إنه درس حي للمنبهرين بالدنيا وزخرفها، فلم يرسِل (النبي) إلى الروم والفرس: هلمَّ ما عندكم من الحضارة! هل نبعث لكم البعثات لتعلمونا كيف نبني قصوراً كقصوركم، ونتمتع بالحياة مثلكم؟ كلا! ووعى هذا الدرسَ مِن بعده أصحابُه -رضي الله عنهم- فلم تبهرهم كنوز كسرى وقيصر، ولم تحنِ قلوبهم لزخرفها، بل وطئوها بأقدامهم، وشققوا نمارقها برماحهم ..
الحمد لله الذي لبس العز وقال به، يرفع من يشاء من خلقه ويذل من يشاء، وهو القوي العزيز، بيده الملك وهو على كل شيء قدير؛ أشهد أن لا إله إلا هو الواحد الأحد، الحق المبين، والصلاة والسلام على الرسول الأمين، نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن سار على هداه إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله معاشر المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها المسلمون: إنَّ أخطر ما يصيب المرء، وأنكى الجراح، والرزء العظيم، والداء الوبيل، ما يصل إلى قناعته وشعوره النفسي، حين يبلغ به الحال إلى الإعجاب بالغير، والانكسار نحوه، والذل له، والانبهار بما هو عليه، وذلك مؤذنٌ بالتبعية والتقليد.
وإنَّ ذلك المصاب نراه يستشري في الأنفس، وتستعلن مظاهره في مجتمعنا، فقد أصيبت به الأنفس المسلمة، فأعجبت بالغرب الصليبي المحاد لله ورسوله، وأصابها الانبهار به، والانكسار له، وأصيبت بصدمات نفسية عنيفة أفقدتها توازنها، وغُطٍّي وجهها بالخجل والخشوع، وشخصت أبصارها ذهولا وذلّا؛ لأنها رأت سبقه المادي، وتقدمه التقني، وتمكنه العلمي، ونظمه المستحدثة، وسيطرته السياسية على قرار العالم، وعندئذٍ انكسرت عزةُ النفوس، وتحطمت من شدة الوهن، وتهشمت القوة النفسية الداخلية عند كثير من أهل الإسلام.
وهذا الموضوع -والله- ليس أمراً جانبياً في الحياة، أو هامشياً عن الشأن الخاص بالمسلم، كلا! بل هو موضوع يمس كل مسلم في صميم ذاته، في عمق نفسه.
أيها المسلمون: إنَّ حالة الانبهار بالغرب، والتبعيةِ له، باتت اليوم مسيطرة على المجتمعات الإسلامية، في مثقفيها وعامتها، وشبابها وفتياتها، إلاَّ من رحم الله تعالى وعصم، ومظاهر ذلك وشواهده كثيرة، ولكنَّنا نقتصر على أظهرها.
أولاً: من تلك المظاهر الناطقة بالانبهار بالغرب هوسُ الابتعاث إلى الغرب إلى درجة الغلو والمغالاة، حيث بات هماً وشغلاً شاغلاً على كافة المستويات وطبقات المجتمع، يتنافسون ويتسابقون ويتفاخرون بالسفر إلى الغرب،حتى إنَّ الواحد منهم ليشعر حين يذهب إلى هناك أنه قد ذهب إلى فردوسٍ لا مثيل له، وأنه تقلد وساماً لا نظير له؛ وهل بعد هذا من انهزام؟ وماذا وراءه من ذل وانكسار؟.
ونُسيت في طيات هذا الهوس أحكامٌ شرعية عقدية، ولم تعد ذات بالٍ عند كثير من الناس؛ لأن الواقع تجاوزها كما يزعمون.
ثانياً: من مظاهر الشعور بالانبهار بالغرب الكافر كثرة مظاهر التشبه والتعلق بمنتجاته الفكرية، فلا تخطئ عينَك مظاهرُ القصات المقززة، واللباس السخيف، والشغفُ بلغته، والولعُ بأفكاره ونظمه، من جميع الفئات والطبقات، حتى بتنا نرى في شبابنا ما ينبو عن الفطرة، ويجفو عن المروءة، ونسمع مقالات تستشري في فئام من الكتبة تقشعر لها الأبدان.
ثالثاً: ومن المظاهر كذلك كثرة ذكر الغرب بالمدح والثناء عليه، لما يملك من صناعة وتقدم مادي، بل وجعل حاله مقياساً لحال الأمة، ونموذجاً يحتذى في الاجتماع والاقتصاد والسياسة وغير ذلك من العلوم؛ ووُصم المسلمون بالتخلف عنه لذلك، دون الرجوع إلى الميزان الحق، والشريعة العادلة الحاكمة، فهذه مظاهر إجمالية في واقعنا تشهد بالهزيمة النفسية أمام الغرب الصليبي.
أيها المسلمون: إنَّ هذه الهزيمة النفسية، وهذا الانبهار بالغرب الصليبي، أتى من الشعور بأنه يملك ما لا نملك، وأنه بلغ ما لم نبلغ، وأنه قهر واستذل، وأنى لنا أن نلحق بركابه ونبلغ شأوه إلا إذا توجهنا بركابنا نحوه؟! ويمـــــَّمْنا وجوهنا قِبَله؟! وجثينا بركبنا عنده في جامعاته؟! ويا للعجب!.
إنّ هذا الشعور بالخزي والذل أتى -كذلك- من التصور القاصر لحقيقة العزة والرفعة، فحين ظنَّ بعض الناس أن العزة في التقنية والهندسة والطيران، والقنابل والصواريخ فحسْب، أصيبوا بذلك الانهزام وذلك الانكسار، فحين يتم بناء معادلة العزة على القوة الدنيوية تأتي الانهزامية، كما أتى هذا الإعجاب بسبب النظرة الدنيوية التي استحكمت على الناس اليوم غاية الاستحكام، فلا يقيسون إلا بها، ولا ينظرون لأنفسهم ولا لغيرهم إلا من خلالها، فكان هذا الإعجاب بالغرب.
ومن قبل أعجب قوم قارون بما هو عليه فقالوا: (يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [القصص:79]، ولكنَّ أهل الإيمان والعلم بالله قالوا: (وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ) [القصص:80].
أيها المسلمون: إنَّ الحقيقة التي نطق بها القرآن والسنة لتقولُ غيرَ هذا، إنَّ الحقيقة تقول إنَّ أهل الإسلام لَأَعَزُّ منهم وأكرم، من كل وجهٍ، بل لا مقاربة بيننا، أي والله! لا مقاربة، ولا مقارنة.
وإليك أخي المسلم ما ميزك الله -تعالى- به، وأعلى به قدرك فوق الشرق والغرب الكافر أياً كان:
إننا نملك والله ما لا يملكون، فإن كان يملك شهاداتِ التقنيات والهندسات واللغات فإنا نملك أعظم من تلك الشهادات كلها، إننا نملك هذه الشهادة العظيمة: "شهادة أن لا إله إلا الله"، فوربِّي! إنَّك -أخي المسلم- حين تخرج من فمك هذه الكلمة بكل حقيقتها لَخَيْرٌ من الدنيا كلها، وإنها لتطيش بالغرب كله، بنظمه وتقنياته وسياساته ودهائه، وكلِّ ما يملك مما بهر الأبصار، وانحنت له به الأمصار؛ ولكنا أضعنا ما نملك، وفرطنا فيه، واتخذناه وراءنا ظهريا؛ والله -تعالى- قال لموسى في شأن هذه الكلمة: "يا موسى، لو أن السمواتِ السبعِ وعامرِهن غيري، والأرضين السبع، في كفة، ولا إله إلا الله في كفة، مالت بهن لا إله إلا الله" رواه ابن حبان والحاكم وصححه.
إننا نملك ما لا يملكون، فإن كان يملك كتباً من صنع البشر ضلالها أكثر من هداها، وغثاؤها أكبر من نفعها، فأنى له أن يملك ما نملك؟ إذ نحن بين أيدينا كتاب ربنا الصافي النقي، الغض الطري، فيه كلام الله تعالى الحق الصدق العدل. أنى لهم والله؟! أنى لهم ْوالله؟! أنى لهم والله؟!.
إننا ورَثة كتاب الله تعالى، فماذا يرثون إلا الكفر والشرك؟ إن قراءة آيةٍ واحدة وتعلمها في هذا المسجد أو أي مكان خير وأعز وأكرم من آلاف من الهراء الذي يقوله البشر ويتجادلون فيه، والله تعالى قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [يونس:57-58].
إننا نملك ما لا يملكون، فإن كان يملك جامعات شاهقة ممتدة في الزمن يذكر فيها الشرك والكفر والإلحاد والباطل، ولا يكاد يذكر فيها اسم الله -تعالى-، فإنا نملك بيوت الله -تعالى-، هذه المساجد، وما أدراك ما هذه المساجد؟ أقدم من كل جامعة، تصلك بالسماء، يذكر فيها التوحيد والحق المبين.
إننا نملك ما لا يملكون، إن كان يملك علماء في الطبيعة والتقنية فإنا نملك أنبياء تنزل عليهم وحي السماء، ولدينا ورثة الأنبياء، علماء الملة والدين؛ وأنى يبلغ عالم مشرك ملحد مبلغ عالم بالله وبأمر الله؟ فضلاً أن يقارَن بنبيٍّ مُكَلَّمٍ مُرسَل!.
إننا نملك ما لا يملكون، إن كان يملك نظماً وقوانين من صنع البشر قائمة على الشرك والكفر وانتهاك حرمات الله تعالى، والعبودية للشيطان والهوى والأهواء أوجبت لهم سخط الله تعالى ومقته، فإنا نملك ديناً هو صبغة الله تعالى، ومَن أحسَنُ من الله صبغة وديناً؟ هُو دينُ اللهِ تعالى، رَضِيَهُ الله لنا، ومَن أحسَنُ مِن الله تعالى حكماً وديناً؟ إننا نملك التوحيد الذي بُعثت به الرسل، وهو أظهر الحقائق، وأبْيَنُ المعارف، وقد ضل عنه الغرب فعرف دقائق الدنيا، وما عرف أضخم الحقائق.
إننا نملك الشريعة الربانية، والعبودية لله تعالى، التي توجب رضوان الله تعالى، وهدايته، " (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) [الحج:78].
إنه -باختصار وجيز- يملك الدنيا الفانية، ومتاعها الزائل، التي ملكها قبله فرعون وقارون وقومُ هود
وقوم ثمود والأحزاب من بعدهم، ونحن نملك الآخرة الباقية، ونعيمها العظيم، والملك الكبير، بإذن الله الجليل، التي جعلها الله تعالى لأصفيائه، (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ) [ص:45-47].
أرأيتم -عباد الله- المسلمين ماذا تملكون؟ إنه لا سبيل للغرب الصليبي إليه أبداً إلا حين يدخل في الإسلام، ولكننا فرطنا فيما نملك، وأضعنا نعمة ربنا علينا، وأصبنا بالاستهانة بما نحن عليه من الهدى الرباني، والفضل الإلهي؛ إن علينا أن نعيد في أنفسنا عزة المؤمن، واستعلاء الإيمان، فنطرد الهزيمة النفسية، ونتعالى على الانبهار بالكافر، وإن كنا نستفيد منه، وننتفع بما ينفع منه.
أيها المسلمون: إنَّ من أعظم ما يقوِّي النفس أمام طغيان الدنيا وزخرفها، ويحميها من الانكسار للكافرين الذين يملكونها، أن نعي عن الله -تعالى- أنَّ العزة والعلوَّ إنما هو لله -تعالى- ولرسوله وللمؤمنين، (ولله العزة) [المنافقون:8].
بل حتى لو هزمنا عسكرياً، وانكسرنا سياسيا، وكان أكثر منا اقتصادا، فإن العزة هي لنا، والعلو لنا، مهما كان الأمر، ما كان هناك إيمان؛ لذا فإن الله تعالى بعد هزيمة المؤمنين في أحد قال لهم مثبتاً هذا المعنى في أنفسهم: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].
كما علينا أن ندرك حقيقة الدنيا وزخرفها، تلك الدنيا التي خلبت الأبصار، وبهرت البصائر، وأذلت الرقاب، وقلبت الموازين؛ فإن ذلك يصنع في الأنفس مناعة صلبة، ويخلق جداراً صلداً في النفس تجاه الانبهار بالكافر والانكسار له؛ ولذا فإن الله تعالى بيَّن ذلك حتى لا يغتر أهل الإيمان: (لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَار) [آل عمران:196-198].
وعن عبد الله قال اضطجع النبي على حصير، فأثر الحصير بجلده، فجعلتُ أمسحه عنه، وأقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ألا أذنتنا فنبسط لك شيئاً يقيك منه تنام عليه؟! فقال: "ما لي ولَلْدنيا؟! وما أنا والدنيا؟! إنما أنا والدنيا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".
وعلينا أن ندرك رسالتنا وتميُّزَنا بين الأمم، إننا -أهلَ الإسلام- أُمَّةُ الوَسَطِ، شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ، رسالتنا أسمى من أن تكون تطويع الدنيا وإحضارها بين يدي الإنسان يكرع منها ولا يشبع، إنها رسالة ربانية، وقد طبق النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا المبدأ، فإنه كان حوله -صلى الله عليه وسلم- أمم الفرس والروم والأقباط، يملكون الزينة والقصور والنمارق وعجيب الزخارف، وهو -صلى الله عليه وسلم- لا يملك إلا حصيراً يجلس عليه، وحجرة ضيقة يلمس سقفها باليد.
عن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه و سلم- وهو على سرير مضطجع، مرمل بشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، فدخل عليه نفر من أصحابه، ودخل عمر، فانحرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- انحرافة فلم ير عمر بين جنبه وبين الشريط ثوبا، وقد أثر الشريط بجنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فبكى عمر، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- ما يُبكيك يا عمر؟ قال: والله إلا أن أكون أعلم أنك أكرم على الله -عز وجل- من كسرى وقيصر وهما يعبثان في الدنيا فيما يعبثان فيه، وأنت -يا رسول الله- بالمكان الذي أرى؟! فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟" قال عمر: بلى! قال: "فإنه كذاك. ألا ترضى يا عمر أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟!".
إنه درس حي للمنبهرين بالدنيا وزخرفها، فلم يرسل إلى الروم والفرس: هلمَّ ما عندكم من الحضارة! هل نبعث لكم البعثات لتعلمونا كيف نبني قصوراً كقصوركم، ونتمتع بالحياة مثلكم؟ كلا! ووعى هذا الدرسَ مِن بعده أصحابُه -رضي الله عنهم- فلم تبهرهم كنوز كسرى وقيصر، ولم تحنِ قلوبهم لزخرفها، بل وطئوها بأقدامهم، وشققوا نمارقها برماحهم.
يذكر التاريخ فيما يذكر أنَّ رستم الكسروي الفارسي إلى سعد بن أبي وقاص يطلب رجلاً من المسلمين يحدثه، فبعث إليه سعد رجلين كان أحدهما ربعي بن عامر، فدخل ربعي على رستم وقد زينوا مجلسه بالنمارق المذهبة [النمارق: الوسائد]، والزرابي [البُسُط الحسان الجميلة]، والحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة، والزينة العظيمة، وعليه تاجه، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على سرير من ذهب، إنها فتنة، وأي فتنة؟! ذهب وحرير وزينة ونمارق!.
ويدخل ربعي -رضي الله عنه- بثياب صفيقة قديمة، وسيف وترس وفرس قصيرة، ولم يزل راكبَها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبَيْضته على رأسه؛ فقالوا له: ضع سلاحك. فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا، وإلا رجعت.
فقال رستم: إئذنوا له، فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيقِ الدنيا إلى سَعَتِها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبِل ذلك قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبدا حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة لمن مات على قتال من أبَى، والظفر لمن بقي.
وهكذا لم تتجاوز الدنيا في نظرهم مواطئ أقدامهم، فَعَزُّوا.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي