أهمية التوبة قبل رمضان

خالد بن عبدالله الشايع

عناصر الخطبة

  1. موسم عظيم وشهر فضيل
  2. الغافل محروم من الخير
  3. أهمية التوبة قبل مواسم الخير
  4. وجوب تطهير القلب من أدران الذنوب والمعاصي
  5. شروط التوبة النصوح
  6. أهمية التهيؤ لمواسم الطاعات والقربات.

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)﴾ [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها الناس: لا يزال الله ينعم على عباده بمواسم خير، تتضاعف فيها حسناتهم، وتغفر لهم زلاتهم، ويجددوا نشاطهم للعبادة، فتسموا نفوسهم للخير، وتتباعد عن الشر.

عباد الله: نحن بعد أيام نستقبل شهر رمضان، شهر الصوم، شهر الغفران، شهر القرآن، شهر الصدقة، شهر التوبة، شهر فيه كل خير وكل رحمة وكل مغفرة، فكيف نستقبل هذا الشهر العظيم؟

إن هذه المواسم لها مزية عظيمة، لا ينبغي أن تمر على العبد وهو غافل، فالغافل محروم من الخير، ولا ينبغي أن يدخل فيها العبد وقلبه مليء بالذنوب والمعاصي، لا بد للعبد من تصفية نفسه وتخليصها من أدرانها، لا بد أن يطهِّر نفسه قبل الدخول في هذا الموسم العظيم، ولقد كان لسلفنا الصالح السبقُ في ذلك فقد نقل عنهم الكثير في تهذيب النفس قبل الدخول في مواسم الخير، وذلك أن القرآن والسنة ربياهم على ذلك.

عباد الله: إن التوبة إلى الله -جل وعلا- من جميع الذنوب صغيرها وكبيرها، ظاهرها وباطنها، واجبة على كل مسلم في كل حين كما قال سبحانه: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور: 31].

ولكن تجديدها قبل مواسم الخير له أهمية خاصة، إذ التوبة من أسباب تهيئة القلب، كما قيل (التخلية قبل التحلية)، فتخلية القلب وتطهيرُه من ذنوب الشهوات والشبهات، تجعل القلب مستعدًّا ومهيأً للقيام في تلك المواسم بما أوجب الله، وبالتزود من الخير، والمسابقةِ مع المتسابقين، بل وتجده مقبلاً على ربه -جل وعلا-، وذلك لزوال حُجُب الذنوب عنه، كما يقول ابن قدامة -رحمه الله- في كتابه منهاج القاصدين: "إن الذنوب حجاب عن المحبوب، والانصراف عما يبعد عن المحبوب واجب". اهـ.

ومن تأمل حال التائب قبل موسم الخير تجده إذا دخل الموسم له قلب مستعد ومهيأ لما يوضع فيه من التحلية والخير، قال ابن القيم -رحمه الله- في كتاب الفوائد: "قبول المحل لما يوضع فيه مشروطٌ بتفريغه من ضده، وهذا كما أنه يكون في الذوات والأعيان، فكذلك هو في الاعتقادات والإرادات.. فلذلك القلب المشغول بمحبة غير الله وإرادته والشوق إليه والأنس به، لا يمكن شغله بمحبة الله وإرادته وحبه والشوق إلى لقائه، إلا بتفريغه من تعلقه بغيره". اهـ.

ولهذا كانت التوبة والتخلي من كل ما يصدّ القلب عن الطاعة مطلبًا مهمًّا لكل لبيب يريد النجاة لنفسه، لينعم بالذكر والصلاة، ويعيش مع النفحات الربانية والمعاني الإيمانية.

أيها المؤمنون: إن التوبة النصوح قبل مواسم الخير، من أسباب تطهير القلب من أدران الذنوب والمعاصي، وتهيئتِه للسير في مدارج السالكين، والرقي في درجات المقربين، إذ المعاصي والذنوب حُجُب وأقفال على القلب تمنعه وتثبطه عن السير إلى الله -جل وعلا-، ومتى ما تخفَّف العبد من أثقاله، وزالت الحُجُب عن قلبه، سمت روحه وعلت نفسه، فحينها يجد نشاطًا وإقبالاً على الطاعة في رمضان، فتجده يسابق في الخيرات بنفس مقبلة تواقة للخير، شعارها ﴿وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى﴾ [طه: 84].

وأما من لم يتخلص من ذنوبه، فإنه يكون أسيرًا لها، فتكون حجبًا على قلبه أو تقصر به عن القيام بالخير في رمضان، ولهذا تجد أمثال هؤلاء -عافانا الله وإياكم- من حالهم لديهم ضعف في الشعور بلذة العبادة والأنس بالطاعة والراحة في القلب.

أيها الناس: يجدر بنا أن نذكر شروط التوبة النصوح ليشمر العبد لها، وشروطها ثلاثة: الشرط الأول: الندم على الماضي، بكونه يحزن ويندم على ما مضى منه من المعصية.

الشرط الثاني: إقلاعُه منها وتركه لها خوفاً من الله وتعظيماً لله.

الشرط الثالث: العزم الصادق ألا يعود فيها.

وبيان ذلك أنه لا بد من الندم على الماضي والترك لها، بكونه يقلع منها ويتركها، فإن كان زنا ترك الزنا، أو سرقةً تركها، أو عقوقًا ترك العقوق، أو قطيعة رحم ترك قطيعة الرحم، أو معاملةً ربوية ترك المعاملة الربوية، وهكذا.

والثالث أن يعزم عازماً صادقاً ألا يعود إلى المعصية التي تاب منها، فهذه الشروط الثلاثة لا بد منها إذا تمت وتوافرت صحت التوبة، ومحى الله عنه الذنب، إلا إذا كان الذنب يتعلق بأحد من المخلوقين، فلا بد من شرط رابع، وهو أن يتحللهم أو يعطيهم حقوقهم، إذا كان مثلاً سرق من إنسان مالاً، لا تتم توبته حتى يرد المال على صاحبه، أو يتحلله منه، أو ضربه أو قطع يده، أو ما أشبه ذلك لا بد من التحلل، أو يعطيه القصاص يقتص منه.

عباد الله: ما أسهل التوبة فلا يثقلها الشيطان على أحدنا فيسوِّف حتى يفجأه الموت، اللهم وفِّقنا لاغتنام الخيرات والمسابقة للطاعات.. أقول قولي…..

الخطبة الثانية:

أما بعد فيا أيها الناس: إن القلب في هذه الحياة تخالطه الذنوب والمعاصي، فيغفل كثيرًا، وإذا مرت به مواسم الخير صقلته، وهيئته لكل خير، وكلما دخل العبد تلك المواسمَ وقد هيَّأ نفسه لها كلما كان من الفائزين الرابحين.

ولعل البعض يقول قد بقي على رمضان عدة أيام، فلماذا الحديث من الآن، فأقول: إن ترويض النفس يحتاج لوقت، فالنفس تنفر من إلزامها طريق الخير، لما فيه من ترك حظوظها، فلنبدأ من الآن حتى تلزم الطريق وتعشق الطاعة.

معاشر المؤمنين: إن التهيؤ والتأهب قبل العبادات أمر مطلوب شرعًا، سواءً كان حسيًّا كالوضوء للصلاة أو السحور للصوم، أو الاحرام للحج والعمرة، وغيرها، أو معنويًّا ككثرة الذكر والاستغفار والتوبة واستحضار النية والإخلاص وغيرها.

ولقد كان التأهب والتهيؤ دأبَ أولياء الله المتقين، بل صفوته المخلصين، ومن الأمثلة على ذلك: عندما أراد الله أن ينزل على موسى التوراة بعد إهلاكِ فرعون وقومِه، وقَّت له ثلاثين ليلة، ثم أتمها -جل وعلا- بعشر ﴿وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [الأعراف: 142]، وقد ذكر المفسرون أن موسى -عليه السلام- كان يصوم تلك الأيام كلها ويتعبد فيها، تهيؤًا لوعد الله.

ولقد شق صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- في صغره وهو في بني سعد، فاستخرج جبريل قلبه، واستخرج منه علقة سوداء، وقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب، بماء زمزم، قال أنس: فلقد كنت أرى أثر المخيط في صدره، والحديث في صحيح مسلم.

ثم شق صدره مرة أخرى ليلة الإسراء والمعراج، وغسله جبريل بماء زمزم، وجاء بطست ممتلئ حكمة وإيمانًا فأفرغه في صدره، والحديث في الصحيحين. وهذا ليتهيأ لمناجاة الله في ملكوت السموات.

وقد أخرج البخاري في صحيحه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن ينبَّأ حُبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء يتعبد الليالي ذوات العدد حتى فجأة الحق. وهذا من إرادة الله له الخير، وما كان -صلى الله عليه وسلم- يرجو أن يُوحَى إليه شيء، ولكن رحمة من ربك.

ومن تهيؤ النبي -صلى الله عليه وسلم- لرمضان أنه كان يصوم أغلب شهر شعبان؛ كما في الصحيحين من حديث عائشة قالت: "ما رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- استكمل صيام شهر إلا رمضان،  وما رأيته أكثر صيامًا منه في شعبان".

قال ابن رجب -رحمه الله- في كتابه لطائف المعارف: "وقد قيل في صوم شعبان معنى آخر، وهو أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان، لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذّته، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط ليحصل له التأهب لتلقي رمضان، وترتاض النفوس بذلك على طاعة الرحمن" .اهـ.

أيها المؤمنون: لعلنا لا ندرك رمضان هذا، فلنستقبله بالنية الصالحة باستغلاله، والمسابقة فيه، فلربما كانت النية خيرًا من العمل، ولعلنا إن أدركناه ألا ندركه مرة أخرى، فقد كان بيننا أناس كانوا يأملون أن يصوموا معنا هذا الشهر فحال الموت بينهم وبين تلك الأمنية.

فاللهم اغفر لهم وضاعف لهم حسناتهم.

اللهم بلغنا رمضان، واجعلنا فيه من الفائزين المثابرين….


تم تحميل المحتوى من موقع