ومن الكذب على الله وعلى رسوله الكذب على العلماء بالنظر، لأنهم المؤتمنون على شرع الله، المبينون لمراد الله من كلامه، ولمراد رسوله، كذلك كمن يقول عنهم أو عن أحدهم، قال العالم الفلاني كذا، أو أفتى العالم الفلاني بكذا، ولا برهان لديه في ذلك سواء، قال ذلك من أجل الحكم نفسه، أو من أجل تنقص العالم به، والكل شر ولا خير أشر ..
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى كل من تبعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلّم تسليماً كثيراً، ربنا أدخلنا مدخل صدق، وأخرجنا مخرج صدق، واجعل لنا من لدنك سلطاناً نصيراً.
أما بعد: أيها الأخوة المؤمنون: هناكم خصلة نكراء، وكبيرة عظمى ذات شر ومدعاة للشر، متوعد فاعلوها بالعار والنار وبئس القرار، متوعد فاعلوها بالطرد والإبعاد من مظان الرحمة ومواقعها، حتى في أحلك ظروفهم وشدة حاجتهم إلى اللطف الذي وعد به تعالى خاصة عباده في قوله سبحانه: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) [الشورى:19] ألا وهو الكذب.
قال تعالى في المبتهلين: (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران:61] وقال عن المتلاعنين: (أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ) [النور:7] وقال: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذريات:10] أي الكاذبون، وقال: (إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) [غافر:28]
وقال عليه الصلاة والسلام: "وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذاباً" رواه الشيخان وقال: "آية المنافق ثلاثة، وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب" الحديث. رواه مسلم.
والكذب: الإخبار بالشيء على خلاف ما هو عليه، وأشر الكذب وأخطره وكله شر وخطر: الكذب على الله أو على رسوله، قال تعالى: (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ) [الزمر:60] وقال: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ) [الزمر:32] أي: لا أحد أظلم، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن كذباً عليّ ليس ككذب على غيري، من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار" رواه مسلم وغيره.
وقال: "من حدث عني بحديث يعلم أنه كذب فهو أحد الكاذبين" ومن الكذب على الله أو على رسوله: القول على الله أو على رسوله بلا علم كمن يقول: هذا الأمر حرام أو هذا الأمر حلال، وهذا الأمر مشروع وهذا الأمر ممنوع، وهذا الأمر سنة وهذا الأمر بدعة، ولا دليل لديه على ذلك من الله ولا من رسوله، قال سبحانه: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36] وقال: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) [الأعراف:33]
ومن الكذب على الله وعلى رسوله الكذب على العلماء بالنظر، لأنهم المؤتمنون على شرع الله، المبينون لمراد الله من كلامه، ولمراد رسوله، كذلك كمن يقول عنهم أو عن أحدهم، قال العالم الفلاني كذا، أو أفتى العالم الفلاني بكذا، ولا برهان لديه في ذلك سواء، قال ذلك من أجل الحكم نفسه، أو من أجل تنقص العالم به، والكل شر ولا خير أشر.
ومن الكذب الأشد قبحاً والأعظم إثماً: الكذب المتوصل به إلى ارتكاب محرم، أو تخلص من واجب، قال عليه الصلاة والسلام: "من اقتطع مال امرئ مسلم بيمينه لقي الله وهو عليه غضبان" رواه مسلم. ومن الكذب الأشد قبحاً والأعظم إثماً: الكذب ممن لم يضطر أو يحوج للكذب، قال عليه الصلاة والسلام: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر" رواه مسلم.
ومن الكذب الأشد قبحاً والأعظم إثماً: الكذب في الرؤيا بالنظر، لأن رؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة، قال عليه الصلاة والسلام: "من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل" رواه البخاري. وقال: "أفرى الفرى أن يرى الرجل عينيه ما لم ترياه" رواه البخاري.
ومن الكذب الأشد قبحاً والأعظم إثماً: الكذب لإضحاك القوم، قال عليه الصلاة والسلام: "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له، ثم ويل له" قال ابن حجر في البلوغ: "رواه الثلاثة وإسناده قوي". ومما يوقع في الكذب أن يحدث المسلم بكل ما يسمع. قال عليه الصلاة والسلام: "كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" رواه مسلم.
فاتّقوا الله -عباد الله-، واحذروا ما حذركم الله منه مما هو شر ومدعاة لأنواع الشر، احذروا أن تعرضوا أنفسكم بالكذب للعنة الله وغضبه وعقابه وتفوتوا عليها به ما تتمناه من رحمة الله ورضاه وثوابه وذلك بمجانبة الكذب المحرم بأنواعه والتزام الصدق بأنواعه، الصدق في الاعتقاد، الصدق في الأقوال، الصدق في الأفعال تفوزوا، وتسعدوا بما وعد الله به أهل الصدق في مثل قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71] وقوله: (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ* لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ* لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ* أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) [الزمر:33-36]
يكثر بعض الناس الكذب الصريح بدون حاجة له وبدون تورية أو تأول عند الحاجة بدعوى الترخيص فيه لمصلحة ولا ترخيص فيه لما سمعتم من النصوص بغيرها إلا ما استثناه منها -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً أو يقول خيراً" متفق عليه.
وفي رواية مسلم والنسائي ولم أسمعه -تقوله رواية الحديث- يرخص في شيء مما يقول الناس أنه كذب إلا في ثلاث، وجاءت الثلاث مفسرة بحديث الترمذي وغيره: "لا يحل الكذب إلا في ثلاث: تحدث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب وفي الإصلاح بين الناس" وفي الحرب قول محمد بن مسلمة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما قال: "من لكعب بن الأشرف فإنه آذى الله ورسوله": ائذن لي أن أقول. وقصة الحجاج بن علاط في استئذانه النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يقول عنه ما شاء". فتح الباري جـ6 ص159.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي