ابن تيمية والتعريف به

هشام عبد القادر آل عقدة
عناصر الخطبة
  1. افتراءات الطريقة العزمية على شيخ الإسلام ابن تيمية .
  2. الاعتقادات الضالة للطريقة في الرسول صلى الله عليه وسلم .
  3. حال المجتمع في عصر ابن تيمية .
  4. تنشئته بين العلم والعلماء .
  5. إحياؤه الاجتهاد والرجوع إلى النصوص وتحكيم الأدلة .
  6. نقده لمناهج الفلاسفة وأهل البدع .
  7. مواجهته مع التتار وكتابهم الياسق .
  8. شيخ الإسلام عنصر فعال في عصرنا الحاضر بفتاواه وكتبه .
  9. صبره على الدعوة وتحمله للأذى .
  10. سجنه ووفاته بالقلعة .

اقتباس

نشأ ابن تيمية في تصون تام وعفاف، وتنسُّك وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، وكان هو في مقتبل شبابه قد أخذ في تفسير الكتاب العزيز في مجامع الناس على كرسي من حفظه، وكان إذا تكلم كأن العلوم كلها بين يديه ..

 

 

 

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون:

نتحدث اليوم بمشيئة الله تعالى عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله الذي- لم يسلم من افتراءات الطريقة العزمية الصوفية في الفترة الأخيرة، وذلك لشدته على أهل البدع أهل الشركيات والموالد والخرافات.

والعزمية يفعلون كل ذلك ويدعون غير الله دعاءً صريحًا، وليس من شرك أعظم من دعاء غير الله -عز وجل-، ومن لم يصدق فليستمع إلى هذه الأبيات التي يدعو فيها أحدهم رسول الله –صلى الله عليه وسلم- من دون الله، يدعوه أن يقضي حاجته ويفرج كربته ويجيب دعاءه.

يقول محمد ماضي أبو العزايم شيخهم ومجددهم -كما يقولون- في كتابه: "بشائر الأخيار في مولد المختار":

إليك رسـول الله أرفع حـاجتي *** وأنت رسول الله ذخري ونجدتي
وأشكو إليك اليوم يا سيد الورى *** ففرِّج رسول الله ضيقي وكربتي
وأنجد رسول الله وارحـم وإنني *** وحـقك يـا طه عليك حمايتي
وحاشا رسول الله أرجـوك داعيًا *** وأُتـرَك يا طـه بغـير إجـابتي
فأدرك رسول الله مَنْ أمَّ بابكم *** وأوفـى بذل وانكسار وغربةِ
توجهت يا طه إلـيك وإنـني *** علـى ثقة من أن تخلص مهجتي
وها هو أمري قد رفعـت وإنني *** تحققت يا مولاي إنـجاز دعوتي

لا أدري أين كان أبو العزايم وهو يكتب هذا الهراء؟! أين كان من قول الحق -تبارك وتعالى-: (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ) [النمل:62]؟! أين كان من قوله تعالى لرسوله –صلى الله عليه وسلم-: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) [الجـن: 21، 22]؟! هذا وهو حي، فكيف بعد أن مات.

والذي يجادل في أنه –صلى الله عليه وسلم- قد مات مكذب لصريح قوله تعالى: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) [الزمر:30]، وقال أبو بكر رضي الله عنه: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات.

أين كان أبو العزايم عن قوله تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60]، (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأعراف: 194]، (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ) [يونس:106]، (قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا) [الجـن:20]؟! وأين كان من قوله –صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما-: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"؟!

ولاشك أن أبا العزايم وهو يكتب تلك الأبيات الشركية كان في طريق وكان الكتاب والسنة في طريق، وكان هو في طريق وكان التوحيد في الطريق الآخر، وابن تيمية من أعلام الموحدين، وابن تيمية مع الكتاب والسنة، وابن تيمية من المحاربين للشرك والبدع؛ لذا كان من أعداء العزمية وغيرها من الطرق الصوفية، فالعيب ليس في ابن تيمية، وإنما هو في أولئك العزمية، أما ابن تيمية فهو عالم فحل لا تتطاول إليه أقزام هذا العصر من أولئك المبتدعة.

ابن تيمية -رحمه الله- حفظ القرآن وقرأ الفقه وناظر واستدل وهو دون البلوغ، وقد قدر الله -عز وجل- وجوده في وقت مليء بالفتن؛ حيث كانت الاختلافات العقائدية على أشدها، وابتعد الكثيرون عن منهج السلف الصالح، وكان للشام التي قدمها ابن تيمية -وهو ابن ست سنوات- قسط كبير من ذلك، وكانت تعج بأنماط من المنحرفين، متفلسفة وصوفية وأشعرية ودروز ونصيرية وشيعة وغير ذلك، كما كانت الخلافات المذهبية في الفقه على أشدها، حتى إن أصحاب المذهب لا يصلُّون وراء أصحاب المذهب الآخر، وأصبح التقليد والتعصب أمرًا مقدسًا، وبات الاجتهاد والبحث عن الدليل شيئًا مهملاً بل مجرَّمًا.

وبالإضافة إلى ذلك لم يخل المجتمع من فساد الأخلاق والفقر بعدما اقتحم التتار البلاد، وذبحوا المسلمين ذبحًا، والناس في صمت وجبن وهلع، في هذا الجو المكفهر كان يحيا ابن تيمية -رحمه الله- وذلك في القرن السابع الهجري، وكان عليه أن يقوم بدور المسلم المعتز بالله -عز وجل-. وكان الله -عز وجل- قد أهَّله لذلك بما حباه من مواهب وطاقات عظيمة منذ الصغر، حتى إنه قد أحكم مختلف العلوم الشرعية وهو ابن بضع عشرة سنة، حيث كان قد أقبل على الفقه وأحكم أصوله، وأقبل على التفسير حتى حاز فيه قصب السبق، وأقبل على الحديث حتى انتهى من سماع مسند أحمد والكتب الستة: البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبي داود وابن ماجه، وتعلم الخط والحساب والعربية والنحو وغير ذلك من العلوم، وكان شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ، فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه، وحضور ذهنه، وقوة حافظته، وسرعة إدراكه، بل قد ذاع صيته خارج دمشق.

وقد حضر أحد علماء حلب إلى دمشق وقال: سمعت في البلاد بصبي يقال له: أحمد ابن تيمية، وأنه سريع الحفظ، وقد جئت قاصدًا لعلي أراه. فقال له خياط: هذه طريق كُتَّابه، وهو الآن ما جاء، اقعد عندنا، الساعة يجيء يعبر علينا ذاهبًا إلى الكُتَّاب، فجلس الشيخ الحلبي قليلاً، فمرَّ صبيان، فقال الخياط للحلبي: ذاك الصبي الذي معه اللوح الكبير هو أحمد ابن تيمية، فناداه الشيخ، فجاء إليه، فتناول الشيخ اللوح، فنظر فيه ثم قال: يا ولدي: امسح هذا حتى أملي عليك شيئًا تكتب، ففعل، فأملى عليه من متون الأحاديث أحد عشر أو ثلاثة عشر حديثًا، وقال له: اقرأ هذا، فلم يزد على أن تأمله مرة بعد كتابته إياه، ثم دفعه إليه، ثم قرأه عليه من حفظه كأحسن ما أنت سامع. فقال له الشيخ: يا ولدي: امسح هذا، ثم أملى عليه شيئًا آخر، ففعل ابن تيمية كما فعل في المرة الأولى، فقام الشيخ وهو يقول: إن عاش هذا الصبي ليكونن له شأن عظيم؛ فإن هذا لم يُرَ مثله.

وقد نشأ ابن تيمية في تصون تام وعفاف، وتنسُّك وتعبد، واقتصاد في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحير منه أعيان البلد في العلم، وكان هو في مقتبل شبابه قد أخذ في تفسير الكتاب العزيز في مجامع الناس على كرسي من حفظه، وكان إذا تكلم كأن العلوم كلها بين يديه، يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء، وقل أن يدخل في علم إلا ويستدرك مستدركات في ذلك العلم على حُذَّاق أهله.

وكان الفقهاء من سائر الطوائف والمذاهب إذا جلسوا معه استفادوا في مذاهبهم أنفسهم منه ما لم يكونوا يعرفونه من قبل، فكان أعرف من فقهاء المذاهب بمذاهبهم، ولم يناظره أحد ولا تكلم معه في علم من العلوم إلا أفحم. قال الحافظ المزي: ما رأيت مثله، ولا رأى هو مثل نفسه. وقد وصلت مؤلفاته -رحمه الله- إلى خمسمائة مجلد.

ونستطيع أن نقول: إن ابن تيمية -رحمه الله- أحيا الاجتهاد والرجوع إلى النصوص الشرعية وتحكيم الدليل، أو بعبارة أخرى أحيا مدرسة الحديث والسنة في عصره ورفع شأنها، واستطاع أن يجتذب إليها صفوة العلماء الأخيار في عصره من كافة الأقطار والمذاهب، ويكفي أن نذكر من أساطين تلك المدرسة الذين تتلمذوا على يديه: ابن قيم الجوزية، والإمام شمس الدين الذهبي، وابن كثير الدمشقي، وغيرهم. ثم من سار على منهجهم من بعدهم.

وقد قام ابن تيمية وتلامذته بنقد مناهج الفلاسفة، وكسر هيبة الفلسفة عند المسلمين، وتحطيم الأصول التي بناها المبتدعة ليحموا بها مناهجهم الفاسدة من التحلل والانهيار، وإثبات عقائد الإسلام وأحكامه بطريقة علمية شرعية تخاطب العقل البشري دون أن تتيه في ظلمات الفلسفة الإغريقية، ونشر مذهب السلف في الأسماء والصفات والقدر وغير ذلك، حتى كثر معتنقوه.

ولقد أسس -رحمه الله- حركة علمية واسعة النطاق بجهوده وجهود تلاميذه، فردوا على أهل البدع والضلالات والمذاهب المنحرفة حتى أسكتوهم، ولا يزال السائرون على طريق العلم، الحريصون على اتباع الدليل، يغترفون من بحر علوم هؤلاء القوم حتى اليوم، فجزاهم الله عن هذه الأمة خير الجزاء، وأعان من سلك دربهم ومضى على نهجهم إلى يوم الدين.

وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فلم تقف جهود ابن تيمية -رحمه الله تعالى- عند محاربة أهل الفلسفة وأهل البدع والتعصب والجمود والتقليد، بل تعدت ذلك إلى بيان حال التتار الذين يحكمون البلاد باعتباره وضعًا سياسيًا جديدًا طرأ على بلاد المسلمين، حيث ادعوا الإسلام ولم يحكموا بشريعة الرحمن، بل حكموا بشرع أو دستور اخترعوه سمَّوه الياسق، وضعه لهم ملكهم جنكيز خان، وهذا الياسق خليط ملفق من الإسلام وغير الإسلام، فأفتى ابن تيمية الناس بوجوب قتالهم حتى يعودوا إلى شرع الله، وكذا أفتى ابن كثير -وهو من تلامذته رحمه الله- بأن من فعل ذلك فهو كافر مرتد يجب قتاله حتى يعود إلى شرع الله، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير، كما بين ابن تيمية -رحمه الله- كفر الدروز والنصيرية أو العلوية الذين يقطنون بلاد الشام، والذين ورث مذهبهم حزب البعث العلوي السوري، حيث يؤلهون عليًّا ولا يؤمنون بالبعث.

كما بين ابن تيمية -رحمه الله- ضلالات وكفريات الشيعة الرافضة وخبثهم، وهؤلاء يحمل مذهبهم اليوم أولئك الذين يحكمون إيران، وهكذا تتبع ابن تيمية الفِرَق وأمثالها، وبين حالها، وأصدر فيها حكمه ولم يقف حائرًا، حتى إن المتتبع لأوضاع عصرنا اليوم يجد أن ابن تيمية عنصر فعال وعضو بارز في واقعنا من خلال هذه الفتاوى والأحكام الشهيرة على هذه الفرق وأمثالها، والتي تمثل أوضاعًا سياسية بارزة في عالمنا المعاصر، ولكل هذا تألبت طواغيت الأرض في عصرنا على ابن تيمية، حتى إن جاهلاً منهم أغرى الناس بمكافأة ضخمة لمن يأتيه بابن تيمية حيًّا أو ميتًا، بعد أن مضى على موت ابن تيمية سبعة قرون.

ولم يقف دور ابن تيمية على البيان والإفتاء، بل زاول بنفسه القيادة الحقيقية للأمة في السلم والحرب، كان جديرًا بها لمواهبه النادرة العظيمة واستجماعه لخصائص القائد الفذ، فكان يدافع عن مصالحها ضد المستغلين ويحفظ حقوقها ضد المنتهبين ويدفع عنها كيد عدوها ما استطاع.

وقد ذهب بنفسه إلى قازان التتري وابنه وقال: إن أجدادك الوثنيين لم يجرؤوا على ما جرؤت عليه، فيعجب به قازان ويطلب منه الدعاء.

ويركب الشيخ إلى مصر لمقابلة السلطان الناصر ويكلمه كلامًا شديدًا حتى يقول: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه، ويستغله في زمن الأمن، وهدده بقوله: إن تخليتم عن الشام ونصرة أهله والذب عنهم فإن الله تعالى يقيم لهم من ينصرهم غيركم ويستبدل بكم سواكم.

وفي داخل البلاد كان ابن تيمية في جماعة من أصحابه الغيورين يقومون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومع جهاده -رحمه الله- بالعلم والحجة والدعوة كان يجاهد بالسلاح ويقود المسلمين في حروبهم مع التتر، ومن الوقائع الشهيرة في ذلك وقعت شقحب قرب دمشق، والتي تحقق فيها النصر على يديه، وكان أصحابه يعجبون من شدة بأسه عند القتال، كان يطلب منهم أن يوقفوه في مواقف الموت، فيقف فيدعو ويبتهل ويذكر الله، ثم يصول ويجول ويثير الحمية في المسلمين، ويحذرهم ويرهبهم من الفرار.

ولم يصل ابن تيمية إلى ما وصل إليه من هذه العزة وتلك القوة وذلك التمكين إلا من بعد أن بذل ما بذل في سبيل الله وجمع العمل مع العلم، فكان بحق عالمًا وقائدًا في نفس الوقت، تربى على يديه الرجال.

ولم يصل ابن تيمية كذلك إلى ما وصل إليه، من ظهور ومكانة ونصرة لمنهج أهل السنة، إلا بعد صبر على الدعوة وتحمل للأذى في سبيل الله -عز وجل-، فقد كان -رحمه الله- في قيامه بهذا الدور العظيم من نشر العلم وهداية الأمة إلى طريق الخير والنجاة يتحمل كثيرًا من المحن، وقد لقي من أهل مصر أذى كثيرًا، فضُرِب مرة بجامع مصر، حيث قام عليه جماعة من الغوغاء الرعاع هنالك. وكان للشيخ أنصار في داخل مصر وفي خارجها، ولو أمرهم أن يهدموا مصر كلها لفعلوا، لكنه آثر الصفح وإفحامهم بالحجة، وقد وفقه الله في ذلك، وتأسف هؤلاء الغوغاء لسفههم وتعجلهم، وأذعنوا له واعترفوا بعلمه وفضله وأنه على الحق، واتبعوه فيما دعاهم إليه.

وسجن -رحمه الله- مرة بالإسكندرية، ومرة بالقاهرة، واستمر سجنه سنة ونصفًا.

وسجن -رحمه الله- عدة مرات بسبب فتوى أو رأي في مسألة من المسائل في الطلاق مثلاً أو غيره من أبواب العلم، وسجن -رحمه الله- في قلعة دمشق قبل موته بسنتين ومعه تلميذه ابن القيم، واستمر بها حتى موته، وختم القرآن فيها ثمانين أو إحدى وثمانين ختمة، حيث لم يتم الأخيرة، بل كان آخر ما وصل إليه قبل موته: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر: 54، 55].

وكان -رحمه الله- يتلقى كل بلاء مرضه بصدر رحب وبطمأنينة إيمانية، لا يعبأ بمصائب الدنيا ولا يتعلق بمتاعها، فلقد كان -رحمه الله- مع علمه وجهاده ورعًا زاهدًا ناسكًا متجردًا عن الدنيا مؤثرًا التقلل منها، شديد التعلق والأنس بالله -عز وجل-، وإذا أتاه شيء من متاع الدنيا وحطامها سارع بتوزيعه يمينًا وشمالاً، وكان إذا سأله سائل -ولم يكن معه شيء- خلع عنه شيئًا من ثيابه فأعطاه له.

ولما منع وهو في سجنه بقلعة دمشق من الكتابة ولم يترك عنده دواة ولا قلم ولا ورقة أقبل على التلاوة والتهجد والمناجاة والذكر، وكان يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، يقصد بها لذة العبادة والمناجاة والأنس بالله -عز وجل-.

وقال مرة لتلميذه ابن القيم: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة. وكان في حبسه يقول: لو بذلتُ ملء هذه القلعة ذهبًا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جازيتهم على ما ساقوا إلي من الخير. وكان دائمًا يصدر رسائله من السجن إلى أهله وأصحابه بالإخبار عن نعم الله المتجددة عليه وعجزه عن شكرها ويقول: أنا في نعم عظيمة لا تحصى ولا تعد. وقال مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.

يقول أحد تلاميذه: وعلم الله ما رأيت أحدًا أطيب عيشًا منه قط، مع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرجاف، وهو مع ذلك أطيب الناس عيشًا، وأشرحهم صدرًا، وأقواهم قلبًا، وأسرُّهم نفسًا، تلوح نضرة النعيم على وجهه، وكنا إذا اشتد الخوف وساءت الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب عنا ذلك كله، وينقلب انشراحًا وقوة ويقينًا وطمأنينة. فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه، وفتح لهم أبوابها في دار العمل، فأتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.

وكانت وفاته -رحمه الله- بسجن القلعة في دمشق في سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، ففجع به أهل السنة، وخرج الناس عن بيوتهم وحوانيتهم إلا من أعجزه الزحام، وامتلأت القلعة وجامع دمشق، وهناك لم يستطيعوا الخروج بالجنازة من باب واحد لشدة الزحام، فخرج الناس من جميع أبواب الجامع، ثم خرجوا من أبواب البلد جميعها من شدة الزحام، ثم صُلِّي عليه هناك والناس يتوافدون للصلاة عليه، ثم دفن -رحمه الله- وذلك بعد سبعة وستين عامًا كان فيها سيفًا مسلولاً على المخالفين، وغُصَّةً في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإمامًا قائمًا ببيان الحق ونصرة الدين، وكان بحرًا لا تكدره الدلاء، وصبرًا يقتدي به الأخيار الألباب، طَنَّت بذكره الأمصار، وضَنَّت بمثله الأعصار. رحم الله علماءنا الأبرار، وألحقنا وإياهم بالمصطفين الأخيار.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

 

  

 


تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي