إن من المظاهر السيئة اليوم ما انتشر عند بعض الناس من الفخر بالأنساب، والتعصب للقبائل، وازدراء الناس وانتقاصهم، يقولون: هذا قبيلي، وهذا غير قبيلي، وبعضهم يقول بوقاحة: هذا خط 110، وهذا خط 220، هؤلاء يتزوجون من هؤلاء، وهؤلاء لا يتزوجون من هؤلاء؛ والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ..
أما بعد: أتحدث إليكم اليوم عن مرض اجتماعيٍّ خبيث، وفيروسٍ وبائي خطير, إذا كنت تريد أن تعرف أعراض هذا المرض، فاستمع: يا عربي، يا سعودي، يا خليجي، يا مصري، يا سوداني، يا سوري، يا هندي، يا باكستاني، يا بنغالي، يا نجدي، يا جنوبي، يا جيزاني، يا حجازي، يا قبيلي، يا خضيري, وغيرُها من الألفاظ التي لا تقال على سبيل التعريف والتمييز فذاك جائز، ولا تقال على سبيل حب الوطن والقبيلة والولاء لهما فذاك سائغ، بل تقال -وللأسف- على سبيل الفخر والعجب، أو تقال على سبيل السخرية بالآخرين، وازدرائهم وتحقيرهم.
إنها العصبية، أو القبلية، أو العنصرية، أو الطبقية، أو الإقليمية، أو النعرة الجاهلية.
عباد الله: يا بني آدم, لقد جاء ديننا العظيم فقرر الضوابط الاجتماعية، وقعّد القواعد لحياة البشرية وعلى رأسها قاعدة: لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى, قررها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطُب في الجمع الغفير في حجة الوداع فقال: "يا أيها الناس، إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمرَ على أسودَ، ولا لأسودَ على أحمر، إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ألا هل بلغت؟" قالوا بلى يا رسول الله قال: "فليبلغ الشاهدُ الغائبَ" رواه أحمد عن جابر بسند صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله -عز وجل- قد أذهب عنكم عُبِّيّة الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرَهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونُن أهونَ على الله من الجِعلان التي تدفع بأنفها النَّتْن" رواه أبو داود بسند حسن.
ها هو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه عربي من قبيلة غفار، يتكلم في نفر من الصحابة، فيقاطعه بلال رضي الله عنه، بلال الحبشي، العبد المملوك، الذي أصبح سيدًا من سادات المسلمين، بلال الذي تزوج أخت عبد الرحمن بن عوف (هالة) النسيبة الشريفة -رضي الله عنها-، والشرف لعبد الرحمن بن عوف ، حتى قال عمر : وددت أني زوجت بلالاً إحدى بناتي.
قاطع بلال أبا ذر في الحديث، فنزغ الشيطان بينه وبين أخيه، فقال أبو ذر: تقاطعني يا ابن السوداء!, قال بلال: والله لأرفعنك إلى رسول الله -عليه الصلاة والسلام-, فلما أخبره، غضب عليه الصلاة والسلام، وامتقع وجهه، وتأثر كثيرًا، ودخل أبو ذر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خائف، دخل فسلم، قال: فسلمت عليه، فوالله ما علمت هل رد علي السلام أم لا من الغضب، والتفت إليه صلى الله عليه وسلم مؤنبًا ومؤدبًا، فقال: "أعيرته بأمه؟ إنك امروءٌ فيك جاهلية" أي ما زال فيك خصلة من خصال الجاهلية؛ كما جاء في صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة".
ندم أبو ذر وبكى، وقال: يا رسول الله، أعلى كبر سني؟ أي أفي جاهلية على كبر سني؟ قال: نعم, خرج أبو ذر من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ضاقت به الدنيا، فلقيه بلال، فوضع أبو ذر رأسه على التراب، وقال: لا أرفع رأسي حتى تطأه بقدمك؛ أنت الكريم، فبكى بلال واحتضن أبا ذر فوق التراب، وقال: والله، لا أطؤك برجلي.
ولقد أثَّر هذا الموقف على أبي ذر رضي الله عنه طيلة عمره، فكان بعدها لا يأكل إلا مع خادمه، ولا يلبس إلا ما يلبسه خادمه, في صحيح البخاري أن ابن معرور لقي أبا ذر بالربذة عليه حلة وعلى غلامه نفس الحلة التي يرتديها، فلما سأله عن ذلك قص عليه قصته مع بلال فقال: إنى سببت رجلاً فعيرته بأمه.
هكذا كان تأديبهم لأنفسهم، ووقوفهم عند أوامر الله تعالى, وهكذا كان منهجه صلى الله عليه وسلم في تربية أصحابه وأمته، كأنه يقول: أنما بعثني الله لأهدم الجاهلية، وأنسف الطبقية، وأحطم العنصرية، فلا دم ولا لغة ولا لون، بل الإيمان والتقوى، فبلال الحبشي يدخل الجنة، وأبو جهل سيد قريش يدخل النار، وصهيب الرومي المولى يدخل الجنة، وفرعون في النار، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
وفي البخاري ، يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة من الأنصار ينادي: ياللأنصار، فيرد عليه أحد المهاجرين: ياللمهاجرين فيقول صلى الله عليه وسلم: "ما بالُ دعوى جاهلية؟" قالوا: يا رسول الله كسَعَ رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال: "دعوها فإنها منتنة".
نعم يا عباد الله، إن دعوى القومية والعصبية منتنة, فدعوها كما أمركم نبيكم صلى الله عليه وسلم، وعليكم بأخوة الإيمان، ورابطة العقيدة التي تستعلي على جميع الروابط والقيم.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ...
عباد الله: لقد أكَّد الإسلام على أن الوشيجة التي يجب أن يتجمع عليها المسلمون هي وشيجة العقيدة ورابطة الدين.
وإن من المظاهر السيئة اليوم ما انتشر عند بعض الناس من الفخر بالأنساب، والتعصب للقبائل، وازدراء الناس وانتقاصهم، يقولون: هذا قبيلي، وهذا غير قبيلي، وبعضهم يقول بوقاحة: هذا خط 110، وهذا خط 220، هؤلاء يتزوجون من هؤلاء، وهؤلاء لا يتزوجون من هؤلاء؛ والله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات:13], ويقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1].
وإن من المؤسف حقًا أن ترى بعض الناس يفتخرون بمزايا آبائهم وأجدادهم، وليتهم يقتدون بهم، بل تجد أنهم بعيدون عنهم كل البعد, وليس لهم من الاقتداء والتأسي بهم سوى الدعاوى الفارغة، وصدق القائل:
إذا افتخرت بآباءٍ لهم شرفً *** قلنا صدقت ولكن بئس ما ولدوا
عباد الله: إننا إن كنا ولا بد مفتخرين ففخرنا بالإسلام، وشرفنا بطاعة الله، وعزُّنا باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الأول:
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه *** إذا افتخروا بقيسٍ أو تميمِ
هذا هو الأساس، وبعد ذلك للوطن حق، وللقبيلة شرف، وللقرابة قدر، دون عجب أو اعتداد، أو إزراء بالعباد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي