إن المتأمل بعمق في معركة مؤتة يعلم علم اليقين أن الإيمان بالله والاستبسال في سبيل الله وطلب النصر من الله هو الذي يصنع الأمجاد، ويقلب الموازين، ويعكس المفاهيم، ويكسر القيود والأغلال، وإلا فإن ثلاثة آلاف جندي من المسلمين مقابل مائتي ألف جندي من الكافرين، بمعنى أن الواحد منهم يقابل سبعين، يعد مغامرة حربية وضربًا من ضروب الانتحار تعاقب عليه القوانين العسكرية ..
كان الحديث في الجمعة الماضية عن غزوة مؤتة التي وقعت في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- بين المسلمين وبين الرومان -أعظم دولة في ذلك الزمان–، ونريد اليوم أن نقف مع بعض الدروس والعبر التي نستفيدها من هذه المعركة المباركة.
إن المتأمل بعمق في معركة مؤتة يعلم علم اليقين أن الإيمان بالله والاستبسال في سبيل الله وطلب النصر من الله هو الذي يصنع الأمجاد، ويقلب الموازين، ويعكس المفاهيم، ويكسر القيود والأغلال، وإلا فإن ثلاثة آلاف جندي من المسلمين مقابل مائتي ألف جندي من الكافرين، بمعنى أن الواحد منهم يقابل سبعين، يعد مغامرة حربية وضربًا من ضروب الانتحار تعاقب عليه القوانين العسكرية، إنه إقدام لم يشهد التاريخ مثله، ولم يرَ العالم شبهه، حتى إن الرومان ومن عاونهم من مرتزقة القبائل لم يتوقعوا هذا المستوى من الثبات والصمود والشراسة والضراوة التي رأوها في المسلمين، فقد أصعقوهم بالهجمات، وأثخنوا فيهم الجراح، وكبدوهم خسائر كبيرة في الأموال والأرواح، ولقنوهم درسًا لم ينسوه، وأبلوا فيهم بلاءً حسنًا، فعرفوا أن الذي صنع هذه الشجاعة في قلوب المسلمين هو إيمانهم بالله، واعتمادهم على الله، وثقتهم في نصر الله، فكانت هذه المعركة تمهيدًا لهم للدخول في الإسلام؛ لما رأوه في أصحابه من القوة والثبات والعبادة ورباطة الجأش، ولا عجب فالإيمان يصنع العجائب، ويرفع الهمم، ويدفع القلوب دفعًا للاشتياق للقاء الله؛ يقول الله -سبحانه وتعالى-: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ) [آل عمران: 13]، (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) [محمد: 4-7].
إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يؤدب هؤلاء الغادرين الذين غدروا بالمبعوث الخاص الذي حمّله الرسول -صلى الله عليه وسلم- رسالته إلى ملك بصرى، فقاموا باعتقاله وتقييده وضرب عنقه، فأراد -صلى الله عليه وسلم- أن يؤدبهم ليعلمهم أن لهذا الدين رجالاً يذودون عنه وينتصرون له ولرجاله، وليعلم أولئك المعتدون أن للإسلام أبطالاً لا يتركون دماء أبنائه تضيع هدرًا وتذهب سدى دون مساءلة أو عقاب، فلما تفاجأ المسلمون بعدد وعدة عدوهم قرروا مواجهته مهما كانت النتائج؛ لأنهم في النهاية إما منتصرون وإما شهداء، وكلا الأمرين بالنسبة لهم يمثل فوزًا ونجاحًا، أما التراجع دون لقاء العدو فليس من شيم الأبطال، ولا من أخلاق الرجال؛ إذ لا مجال للتراجع عند طلاب الجنان.
سأحمل روحي على راحتي *** وألقي بها في مهاوي الردى
فإمـا حيـاة تسر الصديق *** وإمـا ممات يغيظ العدى
يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال: 45، 46].
عباد الله: من الفوائد التي نستفيدها من هذه المعركة أن هذه الأمة أمة حية، أمة ولاَّدة، أمة لا تموت.
لقد عيّن النبي -صلى الله عليه وسلم- في هذه المعركة ثلاثة أمراء لحمل الراية وقيادة المعركة، فلما قتل الأمراء الثلاثة الذين عينهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم تعدم الأمة من قائد جديد يقودها؛ لأن هذه الأمة لها وجودها التاريخي الذي لا ينقطع، ولها حضورها المستمر إلى قيام الساعة، فإذا مات منا سيد قام سيد، وإذا ترجل فارس من الفرسان خلفه فارس آخر؛ لأن الله -سبحانه وتعالى- تكفل بنصرة هذا الدين، فمهما سعى أعداؤه في محاربته وقتل رجاله وطمس معالمه فإن نوره سيظهر، وأثره سيمتد، وانتشاره سيتوسع، بعز عزيز أو بذل ذليل؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لن يبرح هذا الدين قائمًا يقاتل عليه عِصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة". رواه مسلم.
ترجل القادة الثلاثة الذين عينهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فظهر من بعدهم قائد محنك ومحارب شهير وبطل مغوار وأسد مقدام وسيف من سيوف الله لم يمضِ على إسلامه في تلك المعركة سوى ثلاثة أشهر، ولكن الله -سبحانه وتعالى- أراده أن يكون بطلاً لتلك المعركة، وأسدًا لتلك الملحمة، ورافعًا لذلك اللواء الذي عقده رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
أخذ اللواء بعد مقتل الأمراء الثلاثة ثابت بن أرقم، ولكن ثابتًا -رضي الله عنه- يعرف قدر نفسه ويعرف حجمه العسكري فرفض أن يأخذ الراية؛ لأنه يعلم أنه لن يستطيع أن يعطيها حقها، فقال لخالد بن الوليد: "خذ اللواء يا أبا سليمان، فقال خالد: لا آخذه، أنت أحق به لأنك أقدم إسلامًا وأكبر سنًا، فقال ثابت: خذه يا خالد، فوالله ما أخذته إلا لك، فأنت أعلم مني بفنون القتال". فأخذه خالد بن الوليد -رضي الله عنه-.
إن هذه الأمة أمة ولود، إذا ذهب قائد من قادتها أو أمير من أمرائها ظهر بعده من يرفع الراية، وقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاء أبو بكر، ومات أبو بكر فجاء عمر، وقتل عمر فجاء عثمان، وقتل عثمان فجاء علي والحسن والحسين ومعاوية بن أبي سفيان وعمر بن عبد العزيز وهلم جرًّا، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ يقول الله -سبحانه وتعالى-: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21].
من الدروس العظيمة التي نستفيدها من هذه المعركة: أن على المسلم أن يرتبط بالله وبمنهج الله، ولا يجوز له أن يرتبط بالبشر والمخلوقين مهما علا قدرهم وارتفع فضلهم، وهذا نستفيده من عدم مشاركة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه في هذه المعركة؛ فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- جهّز الجيش ووزّع المهام واختار القادة ورتب الأمور، ولكنه -صلى الله عليه وسلم- لم يخرج بنفسه ولم يشارك الناس في هذه الحرب، وفي هذا درس عظيم للمسلمين بأن يوثّقوا صلتهم بالله رب العالمين، وأن تكون علاقتهم قوية به -سبحانه وتعالى- وبمنهجه القويم، وأن لا يتعلق المخلوق بمخلوق مثله؛ يقول الله -جل جلاله وعز كماله-: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].
هكذا كان -صلى الله عليه وسلم- يربي أصحابه على التعلق بالمنهج لا بالأشخاص، ويوصيهم بالتمسك بكتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، لا أن يتعلقوا بشخصه وذاته -عليه الصلاة والسلام-؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه واعظًا لهم وموصيًا إياهم: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد حبشي؛ فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ".
لمح لهم -صلى الله عليه وسلم- في هذه الموعظة البليغة بأنه مغادر هذه الدنيا ومفارق لهذه الحياة: "كأنها موعظة مودع"، ثم قال لهم -صلى الله عليه وسلم-: "فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ"، فعلقهم -صلى الله عليه وسلم- بمنهجه وسنته لا بشخصه وذاته؛ ولهذا قال أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- للناس في اليوم الذي مات فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أيها الناس: من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".
إن الإسلام لا يموت بموت أحد، ولا ينتهي بمقتل أحد، ولو كان الإسلام ينتهي بموت أحد لانتهى بموت رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو كان ينتهي بحملة أو حرب لانتهى بحروب الردة يوم ارتدت القبائل عن الإسلام ولم يثبت عليه إلا النزر اليسير، ولكن دين الله باقٍ، وشريعته منصورة، ونوره ظاهر، ولو كره المشركون، ولو كره الكافرون، ولو كره المنافقون: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 33].
فيجب على المسلم أن يعلق قلبه بالله -سبحانه وتعالى-، وأن يجعل أمله وثقته فيه -جل جلاله وعز كماله-، وأن يقطع تعلقه بالمخلوقين؛ لأن القلب إذا تعلق بالمخلوق ضعف وتقهقر؛ ولهذا لما أشيع في غزوة أحد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قُتل انهزم الناس وتقهقروا، فقال أنس بن النضر للناس: ما يجلسكم؟! قالوا: قُتل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: ما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي