وأكثر الناس فيها بلاء الأنبياء ثم الصالحون، الأمثل فالأمثل يبتلى الإنسان على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وليس ذلكم للمؤمن تعذيب أو دليل بغض فحاشاً حكمة الله وعدله، ولكنه ابتلاء واختبار يصقل قلب المؤمن، ويمحص نفسه ويعده إعداداً كاملاً لمواجهة الخطوب بصبر وثبات واحتساب، ليعظم بذلك أجره، ويضاعف ثوابه، ويطيب ويخلد ذكره ..
الحمد لله على قضائه وبلائه ونعمائه، أحمده تعالى لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأتوكل على الحي الذي لا يموت وأسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ بلغ رسالة ربه خير بلاغ، وقام بها خير قيام، إلى أن وافاه ما كتب عليه بقوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر:30-31] صلوات الله وسلامه عليه، وعلى كل من ثبت على ما كان عليه نبيه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيا عباد الله: لقد خلق الله الدنيا مليئة بالرزايا والبلايا، وخلق فيها الإنسان، وجعله معرضاً لأنواع الآلام والأحزان، فما من أحد إلا ويبتلى فيها بخير أو بشر، أو بهما معاً (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء:35] (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك:2]
وأكثر الناس فيها بلاء الأنبياء ثم الصالحون، الأمثل فالأمثل يبتلى الإنسان على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وليس ذلكم للمؤمن تعذيب أو دليل بغض فحاشاً حكمة الله وعدله، ولكنه ابتلاء واختبار يصقل قلب المؤمن، ويمحص نفسه ويعده إعداداً كاملاً لمواجهة الخطوب بصبر وثبات واحتساب، ليعظم بذلك أجره، ويضاعف ثوابه، ويطيب ويخلد ذكره (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا) [السجدة:24] وليميز تعالى بالابتلاء الآخذين لدين الله بقوة وصدق، ويمحق به الكافرين ويفضح به المدّعين.
والابتلاء في الدنيا ألوان وأشكال، وأهمها الابتلاء بالتكاليف الشرعية التي جاء بها الإسلام من أمر ونهي وتصديق، وغير ذلكم، والابتلاء بالدنيا وما فيها من فتن المناصب والشهوات والشبهات، والابتلاء بانتفاش الباطل في بعض الأحيان، وتسلط الأعداء، وقلة النصير، والابتلاء بشيء من الخوف والجوع، ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، وما إلى ذلكم مما يبتلى به العباد في الدنيا.
وإن أعظم وأقوى ما يتدرع به المؤمن لمجابهة ما قد يبتلى به في هذه الدنيا الصاخبة، هو الصبر الجميل الذي وجه تعالى العباد إليه وأمرهم به، يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [البقرة:153] (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]
أيها المسلمون: هذا نداء ربكم، نداء الحق ووعد ذي الصدق الذي لا يخلف الميعاد، نداء ووعد للمؤمنين حقاً ولا سيما المصطفين منهم؛ لمتابعة تطبيق رسالة الله في أرضه ببصيرة واحتساب، نداء لهم بأن يصبروا على طاعة الله لا يصدهم عنها صاد مهما كانت الأحوال، أو ضاقت الأمور، أو وجدت مصالح الدنيا (رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ) [النور:37]
وأن يصبروا عن محارم الله؛ فيقصرون النفس الأمارة بالسوء، ويحبسونها عن متابعة الأهواء والميل للشهوات المحرمة، وأن يصبروا على أقدار الله المؤلمة، فإذا ادلهم عليهم أمر، أو اشتد بهم خطب، أو نزلت بهم نازلة في نفس أو مال أو غير ذلك؛ صبروا محتسبين قائلين ما يقول الصابرون: "إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها".
والصبر النافع ما كان عند الصدمة الأولى مر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: "اتقي الله واصبري" فقالت: "إليك عني؛ فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فلما علمت أنه رسول الله جاءت إليه تعتذر فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى".
فاتّقوا الله، عباد الله: وأطيعوا الله فيما أمركم به من لزوم الصبر عند البلاء بأي نوع من أنواعه خيراً أو شراً؛ فإن الخير قد طغى، والشر قد يضعف، اتّقوا الله، واصبروا صبر محتسب بصبره يبتغي به وجه الله والدار الآخرة.
ولست بغالب الشهوات حتى *** تعد لهن صبراً واحتساباً
فكل مصيبة عظمت وجلت *** تخف إذا رجوت لها ثواباً
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي