ومن التقوى أن يستعد العبد ليوم القيامة والبعث والنشور، فالتقوى: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل، فلا يكن استعدادكم ليوم الرحيل بالغفلة والعصيان؛ فإن أهل معصية الله إنما عصوه وخالفوه لقلة يقينهم بلقائه ووقوفهم بين يديه في انتظار ثوابه أو عقابه، فقادتهم الغفلة عن وقفة الحساب إلى الاستمرار في المخالفة والعصيان ..
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المسلمون: اعلموا أن الدنيا ليست بدار بقاء ولا خلود، وإنما أنتم عما قليل منها تظعنون، وما هي إلا أيام وعنها ترحلون، ثم إذا أنتم بين يدي ربكم تحاسبون، فماذا أنتم يومئذ قائلون؟! إذا أبدت لكم الصحف العيوب، وشهد عليكم الأسماع والأبصار والجلود، (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]، (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت: 19 ـ 21].
فيا ويح ابن آدم، يستخفي من الناس بالمعصية، ويغفل عن جلده وسمعه وبصره لا يستتر منها، ينسى أنها ستشهد عليه: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت: 22 ـ 24].
أهلكتهم غفلتهم عن جلودهم وسمعهم وأبصارهم التي لا تفارقهم، والتي لا يفوتها شيء من معاصيهم، والتي تشهد عليهم وتفضحهم، والله إنها لفضيحة كفيلة أن تنغص على الإنسان دنياه كلها، حين يتخيل سمعه وبصره وجلده يشهدون عليه بين الخلائق، ويفضحونه بأعماله وأقواله القبيحة، وينكشف كذب الإنسان وينكشف ظلمه، وينكشف فجوره وتنكشف نواياه، ويصبح عاريًا من كل شيء، العري المعنوي بعد العري الحسي، ويخذله الشيطان الذي أوصله لذلك الموقف المخزي، يخذله شيطانه الذي كان يقارنه في الدنيا ويشجعه على معصية الله، ويحثه على المخالفة، ويزين له أعماله السيئة وأقواله اللئيمة: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) [فصلت: 25]، فيا ويل الغافلين، ويا ويح المفرطين، فالعجب كل العجب ممن يخشى من رقابة البشر الذين ينعسون وينامون، ويتغوطون ويبولون، وينسون ويغفلون، ولا يخشى من رقابة الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ) [النساء: 108]، وهو معهم: (وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء: 108]، فالحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات كلها، ووسع بصره الموجدات جميعها، ووسع علمه الأشياء كلها: (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [طـه:98]، فأين تذهبون وإلى أين تفرون؟! (يَقُولُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلا لا وَزَرَ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ) [القيامة: 10-15].
فلا مفر منه إلا إليه، فخير لكم أن تفروا إليه، منيبين إليه، معترفين بذنوبكم بين يديه، مطهرين نفوسكم وقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم من الغي، (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50]، وتزودوا ليوم الميعاد، ولا تلهكم دار الغرور والهوان، فتنسيكم ما كتبه الله على أهلها من البوار والفناء.
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [آل عمران:185]، فأعدوا ليوم الدين عدته، ومن أراد الفوز والنجاة فليعمل حتى تأتيه بغيته، فإن المولى -عز وجل- أبى أن يكون الفوز إلا لأهل التقوى الذين حصَّلوا طرقها وأسبابها، فوعدهم الحق بقوله: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) [مريم: 72]، وقال -عز وجلّ-: (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا) [النبأ:31]، وقال تعالى: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [النور:52].
ومن التقوى أن يستعد العبد ليوم القيامة والبعث والنشور، فالتقوى: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل، فلا يكن استعدادكم ليوم الرحيل بالغفلة والعصيان؛ فإن أهل معصية الله إنما عصوه وخالفوه لقلة يقينهم بلقائه ووقوفهم بين يديه في انتظار ثوابه أو عقابه، فقادتهم الغفلة عن وقفة الحساب إلى الاستمرار في المخالفة والعصيان، والتمادي في التفريط والإهمال، لا يذكرون مقامهم بين يدي الملك الديان: (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين: 4 ـ 6]، فيقومون في رشحهم وعرقهم، وهولهم ورعبهم، وغمهم وكربهم، وبؤسهم ونكدهم، خمسين ألف سنة في انتظار فصل القضاء والقصاص بينهم، في محكمة الله العادلة، التي لا يخاف المؤمن فيها ظلمًا ولا هضمًا: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، فانظر لحالك يا عبد الله، ماذا أعددت ليوم الرحيل؟! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون) [الحشر:18]، خبير بأعمالكم، خبير بأقوالكم، خبير بمشاعركم وما تكنه قلوبكم، (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ * وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [النمل: 74، 75]، فهل أصلحت قلبك استعدادًا للقاء الله؟! (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشعراء: 88، 89].
هل طهرت قلبك من الشك والرياء؟! هل طهرته من الظنون الكاذبة والأماني الباطلة، أو من التعلق بغير الله، أو التوكل على غير الله؟! هل طهرته من خوف ما سوى الله؟! هل جردته من كل محبة سوى محبة الله والحب في الله؟! هل طهرته من أمراض الحقد والحسد والغل لإخوانك المسلمين؟! (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10]، فأصحاب الجنة هم أصحاب القلوب السليمة، الهينون اللينون، وقد أتاكم من مقال نبيكم -صلى الله عليه وسلم- قوله: "يدخل الجنة أناس أفئدتهم كأفئدة الطير"، وقال يزيد بن أسلم: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتحب الجنة؟!" قلت: نعم. قال: "فأحب لأخيك ما تحب لنفسك".
فكونوا من أهل الإيمان الصادقين، الذين سلمت قلوبهم لله، وسلمت قلوبهم لإخوانهم المؤمنين، فيحبون لهم ما يحبون لأنفسهم، ويظنون بهم الخير، ولا يظنون بهم السوء، فكونوا -أيها المسلمون- من أهل القلوب السليمة، قابلوا الإساءة بالإحسان، والخطيئة بالغفران، والغلظة بالرفق، والجهل بالحلم، والعبوس بالابتسامة، (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت:34]، وليس ذلك ضعفًا كما يظنه الجهال المتكبرون، وليس ذلك نفاقًا أو كذبًا كما يزين الشيطان للمغرورين والمفتونين، وإنما هي منزلة عظيمة لا يقوى عليها إلا الأفذاذ والصابرون من الرجال أصحاب النفوس العالية الصابرة، الذين أراد الله بهم سعادة الدارين: (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) [فصلت:35]، ولا يخدعنكم الشيطان الذي يكره الخير للمسلمين، ويصور لهم العفو ضعفًا، وحسن المعاملة ومقابلة الإساءة بالإحسان نفاقًا وعجزًا؛ ليغري المسلمين ببعضهم بعضًا.
فالنبهاء من عباد الله من فوَّتوا عليه غرضَه (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ) [الإسراء: 53]، (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء) [المائدة: 91]، "إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم". فانتبهوا -يا عباد الله- وأصلحوا قلوبكم، فصلاح القلب هو أول عمل تستعدون به لمفارقة هذه الدار، دار الهموم والغموم والأسقام، وغدًا ترحلون منها إلى دار بقاء بلا زوال، ودار نعيم بلا هوان، ووالله لو صلحت القلوب لصلحت الأقوال والأعمال، "ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله قاهر المتجبرين، وناصر المستضعفين، وقيوم السموات والأرضين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المَلِكُ الحق المبين، ذل لكبريائه جبابرة السلاطين، وبطل أمام قدرته كيد الكائدين، قضى قضاءه كما شاءه على الخاطئين، وسبق اختياره من اختاره من العالمين، فهؤلاء أهل الشمال وهؤلاء أهل اليمين، ولولا ذاك ما امتلأت النار من المجرمين: (وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة:13]، تلك حكمته سبحانه وهو أحكم الحاكمين.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، العبد الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الغر الميامين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فمن الاستعداد ليوم الرحيل بعد إصلاح القلب إصلاح اللسان: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 16 - 18]، فـ"إن الرجل ليتكلم بالكلمة، لا يلقي لها بالاً، يزل بها أبعد مما بين المشرق والمغرب"، "وهل يكب الناس في النار على وجوههم -أو على مناخرهم- إلا حصائد ألسنتهم"، و"من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"، ومن تكلم فيما لا يعنيه حُرِم الصدق، وعاد بالهم والبؤس، وأكثر الناس ذنوبًا أكثرهم كلامًا فيما لا يعنيهم، وقال الحسن -رحمه الله-: من علامة إعراض الله تعالى عن العبد أن يجعل شغله فيما لا يعنيه خذلانًا من الله -عز وجل-، والعناية لا يحددها هوى النفس والقلب، وإنما الذي يحدد هل ذلك مما يعنيك أو لا يعنيك هو حكم الشرع.
فلا تطلق لسانك في كلام *** يجر عليك أحقادًا وحوبًا
ولا يبرح لسانك كل وقت *** بـذكر الله ريانًا رطيبًـا
جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، إن شرائع الإيمان قد كثرت علي، فأخبرني بشيء أتشبث به، قال: "لا يزال لسانك رطبًا من ذكر الله تعالى". ففي ذكر الله شغل لك يكفيك عن الكلام فيما لا ينفعك، ويكفيك من الغيبة والنميمة، ومن الفحش والسباب، ومن اللغو والكذب: (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) [المؤمنون: 1ـ 5]، فمصدر الخطر العظيم على الإنسان فرجه ولسانه، فهما أكثر ما يدخل الناس النار، ووالله كم من عاقل لبيب قل عقله بسبب الشهوة، وكم من عابد افتتن وسقط وخاب سعيه بسبب الشهوة، فكلنا يحتاج إلى وقاية من هذه المزلة العظيمة، فلسنا ملائكة، بل كلنا بشر فينا الشهوة وفينا الضعف: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف:53]. نسأل الله السلامة والعافية.
فغض عن المحارم منك طرفًا *** طموحًا يفتن الرجل الأريبا
فخائنة العيون كأسـد غـاب *** إذا ما أهملت وثبت وثوبًا
ومن يغضض فضول الطرف عنها *** يجد في قلبـه روحًا وطيبًا
ثم لابد من إصلاح البطن وصيانتها عن أي لقمة حرام أو أكلة حرام، ولا يتم ذلك إلا بالأكل من الطيبات، وتطهير المال عن الحرام، ولا تقع في الحمق والغفلة كالذي يمد يديه إلى السماء: يا رب يا رب، ومطعمه حرام، وملبسه حرام، ومشربه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب لذلك!! أنى يستجاب له وقد أعمته الدنيا، فاكتسب في تحصيلها الذنوب والآثام، ولم يرع حق من أنعم عليه ورعاه.
نحن ندعو الإله في كل كرب *** ثم ننساه عند كشف الكروب
كيف نرجو إجابـة لدعـاء *** قد سددنـا طريقها بالذنوب
فالدنيا لا تستحق من الاهتمام ذلك القدر الذي يوقع الإنسان في المعاصي والمحرمات.
وما هي إلا جيفـة مستحيلة *** عليها كلاب هَمُّهُنَّ اجتـذابها
فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها *** وإن تجتذبها نازعتـك كلابها
فـ"ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس يحبك الناس"، "وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل، وعد نفسك من أهل القبور، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك".
فإن لكم -أيها المسلمون- بيوتًا تتوجهون إليها غير هذه الدار: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39]، فاعبروها ولا تعمروها، فمن ذا الذي يبني على موج البحر دارًا، تلكم الدنيا فلا تتخذها قرارًا، فإن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة، ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدًا حساب ولا عمل، ولا تنسوا أن الدنيا حرامها عقاب، وحلالها حساب، وهي والله ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب الله على أهلها منها الظعن، فكم من عامر موثق عما قليل يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يظعن، فأحسنوا -رحمكم الله- منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، فالعجب كل العجب ممن الدنيا مولية عنه، والآخرة مقبلة إليه، يشتغل بالمدبرة ويعرض عن المقبلة، فوالذي نفسي بيده: إن أحدكم لا يدري، لعله أن يبيت في أهل الدنيا ويصبح في أهل الآخرة، فكم من مستقبل ليوم لا يستكمله، وكم من مؤمل لغد لا يدركه.
وما أدري وإن أملت عمرًا *** لعلي حين أصبح لست أمسي
ألم تر أن كل صبـاح يوم *** وعمـرك فيه أقصر منه أمس
فلا يدعوك ما أنت فيه من زهرة الدنيا إلى الابتهاج بها والغفلة عما بعدها، (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلا مَتَاعٌ) [الرعد: 26].
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يرحمنا، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم اغفر لجميع المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، ربنا آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي