أحوجنا إلى أن نستلهم بعض دلالات هذا الدعاء في هذه الأيام! وقد كثرت فيها الأسفار وتعددت، وضعف في كثير من الناس مراقبة الله تعالى في أسفارهم، فكثرت فيها المنكرات، وظهرت المجاهرة بالسيئات؛ بل إنَّ أناساً لا يكاد يسافرون إلاَّ من أجل معاقرة المنكر، ومسافحة الفحشاء، إذ السفر لا يمثل سوى متعة شهوانية، والفرار من جحيم حر الصيف الجسماني، ليلهبوا أرواحهم بجحيم الحر الشهواني، مع ما هم فيه من جفاف الروح من الإيمان، والتّرف الماديّ الطاغي؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون، نسأل الله أن يهدي ضال المسلمين.
عباد الله: إنَّ هذا الدعاء العظيم ينطق بالأصول الكلية في الدين، ويجمع الأسس الثابتة في الإسلام، ويجسد منهج الإسلام في السفر، فلا حجر على أحدٍ أن يروّح عن نفسه، أو أن يدخل السرور على أهله وأبنائه، ولا غضاضة ولا ملامة في ذلك ما كان في القلوب مراقبة لله تعالى قائمة، وكانت التقوى وعمل البر فيها مقصودة، والرغبة في تحقيقها صادقة.
فالمباح لا يخرج عن التقوى والبر، والترويحُ لا يناقض الاستقامة والهدى، وأن المحرم من السفر والمحرم من الترويح ما أضعف الإيمان، وقاد إلى العصيان، وأوقع في الرذيلة، وأوهى الأخلاق والقيمَ النبيلة، وإن في كل جملة من جُمَلِهِ دلالات يضيق وقتنا عن استيعابها، ولكن اخترت أن أقف مع جملة واحدة منه، عظيمة الدلالة، واسعة المعنى، عميقة الأثر، تلكم الجملة هي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "اللهم أنت الصاحب في السفر"، نعَم، "اللهم أنت الصاحب في السفر"، إي وربي! "اللهم أنت الصاحب في السفر"، ما أعذبه من وصف! وما أجمله من ذكر!.
يقول المسافر هذا الدعاء مثنياً به على الله تعالى، ومتوسلاً به إليه -سبحانه-، فما أعظمه من توسل!!
من دلالات هذه الجملة النبوية العظيمة: "اللهم أنت الصاحب في السفر" استحضارُ رقابة الله تعالى لعبده في سفره، وإحاطته به، فما ينزل منزلاً إلاَّ وكان الله معه، ولا يخطو خطوة إلاَّ والله كان بها عليماً، ولا يهجس هاجس في نفسه إلا والله مطلع عليه، لا يقطعه عنه سبحانه خفضٌ ولا مرتفعٌ، ولا يمنعه منه خلوة في فلاة، ولا غياب في مغارة، كل شأنه عند ربه -سبحانه- في تمام الظهور والجلاء، إنَّ هذا المعنى لو استحضره المسافر في كل سفره، وكان حياً نيراً في نفسه، لم يطفئه بحرقة الشهوات في الخلوات وحين الظلمات، لن يجرؤ على استباحة الفجور، ولن يكون منه المجون ومعاقرة البغاء. إنَّ هذا المعنى -يا عباد الله- يحيي في قلب المسافر الخوفَ من الله تعالى، وذلك من أعظم معاصم العبد عن المعاصي واستباحتها.
ترى آيات ربك الصاحب في السفر تصحبك في سفرك عن يمينك وعن شمالك، ومن فوقك ومن تحتك، لا تغيب عنك في هبوط، ولا تفارقك في صعود، هي موطئ قدمك، ومقعد جلوسك، وملمس يدك، ومنظر نظرك أرض شاسعةٌ، وزهر ناظر، ورياضٌ أُنُف، وحدائق غُلب، ونخيل باسقاتٌ وواحاتٌ مُونقات، ورواسٍ شمّاء، وسماء صافية، وأنهار تجري بأعذب ماء، وسهول مزينة بالاخضرار، ووديان مجملة بالأشجار، فكيف يغيب عن قلبك صحبة ربك لك ونعمته عليك؟ فتعصيه ولا تخشاه، وتتجاوز حدوده في أرضه ولا حياء؟!.
إن مما أمات هذه المعاني في أسفارنا أننا أصبحنا لا نرى فيها سوى المتعة وقضاء الوطر، فنمرّ بهذه المناظر وكأن أعيننا إزاءَها دونَ نواظر، (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [الحج:46]. "فنعوذ بالله من عيونٍ شاخصة غير بصيرة، وقلوب ناظرةٍ غير خبيرة".
ومن دلالاتها استحضارُ معية القرب لا الرقابة فحسب، فالله تعالى من عبده قريب قريب، إنه -وإن بعد المسافر عن أهله، ونأى عن دياره، وشط به السفر عن أحبابه- من ربه قريب، وربه منه قريب، فكيف إذاً يجرؤ العبد المسافر على انتهاك حرمات القرب، ويغفل عن الرقيب القريب -سبحانه-؟! يا الله! أين قلوبنا؟ أقُدَّتْ من حجر؟! أين أفئدتنا؟ أباتت صُمَّاً صلاباً؟!.
ربُنا منا قريب، ونحن عن قربه غافلون، وفي معصيته واقعون؛ أما استحيينا من القرب، إن الصاحب قريب من صاحبه، وهل يليق في عرف ذوي المروءات أن ينتهك الصاحب حرمة صاحبه، ولا يتأدب معه؟ فكيف إذا كان الصاحب هو الله تعالى؟ يا الله! تعاليت وتقدَّسْتَ يا ذا الجلال والإكرام.
ومن دلالاتها الاكتفاء بالله تعالى، والتوكل عليه في الحفظ والكفاية والوقاية؛ نعم، فهو الصاحب الحق -سبحانه- غني في ذاته عن كل صاحب،لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، وهو الصاحب -سبحانه- الذي يغني عبده عن كل صاحب، يؤمِّنُه من الخوف، ويحفظه من كل بأس، ويدفع عنه الأذى، ويكشف عنه البلوى، يكفيه ما أهمه، ويسدُّ منه الخلة، ويحفظ له الضيعة، إن غاب عنه أصحابه فربُّهُ الصاحب له، لن يغيب عنه -سبحانه- طرفة عين، إن ألمَّ بالمسافر خوفٌ من مكروهٍ، أو نزل به همٌّ، أو استطال طريقاً، فربُّه -سبحانه- الصاحب له يرفع عنه الخوف، ويكشف منه الهمَّ، ويقرب له بعيد سفره.
فلْتَبْرُدْ قلوب المؤمنين بصحبة الله تعالى لهم، فهو رب العالمين، وأرحم الراحمين، ولا خوف ولا حزن، كل ذلك متى ما كان العبد بهذا المعنى قائماً، ولطاعة ربه وتقواه في سفره محققاً، وإنَّ مَن أظهر شواهد هذا المعنى، وأنَّ صحبة الله تعالى فيها الكفاية عن كل صاحب ومصاحب من الخلق.
وفيما نقرأ في حفظه -سبحانه- لإبراهيم في سفره، وإنجائه لموسى في خروجه وفراره، وكفايته لمحمد -صلى الله عليه وسلم- في هجرته، وحفظه لأمنا هاجر -عليها السلام- حين سافر بها إبراهيم وبابنها إسماعيل -وهو لا يزال رضيعها- إلى مكة، فوضعهما عند البيت، وليس بمكة يومئذ أحد، وليس بها ماء، فوضعهما هنالك، ووضع عندهما جرابا فيه تمر، وسقاء فيه ماء، ثم قفى إبراهيم راجعاً إلى الشام فتبعته أم إسماعيل فقالت يا إبراهيم، أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس به أنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مرارا، وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: ألله أمرك بهذا؟ قال: نعم. قالت إذا لا يضيعنا. ثم رجعت، واكتفت بصحبة الله تعالى ومعيته -سبحانه-، وعلمت أنَّ بها الخير والسناء، وصدقت، فلم يضيعها الله تعالى، بل جعل لها زمزماً، وجعل لها ذكراً، فما أعظم صحبة الله تعالى لعبده!.
وفي استحضار هذا المعنى إعانة للعبد في سفره على البر والتقوى الذي طلبه من الله تعالى في أول الدعاء، فقال: "الْلَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِيْ سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالْتَّقْوَى، وَمِنَ الْعَمَلِ مَا تَرْضَىَ". فكُلُّ صاحبٍ يعين صاحبه على مراده متى ما كان موافقاً لمراده، والله تعالى لا أعظم منه عونا لعبده حين يكون معه ويتخذه وكيلاً، ويرضى به كفيلاً.
ولكن حين يكون العبد لا يريد من سفره برا، ولا يطلب تحقيق تقوى، فكيف ينال مصاحبة الله تعالى له في سفر بالرعاية والحفظ والتوفيق؟ إنه يحرم كل ذلك، ويكون سفره خسرا له في ماله، وعافيته، وراحته، ودينه.
إنه يكون عرضة للهلكات، ومقصداً سهلاً قريباً لكل فاسد وناهب وشامت، ولو تحقق المسافر بهذا المعنى، فهل يكون منه جرأة على معصية الله، وغفلة عنه؟! كيف يليق أن يغفل عمَّن يكفيه ويحفظه ويحوطه؟ بل أيليق به أن يعصيه ويجحد فضله بعصيانه له؟!.
ومن دلالاتها استحضارُ محبةِ الله تعالى لعبده، ومحبة العبد لربه؛ إنَّ الصحبة فيها المحبة والمودة والود، ويا لعظمة هذا المعنى وجلاله! أن يصحب الرب -سبحانه- وهو في عليائه على عرشه عبده المسكين المقصِّر، أي ود كهذا؟! وأي محبة أجل وأعظم من هذا؟!.
إنَّ هذه المحبة من الله لعبده التي اقتضت أن يصحب هذا العبد في سفره لا تكون إلاَّ لمن تحقق بموجب المحبة من الطاعة واجتناب المعصية، ولن يجرؤ عبدٌ يريد محبة الله تعالى تظلله في سفره، وتصحبه في رحلته، على عصيان ربه تعالى، إلا أن يكون من الغافلين -عياذاً بالله تعالى-.
إنَّ قول المسافر: "اللهم أنت الصاحب في السفر"، يعلم الإنسان المؤمن أن يصحب في سفره ما يحبه الرحمن من الأقوال والأفعال، أو من الناس أو من غيرهم، فأعظم ما يجب أن يصحبه معه المؤمن في سفره التقوى؛ِ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْنَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: إِنِّي أُرِيْدُ الْسَّفَرَ فَزَوِّدْنِي، قَالَ: "زَوَّدَكَ اللهُ الْتَّقْوَى"، وَجَاءَهُ آَخَرُ فَقَالَ: إِنِّي أُرِيْدُ أَنْ أُسَافِرَ فَأَوْصِنِي، قَالَ: "عَلَيْكَ بِتَقْوَى الله" رَوَاهُمَا الْتِّرْمِذِيُّ.
وَكَمْ مِنْ شَخْصٍ أَضَاعَ دِيْنَهُ فِيْ سَفَرِهِ؟ واللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَحْفَظُ المُؤْمِنَ الْحَافِظَ لِحُدُوْدِ دِيْنِهِ، وَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا يُفْسِدُ عَلَيْهِ دِيْنَهُ ودنياه بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْحِفْظِ لَا يَشْعُرُ الْعَبْدُ بِكثير منها؛ وعَجَبٌ من أقوام يصحبون معهم الحقائب والأمتعة لتحقيق الرغبات ولا يصحبون معهم التقوى! بل هي عندهم في عداد المخلَّفين والمخلَّفات، ولا يمنحونها تأشيرة سفرٍ معهم، فينزعون رداء التقوى، ويلقون بجلباب الحياء حين يطاولون السماء، ويخرجون إلى الفضاء.
وأما الناس فلا يصحب معه عاصياً جريئاً على الله تعالى وحدوده، ولا الذين أُترِعت قلوبهم بحب الشهوات، ولا الذين خلت أفئدتهم من مراقبة رب الأرض والسموات، (وَللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً) [النساء:27].
كما لا يصحب معه صورة ولا كلبا ولا جرَسا، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تصاحب إلا مؤمنا، ولا يأكل طعامك إلا تقي"، و"لا تصحب الملائكة رفقة فيها كلب ولا جرس"، فيصحب التقيَّ المؤمنَ النقيَّ، ويصحب ذكر الله تعالى، يمرح ويفرح، ولكن في رضوان الله تعالى، ذاكراً نعمته ومنَّتَه؛ وأين هذا الأمر اليوم ممن لا يطيب له سفر حتى يصحب المعازف، ويقع في المنكرات؟ ويجود بدينه ليرضي شهوته ونزوته؟ أوصت أعرابيةٌ ابْنَاً لَهَا أَرَادَ سَفَرَاً فَكَانَ مِمَّا قَالَتْ: "وَإِيَّاكَ وَالْجُوْدَ بِدَيْنِكَ، وَالْبُخْلَ بِمَالِكَ!".
والصاحب يبث شكواه لصاحبه، وينثر أشجانه وأحزانه بين يديه، لا سيما في الأسفار، والله تعالى أجَلُّ صاحب، فبُثَّ شكواك إليه في سفرك، وانثر أشجانك بين يديه في ترحالك، وأفض إليه بكل همومك وآمالك في ظعنك، تجد ربك الذي صحبك في سفرك قريباً منك، مجيباً لدعوتك، وقد وعدك بذلك، فقال نبيه -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: "ثَلاَثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ".
بعد هذه الدلالات المقتضبة من جملة واحدة من هذا الدعاء العظيم تبيَّنَ لنا أهمية ارتباط السفر برقابة الله تعالى، ودينه، وعلو مكانته، ينقل السفر من العادة المعتادة إلى العبادة والطاعة المثابة، فليس غاية السفر في الإسلام السعي للأنس والراحة أو إذهاب الكلال والسآمة، بل غايته فوق ذلك درجات، وأسمى من ذلك معارج.
فهو -أعني السفر- في الإسلام روضة للعقول، يصلها بربها المأمول، ويوقفها على حقائق دينها الثابتة، ويشهدها آيات الله تعالى الناطقة بصدق الحق الذي بين يديها في هذا الفضاء الرحب، وذلك -وربِّي!- أعظم روضات العقول، وأزكى نظراتها، لا كما يزعم بعض المقطوعين عن الله تعالى، المتنكبين عن شرعه، والغافلين عن ذكره، إذ يقف عندهم النظر في السفر، وينتهي عند تأملات رومانسية، وتخيلات ذهنية، وتصورات أدبية، لا تصلهم بالخالق، وإنما تحبسهم في نطاق المخلوق الضعيف.
كما أنه كذلك تزكية للنفوس، حيث يعظها ويذكرها، من خلال العبر والذكرى المطروحة في أرض الله الشاسعة، المنثورة في هذه الأرجاء الواسعة، (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) [العنكبوت:20]، الناطقة بعظمة الخالق البارئ -سبحانه-، فتخشعُ له النفوس حينئذ لما ترى من بديع خلقِه طبيعة خلاّبة, وتَسبحُ الروح في فضائه مع المناظر الأخّاذة الجذّابة، فتُسبِّحُه تسبيحاً.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي