والأمّةُ المسلِمَة تستحقّ التأييدَ من الله والتمكينَ في الأرض إذا أقامَت العدلَ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ رحمه الله: "إنَّ الله يقيم الدولةَ العادلة وإن كانَت كافرة، ولا يقيمُ الدولة الظالمةَ وإن كانت مسلمة". أيّها المسلمون: العدل مأمورٌ به في كلّ الأحوال، والظلم عاقِبَته وخيمةٌ في الدنيا والآخرة، ومَن ظلم قيدَ شبر طُوِّقهُ يومَ القيامة من سبعِ أرَضين، ومن ظلم غيرَه فإنّ القصاص منه مُؤلم ..
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].
أمّا بعد: فاتّقوا الله -تعالى أيها المؤمنون- لعلكم ترحمون، أنيبوا لربّكم وأسلموا له قلوبَكم، ولا تغرَّنَّكم الحياة الدنيا.
إنَّ في القلوب فاقةً وحاجة لا يسدّها إلاّ الإقبال على الله ومحبتُه والإنابة إليه، ولا يلمُّ شَعثَها إلاّ حفظ الجوارِح واجتنابُ المحرّمات واتِّقاء الشبهات؛ فرحِم الله امرأً راقب نفسَه واتَّقى ربَّه واستعدَّ للآخرة.
أيها المؤمنون: يهنَأ العيش وتصفو الحياةُ حين يستوفي الإنسانُ كاملَ حقوقه، وتعمُر البلاد وتقوم الحضارات في ظلّ العدلِ والمساواة واستيفاءِ الحقوق.
لقد فطَر الله النفوسَ على محبّة العدل، واتَّفقت على حسنِه الفطَر السليمَة والعقولُ الحكيمة، وتمدّح به الملوك والقادةُ والعظماء والسّادَة، وجاءت به الرِّسالات السّماوية (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [الحديد:25].
وقد جاءَ دينُ الإسلام العظيم؛ لإخراج الناس من جَور الأديان إلى عدلِ الإسلام، حيث إنّه بالعدلِ قامت السماوات والأرض، واتَّصف الحقّ -سبحانه- به، ونفَى عن نفسه ضدَّه وهو الظلم: (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) [النساء:40].
وقامَ دين الإسلام على العدلِ: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً) [الأنعام:115]؛ فهو صِدق في أخباره، عَدل في أحكامه، لا يقِرّ الجورَ والظلم ولا العدوان، بل هو -دائمًا- مع الحقِّ أينما كان، يأمر بالوفاء بالعقودِ والعهود حتى مع الكفّار (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ) [الأنفال:58]، (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) [المائدة:8]، أي: لا يحمِلَنّكم بُغضُ قوم على تركِ العدل؛ فإنّ العدلَ واجب على كلّ أحد وفي كلّ حال.
وقد أمَر الله به رسولَه في قوله: (وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [الشورى:15]، وأمَر به جميعَ خلقه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ) [النحل:90]، وجعل في مقدّمةِ السّبعة الذين يظلّهم الله في ظلِّه يومَ لا ظلَّ إلا ظله -كما في الصحيحين- "إمامٌ عادل"، وفي صحيح مسلمٍ أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّ المقسطين عند الله على منابرَ مِن نور عن يمين الرحمن، وكِلتا يديه يمين، الذين يعدِلون في حكمِهم وأهلِهم وما وَلوا".
أمّا ضِدّه وهو الظلم فهو ظلماتٌ يومَ القيامة، وقد حرّمه الله على نفسه وجعله بين العبادِ محرَّمًا، فلا يفلِح ظالم، (إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [القصص:73]، وفي سورة البقرة: (لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة:124]، وفي آل عمران: (وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) [آل عمران:57].
ولا شكَّ أنّ أظلمَ الظلم هو الشرك بالله؛ كما في سورة لقمان: (لاَ تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان:13].
والأمّةُ المسلِمَة تستحقّ التأييدَ من الله والتمكينَ في الأرض إذا أقامَت العدلَ، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيميةَ -رحمه الله-: "إنَّ الله يقيم الدولةَ العادلة وإن كانَت كافرة، ولا يقيمُ الدولة الظالمةَ وإن كانت مسلمة".
أيّها المسلمون: العدل مأمورٌ به في كلّ الأحوال، والظلم عاقِبَته وخيمةٌ في الدنيا والآخرة؛ ومَن ظلم قيدَ شبر طُوِّقهُ يومَ القيامة من سبعِ أرَضين، ومن ظلم غيرَه فإنّ القصاص منه مُؤلم، والله -تعالى- يملِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِته، ولن تضيعَ المظالم حتى بين البهائِمِ. في صحيح مسلم أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتؤدُّنّ الحقوقَ إلى أهلها يومَ القيامة حتى يُقادَ للشاة الجلحاءِ من الشاة القَرناء"، وفي صحيح البخاريّ أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن كانت عنده مَظلمةٌ لأخيه مِن عِرضهِ أو شيءٍ منه فليتحلّله منه اليومَ من قبل أن لا يكونَ دينار ولا درهمٌ، إن كان له عملٌ صالح أخِذَ منه بقدرِ مظلمته، وإن لم يكن له حَسنات أخِذَ من سيّئات صاحبه فحمِلَ عليه".
ومهما يكنِ المظلوم ضعيفًا فإنَّ الله ناصره، وفي الحديثِ أنّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- قال: "ودعوةُ المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، ويفتَح لها أبوابَ السماء، ويقول الربُّ: وعِزّتي وجلالي لأنصرَنَّك ولو بعد حين". رواه الترمذي، (وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ) [إبراهيم:43]، وفي سورة هود: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود:102].
أفلا يخافُ الظالم ربَّ العالمين؟! أوَلا يخشى دعوةَ المظلومين؟! وقل للَّذين يرمون الناسَ بالتُّهَم ويرجمون بالظنونِ ويؤذون المؤمنين في أعراضِهِم: إنَّ دعوةَ المظلوم مُجابة، تذكَّروا يومَ العرض على الله: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب:58].
عبادَ الله: إنَّ مقامَ العدلِ في الإسلامِ عظيم، وثوابُه عند الله جزيل؛ فالعادِل مستجَابُ الدعوة، والله يحِبّ المقسطين، وصاحِبُ العدل في ظلِّ الرحمن يومَ القيامة، والحاكم مأمور بالعدل (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ) [النساء:58]، وسواء أكان الحكمُ قضاءً أم قِسمةً أم حكمًا على أفرادٍ أو جماعَات أم تَصنيفًا أم جَرحًا وتعديلاً؛ كلُّ ذلك يجب أن يكونَ بالعدل.
كما يجِب على الوالد أن يعدِل بين أولاده في العطايا والمعامَلة؛ فلا يفاضِلُ بينهم بالهِبات، وقِصّة النعمانِ بن بشير -رضيَ الله عنه- مشهورة في هذا، وقد ردّ النبيّ -صلى الله عليه وسلم- عطيّتَه حين لم تحصُلِ المساواةُ بين كلِّ الأولاد، وقال: "اتَّقوا الله واعدِلوا بين أولادكم".
كما يجب على الزوجِ أن يعدلَ بين أزواجه، وأن يساوِيَ بينهنّ في المبيت والنّفقَة والحقوق الزوجية، قال -تعالى-: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النساء:3]، و"مَن كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يومَ القيامة وشِقّه مائل". كما ثبت في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم-.
والعدلُ مطلوبٌ في كلِّ شيء حتى في القول والكلام، قال -سبحانه-: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا) [الأنعام:152]. والعدلُ في الكلام من أشَقّ الأمور على النفس، ومن ربَّى نفسَه عليه فاز وأفلَح، وإذا رُزِق العدل وحبَّ القسطِ علَّمه الله الحقَّ، وصارَ رحيمًا بالخلق متَّبعًا للرسول مجتَنِبًا مسالِكَ الزّيغ والأهواء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:135].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيهِ منَ الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله -تعالى- لي ولكم ولسائِر المسلمين والمسلِمات من كلّ ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه؛ إنّه هو الغفور الرحيم.
الحمدُ لله ربِّ العالمين، ولا عدوانَ إلاّ على الظالمين، وأشهَد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإنَّ العدلَ يحتاج إلى صدقٍ مع النَّفس ومراقبةٍ لله -عزّ وجلّ- ومجانبةٍ للهوى (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ) [ص:26].
وكما أنَّ العدلَ مطلوب بين الأولاد والزوجات فكذلك هو مطلوب بين الخدَمِ والعمَّال والمرؤوسِين، والمسلِم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يسلمه.
فاتقوا الله -أيّها المسلمون- وراقِبوا اللهَ فيما تأتون وما تَذَرون، واعلموا أنّكم غدًا بين يدَيِ الله موقوفون، وبأعمالِكم مجزيّون.
ألا وصلّوا وسلِّموا على الهادِي البشير والسراج المنير رسول الله محمد بن عبد الله، فقد أمَركم الله -تعالى- بقوله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].
اللهمّ صلّ وسلّم وبارك على عبدك ورسولك محمد صاحِب الوجه الأنوَر والجبين الأزهر، وصلِّ اللّهمّ على الآل الأطهار والصحابة الأخيار، وعلى من تبعهم بإحسان ما تعاقَبَ اللّيل والنهار.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين...
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي