لقد بدأت ظاهرة خطيرة بين كثير من المسلمين ولاسيما من يسمون -اصطلاحاً- بالمفكرين، ظاهرة تهدد المعتقد السليم والوضع القويم للمسلمين، سببها كثرة احتكاك المسلمين بمن ليسوا على دينهم، وتعاملهم معهم تعاملاً لا ينطلق في معظمه من تعليمات الإسلام، بل وكثرة عرض وسائل الإعلام لأحوال أولئك القوم على واقعها دون تمحيص لما ينفع من ذلك أو يضر، ألا وهي استمراء الباطل
الحمد لله رب العالمين، أحمده وأشكره وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل: (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [القصص:70] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المنزل عليه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) [الزمر:30-31] اللهم صل عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها الإخوة: لقد بدأت ظاهرة خطيرة بين كثير من المسلمين ولاسيما من يسمون -اصطلاحاً- بالمفكرين، ظاهرة تهدد المعتقد السليم والوضع القويم للمسلمين، سببها كثرة احتكاك المسلمين بمن ليسوا على دينهم، وتعاملهم معهم تعاملاً لا ينطلق في معظمه من تعليمات الإسلام، بل وكثرة عرض وسائل الإعلام لأحوال أولئك القوم على واقعها دون تمحيص لما ينفع من ذلك أو يضر، ألا وهي استمراء الباطل الذي أدى بكثير من الناس المنتسبين للإسلام إلى عدم الكفر بما عبد من دون الله، وقديماً قيل: "إذا كثر الإمساس قلّ الإحساس".
الأمر العظيم الذي لا إيمان ولا أمان لمن لم يأت به، فلقد جاءت الشريعة الغراء مبينة بأنه لا توحيد مقتضياً بفضل الله للنجاة من دخول النار أصلاً أو من الخلود فيها، ولا أمان في الحياة على النفس والعرض والمال، ولا مكان بين المسلمين الخُلَّص أو تصدر أو تقدير أو احترام؛ لمن لم يحقق مقتضى لا إله إلا الله المتضمن الكفر بما عبد من دون الله.
يقول سبحانه وتعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) [النساء:60] ويقول: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:256] ويقول: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ) [النحل:36] ويقول عليه الصلاة والسلام: "من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ماله ودمه وحسابه على الله".
ومعنى الكفر بالطاغوت والكفر بما عبد من دون الله: البراءة منه واعتقاد بطلانه. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله-: "فأما صفة الكفر بالطاغوت، فأن تعتقد بطلان عبادة غير الله، وتتركها وتبغضها وتكفِّر أهلها وتعاديهم".
وقال في بيان الطاغوت الذي أمرنا بالبراءة منه، واعتقاد بطلانه في كتابه ثلاثة الأصول: قال ابن القيم -رحمه الله-: "معنى الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، والطواغيت كثيرون، ورؤوسهم خمسة: إبليس لعنه الله، ومن عبده وهو راض، ومن دعا الناس إلى عبادة نفسه، ومن ادعى شيئاً من علم الغيب، ومن حكم بغير ما أنزل الله. وقال في بيان نواقض الإسلام: الثالث: من لم يكفر المشركين أو يشك في كفرهم أو يصحح مذهبهم فقد كفر" –مجموعة التوحيد ص 271.
أيها الإخوة المؤمنون: بنظرة هادفة للخير خالية من الأهواء في قول الله سبحانه وتعالى: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31] وما فسرت به أثراً ونظراً من أنهم يحلون لهم الحرام فيحلونه، ويحرمون عليهم الحلال فيحرمونه، وقوله في سورة الأنعام: (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام:121] أي إن أطعتموهم فيما يحرمونه من الحلال، ويحلونه من الحرام إنكم لمشركون. وقوله في سورة الكهف (أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) [الكهف:26] وقرأ بن عامر أحد القراء السبعة: (ولا تشرك) بالجزم، أي لا تشرك أيها الإنسان في حكمه أحداً.
وقوله: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [يوسف:40] وقوله: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [المائدة:50] وقوله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) الآيات [المائدة:44]. وغير ذلكم أمثال ما سبق من قول الله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ) [النساء:60]
وقوله: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) الآية [النساء:65]، يتبين للناظر أن رفع أحكام شرعية من أحكام الإسلام؛ معروف حكمها من دين الإسلام بالضرورة، وإحلال قوانين وضعية من صنع البشر مخالفة لها بدلاً منها، والحكم بها بين الناس، وحملهم على التحاكم إليها.
أن ذلك شرك بالله في حكمه، والمتبع بطواعية لمن فعل ذلك مشرك شرك الطاعة، وإن هذين الشركين قرينا شرك العبادة والدعاء، موجب كل واحد منهما للخلود في النار لمن مات عليه، إذ لا فرق بين قول الله سبحانه وتعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) [الكهف:110] وقوله فيمن: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31] وقوله في مجال التحريم والتحليل: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) [الأنعام:121] وقوله عن الشيطان في خطبته التي سيخطب بها فيمن مات على طاعته: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [إبراهيم:22] أي أطعتموني واستجبتم لي فيه. فشركهم به شرك طاعة واستجابة لا شرك ركوع له وسجود.
قال شيخ الإسلام أحمد بن تيمية -رحمه الله-: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه؛ كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء" (مجموع الفتاوى جـ 3/267).
وقال: "ومن أوجب تقليد إمام معين استتيب، فإن تاب وإلاَّ قتل" (الاختيارات ص 333) وقال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -رحمه الله- في مطلع رسالته- تحكيم القوانين: "إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين في الحكم به بين العاملين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين؛ مناقضة ومعاندة لقول الله -عز وجل-: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59] إلخ الرسالة".
وجاء في تعليق على كتاب فتح المجيد شرح كتاب التوحيد باب قوله الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ) الآية [النساء:60] عن ذكر السياق الذي ألفه جنكيزخان التتري دستوراً للتتار الذين عاثوا به في الأرض فساداً، "ومثل هذا وشر منه من اتخذ من كلام الفرنجة قوانين يتحاكم إليها في الدماء والفروج والأموال، ويقدمه على ما علم وتبين من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فهو بلا شك كافر مرتد إذا أصر ولم يرجع إلى الحكم بما أنزل الله، ولا ينفعه أي اسم تسمى به، ولا أي عمل من ظواهر أعمال الصلاة والصيام والحج ونحوها". وقد أقر هذا التعليق سماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز ختم الله لنا وله بالصالحات.
فيا إخوة الإسلام: وهواه طوبى وحسن المقام في جنة عدن تدخلونها بسلام، اتقوا الله وحافظوا على ما من الله به عليكم من معتقد سليم، ووضع قويم باجتناب ما يناقضه أو يلوثه، بل وحمايته والدعوة إليه؛ تسلموا من طائلة الوعيد في قوله سبحانه: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد:38]
وتصبحوا خير خلف لخير سلف، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، قال سبحانه وتعالى: (وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأنعام:87-88]
وأستغفر الله لي ولكم، إنه تعالى هو أهل التقوى وأهل المغفرة.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي