ذكرى الإسراء والمعراج

يوسف بن جمعة سلامة

عناصر الخطبة

  1. تتابع الأحداث على النبي -صلى الله عليه وسلم-
  2. بعض الفوائد والحكم من حادثة الإسراء والمعراج
  3. مكانة القدس التاريخية
  4. الارتباط الوثيق بين الأقصى والعقيدة الإسلامية
  5. استراتيجية اليهود في تغيير الملامح التاريخية والجغرافية للقدس
  6. الصلة العميقة بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام
  7. واجب الشعب الفلسطيني نحو القدس
  8. واجب الأمة الإسلامية نحو القدس

الخطبة الأولى:

أيها المسلمون: يقول الله -تعالى-: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1].

رحلة الإسراء والمعراج هي ثمار صبر السنين، وفيض عطاء الله رب العالمين، لرسوله الكريم سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، وذلك مصداقاً لقول الله -عز وجل-: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر: 10].

ففي عام واحد تتابعت على النبي -صلى الله عليه وسلم- الخطوب، وأحاطت به المحن، حيث جاءت حادثة الإسراء والمعراج بعد وفاة زوج الرسول خديجة -رضي الله عنها- التي كانت تروح عن قلبه الهموم والأحزان، كما وإن القدر أبى إلا أن يكمل قضاءه، فمات عمه أبو طالب في نفس العام الذي عرف بعام الحزن، وأصبح الرسول -عليه السلام- بعد موتهما في مكة وحيداً، لا يجد أنيساً يسليه داخل البيت، ولا نصيراً يحميه خارجه، وبعد الإيذاء الشديد من المشركين في مكة المكرمة توجه -عليه الصلاة والسلام- إلى الطائف، لعله يجد عند أهلها العون والسلوى، لكن الكفر ملة واحدة فقد خذله أهل الطائف، بل إنهم أغروا به سفهاءهم وصبيانهم، يسفهونه ويقذفونه بالحجارة، حتى دميت قدماه، لكنه صلى الله عليه وسلم واصل مسيرته صامداً كالطود الأشم، لن تهزه عواصف هوجاء، ولا رياح عاتية، متمسكاً بحبل الله، متضرعاً إليه، مُنهياً تضرعه إلى ربه بقوله عليه الصلاة والسلام: "إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي".

أيها المسلمون: وهكذا جاء ت حادثة الإسراء والمعراج في هذه الأوقات العصيبة؛ لتثبت قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتشد من أزره، وهي جائزة ما بعدها جائزة! اختص الله -سبحانه وتعالى- بها محمدا -صلى الله عليه وسلم-، فقد كانت هذه الحادثة امتحاناً لقوة إيمان المسلمين، ومدى تمسكهم بالدعوة وصاحبها، حيث ارتد كثير من ضعاف الإيمان، حينما أخبرهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بذلك، لكن المؤمنين الصادقين الصدوقين ثبتوا على إيمانهم، وازدادوا يقيناً على يقينهم.

وهكذا كانت رحلة الإسراء والمعراج تكريماً من الله لرسوله الكريم؛ كي يخفف عنه ما قاسى من آلام، وأنَّ الله مع عباده المتّقين.

أيها المسلمون: لقد كان الإسراء إلى بيت المقدس دون غيره من الأماكن، لما شرفه الله -تعالى- به من بعثات الأنبياء السابقين، وزيارات الرسل جميعاً له، ولإقامة أكثرهم حوله، وصلاتهم جميعاً فيه، كما أن الله -عز وجل- قد بارك البلاد التي حوله بنصِّ الآية القرآنية: "الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ".

فالمسجد الأقصى والكعبة شقيقان، حيث يقول عليه السلام: "لا تشدّ الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى".

فالقدس لها أهمية في تاريخ المسلمين، حيث رغّب الله السكنى فيها لما ورد في الحديث القدسي: "قال الله -عز وجل- لبيت المقدس: أنت جنتّي وقدسي، وصفوتي من بلادي، من سكنك فبرحمة مني، ومن خرج منك فبسخط مني عليه".

والله -عز وجل- اختارها مسرى لرسوله الكريم، كما اختارها من قبل مستقر الخالدين من إخوانه الرسل الكرام، ففيها قبور الأنبياء والصالحين، كما أنها مهد النبوات ومهبط الرسالات.

فمن هنا نعلم سبب اختيار الله -سبحانه وتعالى- لبيت المقدس، ليكون توأماً خالداً لمكة، فهو قبلة المسلمين الأولى.

وهو أرض المحشر والمنشر؛ كما جاء في الحديث عن ميمونة بنت سعد قالت: "يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس؟ فقال: "أرض المحشر والمنشر".

كما وأنَّ الرسول الكريم يأمرنا بالبقاء في بيت المقدس حين الابتلاء، ونزول المصائب؛ لما ورد في الحديث الشريف: أنَّ أحد الصحابة -رضوان الله عليهم- سأل الرسول عليه الصلاة والسلام قائلاً: "يا رسول الله أين تأمرنا إن ابتلينا بالبقاء بعدك؟" فقال عليه السلام: "عليك ببيت المقدس، فلعلَّه ينشأ لك بها ذرية يغدون إلى ذلك المسجد ويروحون".

ومن المعلوم أن المسجد الأقصى المبارك هو ثاني المساجد على وجه الأرض بعد المسجد الحرام؛ لما ورد في الحديث عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن أول مسجد وضع على الأرض؟ فقال: "المسجد الحرام" فقلت: ثم أيّ؟ قال: "المسجد الأقصى" وقلت: وكم بينهما؟ قال: "أربعون عاماً".

وللمسجد الأقصى ارتباط وثيق بعقيدتنا، وله ذكريات عزيزة وغالية على الإسلام والمسلمين، فهو مقر للعبادة، ومهبط للوحي، ومنتهى رحلة الإسراء، وبدء رحلة المعراج.

أيها المسلمون: إن مدينة القدس تتعرض في هذه الأيام لهجمة شرسة على أيدي المحتلين، فهم يعملون ليل نهار على تهويدها، وتغيير المعالم الإسلامية والمسيحية فيها، فبعد أن عزلوها عن محيطها الفلسطيني من خلال جدار الفصل العنصري، يقومون بهدم مئات المنازل للسكان الفلسطينيين بحجة إعادة تنظيم الأحياء العربية في المدينة المقدسة، حيث إنهم يقومون بهدم المنازل في حي البستان في سلوان، وشعفاط ومنطقة رأس العامود، وحي الشيخ جراح، وغير ذلك.

كما ويقومون ببناء آلاف الوحدات السكنية في مدينة القدس من أجل تهويد المدينة المقدسة بشكل كامل ونهائي.

كما ويعملون على إقامة الحدائق التلمودية في محاولة لتزييف التاريخ والحضارة.

وكذلك محاولة الاستيلاء على البيوت المحيطة بالمسجد الأقصى المبارك، وطرد سكانها الفلسطينيين منها، وما مصادرة هويات المقدسيين، ومحاولات طرد نواب القدس عنا ببعيد.

كما قامت سلطات الاحتلال الصهيونية بالاعتداء على مقبرة مأمن الله، حيث قامت جرافات الاحتلال الإسرائيلي بهدم أكثر من ثلاثمائة وخمسين قبراً، وتحطيم شواهد عشرات القبور الأخرى في المقبرة، وجمع هياكلها العظمية، ودفنها في قبر جماعي.

وذلك من أجل إقامة ما يسمى بـ "متحف التسامح" على أرض المقبرة، حيث تم رصد أكثر من مائتي مليون دولار لإقامة هذا المتحف.

فهذا هو واقع المدينة المقدسة اليوم -أيها المسلمون-: فماذا أنتم فاعلون؟!

ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوز المستغفرين، استغفروا الله….

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون: إن المسجد الأقصى المبارك يتعرض في هذه الأيام لهجمة شرسة، فمن حفريات أسفله، إلى إقامة مترو للأنفاق أسفله أيضا، إلى بناء كنس بجواره، حيث تم بناء وافتتاح كنيس الخراب بجوار المسجد الأقصى المبارك في منتصف شهر مارس الماضي، ليكون مقدمة لهدم الأقصى لإقامة ما يُسمّى بالهيكل المزعوم بدلاً منه -لا قدر الله-.

وكذلك التخطيط لبناء أكبر كنيس يكون ملاصقاً للمسجد الأقصى المبارك، إلى منع سدنته، وحراسه وأصحابه من الوصول إليه.

ناهيك عن الاقتحامات المتكررة للجماعات المتطرفة الإسرائيلية، بصورة دائمة إلى باحات المسجد الأقصى المبارك تحت حراسة الجيش الإسرائيلي، وذلك لتأدية طقوسهم، وشعائرهم التلمودية في ساحات المسجد، والعالم وللأسف يغلق عينيه، ويصم أذنيه عما يجري في القدس.

إننا نحذر من النتائج المترتبة على ما تقوم به سلطات الاحتلال الإسرائيلي من اعتداءات ضد المسجد الأقصى المبارك، والمقدسات والأماكن الأثرية والتاريخية، والمقابر الإسلامية في مدينة القدس بصفة خاصة، وفي فلسطين بصفة عامة.

كما نحمل الحكومة الإسرائيلية مسؤولية هذا العمل؛ لأن ذلك سيؤدي إلى عواقب وخيمة، لا يستطيع أحد التنبؤ بنتائجها، فالمساس بالمقدسات الإسلامية هو مساس بعقيدة جميع المسلمين في العالم، ويتنافى والشرائع السماوية، وكل القوانين والمواثيق والأعراف الدولية.

أيها المسلمون: إن المسجد الأقصى المبارك كان قبلة المسلمين الأولى، حيث استقبله الرسول -صلى الله عليه وسلم-: والمسلمون نحو ستة عشر شهراً من الزمان.

ومن هنا تتجلى حكمة ربط المسجد الأقصى بالمسجد الحرام في الآية، وأن ذلك يدل دلالة قاطعة على وحدة المقدسات الإسلامية، والبلاد الإسلامية، والأمة الإسلامية، وأن الخطر الذي يهدد المسجد الأقصى في القدس يهدد المسجد الحرام في مكة المكرمة، والمسجد النبوي في المدينة المنورة.

وعلى الرغم مما يتعرض له المسجد الأقصى المبارك اليوم من مؤامرات عديدة من أجل هدمه وإقامة ما يسمى بالهيكل المزعوم بدلاً منه، إلا أن أملنا في الله كبير، فالإسلام حرم اليأس، وأوجد البديل، وهو الأمل، وحرم التشاؤم، وأوجد البديل، وهو التفاؤل.

ولقد لفظت القدس وفلسطين المحتلين عبر التاريخ، وستلفظ هذا المحتل -إن شاء الله تعالى-.

من كل هذه المعاني نفهم ونستنتج: أن الأمل يأتي بعد الألم، وأن المحن تسبق المنح، وأن الضيق يأتي بعده الفرج، وأن مع العسر يسراً.

وقد علمنا القرآن الكريم هذه المفاهيم ليؤصل فينا عدم اليأس والقنوط، والاستبشار دائماً، والثقة في نصر الله لعباده المؤمنين، مهما ضاقت بهم السبل، وتقطعت بهم الأسباب، فهذه سنة الله في خلقه، ليمحص المؤمنين ويمحق الكافرين، قال الله -تعالى-: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ﴾ [البقرة: 214].

أيها المسلمون: وبهذه المناسبة فإننا نناشد أبناء شعبنا الكريم، أن يجمعوا شملهم، ويوحدوا كلمتهم، ويرصوا صفوفهم من أجل المحافظة على الأقصى والمقدسات، والقدس وفلسطين.

كما يجب على المسلمين عامة، والعرب خاصة أن يوحدوا صفهم، وأن يحشدوا طاقاتهم لتحقيق ذلك، ففلسطين عربية إسلامية ما بقى في المسلمين نفس يتردد، والقدس مركز إسلامي عزيز مقدس يحافظ المسلمون عليه حفاظهم على إيمانهم وعقيدتهم؛ للحديث الشريف: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تزال طائفةٌ من أمتي على الدينِ ظاهرين لعدوُّهم قاهرين، لا يضرُّهم مَنْ خالفهم، إِلاّ ما أصابَهُم من لأْوَاء، حتى يأتيهم أمرُ اللهِ وهم كذلك، قالوا: وأين هم؟ قال: ببيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدس".

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


تم تحميل المحتوى من موقع