إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينتهي، والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري كلها لا تصنع شيئًا إلا أن تهيج السعار الحيواني المجنون، وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة ..
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله -تبارك وتعالى-، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وبعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واعلموا أنه يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون، واعلموا أن الله -تبارك وتعالى- أمركم بالعمل بأمور يصلح العمل بها أحوالكم، ونهاكم عن فعل أمور صيانة لكم عما يفسد أحوالكم، وعما يقطع أواصر المحبة فيما بينكم.
فإن العبد إذا لم يعمل بأوامر الله -تبارك وتعالى- وتعدى الحدود التي أمره الله أن لا يتجاوزها لم يكن له هم إلا إشباع شهواته، وإزاحة كل ما من شأنه أن يحول بينه وبين أطماع نفسه من شهواتها من طريقه.
وقد كان أدب الاستئذان آخر ما مَرّ بنا، أدب الاستئذان على البيوت، ولما كان أدب الاستئذان توطئة لأدب النفوس وصيانة لها عن التعرض لما يفسدها ويثير كوامنها، كان لزامًا علينا أن نتبعه بالكلام على الآيتين التاليتين الكريمتين، فالقرآن الكريم بعد أدب الاستئذان على البيوت، وهو إجراء وقائي في طريق تطهير المشاعر واتقاء أسباب الفتنة العابرة يقطع على الفتنة الطريق، حتى لا تنطلق من عقالها بدافع النظر إلى مواضع الفتنة، وبدافع الحركات المعبرة الداعية إلى الغواية.
يقول الله -تبارك وتعالى- في الآية الثلاثين والحادية والثلاثين من سورة النور -بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم-: (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لّلْمُؤْمِنَـاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ ءابَائِهِنَّ أَوْ ءابَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِى أَخَوتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّ أَوِ التَّـابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرتِ النّسَاء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 30، 31].
إن الإسلام يهدف إلى إقامة مجتمع نظيف، لا تهاج فيه الشهوات في كل لحظة، ولا تستثار فيه دفعات اللحم والدم في كل حين، فعمليات الاستثارة المستمرة تنتهي إلى سعار شهواني لا ينتهي، والنظرة الخائنة والحركة المثيرة والزينة المتبرجة والجسم العاري كلها لا تصنع شيئًا إلا أن تهيج السعار الحيواني المجنون، وإلا أن يفلت زمام الأعصاب والإرادة، فإما الإفضاء الفوضوي الذي لا يتقيد بقيد، وإما الأمراض العصبية والعقد النفسية الناشئة عن الكبح بعد الإثارة، وإحدى وسائل الإسلام إلى إنشاء مجتمع نظيف هي الحيلولة دون إنشاء هذه الاستثارة، وإبقاء الدافع الفطري بين الجنسين سليمًا على قوته الطبيعية دون استثارة مصطنعة، وتصريفه في موضعه المأمون النظيف، ولقد شاع في وقت من الأوقات أن النظرة المباحة والحديث الطليق والاختلاط الميسور والدعابة المرحة بين الجنسين والاطلاع على مواضع الفتنة المخبوءة؛ تنفيسٌ وترويح وإطلاق للرغبات الحبيسة، ووقاية من الكبت والعقد النفسية، وتخفيف من حدة الضغط الجنسي لما يكون وراءه من اندفاع غير مأمون إلى آخره.
شاع هذا على إثر بعض النظريات المادية القائمة على تجريد الإنسان من خصائصه التي تفرقه عن الحيوان، والرجوع به إلى الخاصية الحيوانية الغارقة في الطين، وخاصة نظرية فرويد، ولكن هذا لم يكن سوى فروض نظرية، شاهد المنصفون بأعينهم في أشد البلاء إباحيةً وانفلاتًا من جميع القواعد الاجتماعية والدينية والإنسانية ما يكذّبها وينقضها من الأساس، "نظرية كاذبة" منقوضة من الأساس، نعم شاهِدوا في البلاد التي ليس فيها قيد واحد على الكشف الجسدي والاختلاط الجنسي بكل صوره وأشكاله، إن ذلك كله لم ينتهِ بتهذيب الدوافع الجنسية وترويضها أبدًا، إنما انتهى إلى سعار حيواني مجنون لا يرتوي ولا يهدأ إلا ريثما يعود إلى الظمأ والاندفاع، شاهدوها بوفرة ومع الشذوذ الجنسي بكل أنواعه ثمرة مباشرة للاختلاط الكامل الذي لا يتقيد بقيد، ليحذر المسلمون، ليحذروا، زعموا أن ذلك يفي براحة الإنسان وراحته النفسية، كان من جراء ذلك أن ظهرت الأمراض النفسية والعقد، ومحاولات الانتحار بكثرة، والمستشفيات يغشاها من أصحاب هذه الحالات الكثيرون، ثمرةً مباشرة للاختلاط الذي لا يتقيد بقيد، وللصداقات بين الجنسين، تلك التي يباح فيها كل شيء، وللأجسام العارية في الطريق، والحركات الكثيرة، والنظرات الجاهرة، واللفتات الموقظة: (قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـارِهِمْ)، يأمر الله أتباعه المؤمنين أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم، فلا ينظروا إلا إلى ما أباح لهم النظر إليه، عن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري. ورواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال الترمذي: حسن صحيح، وفي بعض رواياتهم فقال: "أطرق بصرك"، يعني: انظر إلى الأرض، قال ابن كثير -رحمه الله-: "والصرف أعم؛ فإنه قد يكون إلى جهة الأرض وإلى جهة أخرى"، وفي الصحيح من حديث أبي سعيد -رضي الله عنه- قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والجلوس في الطرقات"، قالوا: يا رسول الله: لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها. قال: "إن أبيتم إلا الجلوس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حق الطريق؟! قال: "غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر".
(قُلْ لّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَـارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ) هذا أمر بحفظ الفرج، وهو من صفات المؤمنين في سورة المؤمنون والمعارج: (وَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَـافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) [المعارج: 29، 30] ثم أخبر أن من يتجاوزون ذلك -الأزواج وما ملكت اليمين- أنهم هم العادون، المعتدون: الذين تجاوزوا ما أمرهم الله تعالى أن لا يتعدوه، ولا يتجاوزوه، ويحفظوا فروجهم، روى الإمام البخاري أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة"، اللسان والفرج.
(وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ) أي: ذلك أزكى لقلوبهم إن حفظوا أبصارهم، وحفظوا فروجهم، ذلك أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم كما قيل: "من حفظ بصره أورثه الله نورًا في بصيرته"، ويروى: "في قلبه". روي عن أبي أمامة وابن عمر وحذيفة وعائشة مرفوعًا وأسانيدها فيها ضعف.
ثم نأتي بعد ذلك إلى قول الله تعالى في نهاية الآية: (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)، ونعمت الخاتمة، إن الله يعلم سركم وجهركم فراقبوه في السر والعلانية، فإنه لا يخفى عليه من حالكم خافية.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.
ثم يقول الله -تبارك وتعالى- آمرًا النساء المؤمنات: (وَقُل لّلْمُؤْمِنَـاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـارِهِنَّ)، يأمر الله -تبارك وتعالى- النساء المؤمنات بغض الأبصار غيرة منه لأزواجهن عباده المؤمنين، وتميزًا لهن عن صفة نساء أهل الجاهلية وفعال المشركات، يأمرهن بغض البصر عما حرم عليهن من غير الأزواج، (وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)، ويأمرهن كما أمر الرجال بحفظ الفروج عن الفواحش، وعما لا يحل لهن، (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، قال ابن مسعود: "إلا ما ظهر منها كالرداء والثياب"، هذا يعني على ما كان يتعاطاه نساء الجاهلية من المقنعة التي تجلل ثيابها، وما يبدو من أسافل الثياب فلا حرج عليها فيه، الزينة التي تظهر من أسفل الثياب لا زينة الأجساد؛ لأن الزينة هي كل ما يتزين به مما هو خارج عن ذات الشيء، وهذا مما يصلح لدفع القول بأن الزينة هي الوجه والكفان كما سنعلم، فلا حرج عليها فيما يبدو من أسافل الثياب، ونظيره في زي النساء ما يظهر من إزارها وما لا يمكن إخفاؤه، فهذا لا حرج عليها فيه، قاله ابن مسعود وتابعه عليه الحسن وابن سيرين وأبو الجوزاء وإبراهيم النخعي وغيرهم.
وأما قول ابن عباس: "إن الزينة الظاهرة: الوجه والكفان والخاتم"، فقد قال ابن كثير -رحمه الله تعالى-: "يحتمل أن يكون هذا للزينة التي نُهينا عن إبدائها؛ لأن الآية ذكرت الزينة مرتين، في أول الآية: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا)، والمرة الثانية: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ)، قال: فيُحتمل أن يكون هذا تفسيرًا لابن عباس في الزينة الثانية التي نهيت، يقال: إن أبا داود مُخرج الحديث وأبا حاتم الرازي قالا: هو مرسل، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة، والحديث قال فيه الإمام أبو داود بسنده: حدثنا يعقوب بن كعب الأنطاكي ومؤمل بن فضل الحراني قال: حدثنا سعيد بن بشير عن قتادة عن خالد بن دريك عن عائشة -رضي الله عنها- أن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنها- دخلت على رسول الله وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: "يا أسماء: إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا"، وأشار إلى وجهه وكفيه. قال أبو داود وأبو حاتم الرازي: هو مرسل، خالد بن دريك لم يسمع من عائشة، والمرسل قسم من أقسام الضعيف.
فهذا حديث من الأحاديث التي احتج بها أهل القول بجواز كشف الوجه، مستبين من أقوال العلماء وردودهم في الجمعة القادمة إن شاء الله، وقدر في الكلام على الحجاب ما في هذه الأحاديث وكيف ردت، وردوها ولم يسلِّموا بصلاحيتها للحجة.
ثم قال الله تعالى: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، الخُمُر: جمع خمار، وهو ما يغطى به الرأس، أمر الله -تبارك وتعالى- المؤمنات أن يسترن صدورهن وترائبهن بالخمر، ولا يتشبهن بنساء أهل الجاهلية؛ فقد كانت المرأة فيهم تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا تواريه، وربما أظهرت عنقها وذوابئها وأقراط آذانها، فنهى الله النساء المؤمنات عن التشبه بهن، وأمرهن أن يستترن في جميع أحوالهن. كما قال في الآية السابعة والخمسين من سورة الأحزاب.
(يأَيُّهَا النَّبِىُّ قُل لاِزْوجِكَ وَبَنَـاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَـابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ) [الأحزاب: 59]، وقال هنا: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ)، ثم قال: (وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ)، أي للأزواج يبدين الزينة الثانية التي أُمرن بأن لا يبدينها إلا للأزواج والمحارم، يبدينها للأزواج؛ فإن الأزواج لهم كل ذلك، وكل ذلك من أجلهم، وتتصنع المرأة بما شاءت لهم بما لا يجوز في حضرة غيره.
ثم قال: (أَوْ ءابَائِهِنَّ)، وذكر المحارم آباء النساء وآباء أزواجهن وأبنائهن وأبناء أزواجهن والإخوة وأبناء الإخوة وأبناء الأخوات، كل هؤلاء محارم للمرأة، يجوز لها أن تظهر عليهن بزينتها، ولكن من غير تبرج.
ثم بعد ذلك: (أَوْ نِسَائِهِنَّ)، يجوز به أن تظهر المرأة زينتها للنساء المسلمات، دون نساء أهل الذمة الكافرات من اليهوديات والنصرانيات، وغيرهن من المجوسيات؛ لأن الرسول قال فيما أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها".
فإن النساء المسلمات يعلمن أن ذلك حرام فينزجرن عنه، وأما نساء أهل الذمة فليس عندهن ما يمنعهنّ من وصف نساء المسلمات لأزواجهن الكفار ونعتهن لهم.
ثم قال الله -تبارك وتعالى-: (أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّ) من الرقيق، قال ابن جرير: الأمة المشركة. وقال آخرون: من الرقيق رجالاً ونساءً؛ لأن الرجال إذا كانوا عبيدًا أرقاء لا تقطع همتهم إلى سيداتهم والأول أولى؛ لأن الرقيق يشترك مع الأحرار فيما عندهم من الميل الفطري إلى النساء.
(أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـانُهُنَّ أَوِ التَّـابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِى الإِرْبَةِ مِنَ الرّجَالِ)، هؤلاء من الذين لا يميل لهم ولا همة لهم إلى النساء بسبب الجبّ، أي: الخصاء والعُنّة؛ والبلاهة والجنون وسائر ما يمنع من اشتهاء الرجل للمرأة. وعليها مع ذلك بالرغم من أنه لا حرج عليها إذا بدت زينتها لهؤلاء، فعليها مع ذلك أن تحتاط، وأن لا تتبرج؛ لأن الإمام أحمد والشيخين رووا عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنه كان عندها مخنث، وهو ممن لا همة له إلى النساء، وأخوها عبد الله بن أبي أمية، ودخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فسمع النبي ذلك المخنث يقول لعبد الله: يا عبد الله: "إن فتح الله عليكم الطائف غدًا فعليك بابنة غيلان؛ فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان".
إذًا بالرغم من أنه مخنث إلا أنه يفهم ويفرق بين الشوهاء والحسناء. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- في حالة هذا الرجل الذي كانوا يعدونه من غير أولي الإربة قال: "لا يدخل هذا عليك".
(أَوِ الطّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرتِ النّسَاء)، يعني لصغرهم فإنهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهم من كلامهن الرخيم وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن. فإذا كان الطفل صغيرًا فلا بأس في دخوله على النساء، فإذا كان مراهقًا أو قريبًا منه أو يفرق بين الشوهاء والحسناء ويفهم ذلك ويعرفه ويدريه، وتطلع على ذلك من خلال كلامه وحركاته فلا يُمَكّن من الدخول على النساء.
كل ذلك صيانة لنا من الله -تبارك وتعالى- عن الوقوع في حبائل الفتنة واتقاءً لأسبابها.
ثم قال للنساء: (وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ)، فقد كانت المرأة في الجاهلية إذا مشت في الطريق وفي رجلها خلخال لا يعلم صوته ضربت برجلها الأرض فيسمع الرجل طنينًا، فنهيت المرأة المؤمنة عن مثل ذلك. ويدخل في هذا النهي إن كان شيئًا من زينتها مستورًا ثم تحركت ليعلم وليسمع صوته لقوله تعالى: (لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ).
ثم قال الله -تبارك وتعالى-: (وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)، أي افعلوا ما أمركم الله به من هذه الصفات الجميلة، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة؛ فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمركم الله ورسوله به، وترك ما نهاكم الله ورسوله عنه، وبهذا يرد القرآن القلوب كلها إلى الله، ويفتح لها بابًا للتوبة بهذه الخاتمة؛ ليتوبوا مما ألموا به قبل نزول هذا القرآن أو قبل العلم بما في هاتين الآيتين، يفتح لهم بابًا للتوبة، وبذلك يثير حساسية لرقابة الله -تبارك وتعالى- في السر والعلانية، وعطفه على خلقه وعونه للبشر في ضعفهم أمام هذا الميل الفطري العميق الذي لا يضبطه مثل الشعور بالله وبتقواه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي