أبتي، كم أنا محتاج للجلوس بين يديك والحديث معك! فأنا أعلم أن لديك الكثير والكثير لكي تدلني وترشدني، ولكن أرى حقي قليلا، وغيري أخذ الكثير. أبتي، كم تمنيت أن أكون أحد زملائك حتى تقبِّلني مثلما تقبلهم كلما التقيت بهم. أبتي، كم تمنيت أن تمسك بيدي وتأخذني معك المسجد، وكم تمنيت أن توصلني لمدرستي مثل أصحابي. أبتي، كم أنا محتاج لكي تسأل عني في مدرستي! وكلما فتح باب الفصل ظننته أنت، ولكن دون جدوى ..
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أحبتي في الله: عنوان هذه الخطبة: "الأب المربي! هل أنت معنا؟".
قال والده: يوماً من الأيام رأيتُه حائراً متردداً قلقاً، رأيته خائفاً، اقتربتُ منه، وضعت يدي على رأسه، انحنيت إليه، أجلسته بجانبي، رأيت في عينيه الشيء الكثير، سألته: ما لك يا بني؟ سقطت دمعتُه، توالت دمعات، تركته قليلاً، أعدت عليه السؤال مرة أخرى، ما لك يا بني؟ ما الذي جرى؟ ما الذي حدث؟ ما الذي أصابك؟.
عندها نظر ابني إليَّ، نطق قائلا: أعتذر إليك يا أبي بأن أفتح لك قلبي وأخبرك بما فيه، أبتي: كم أنا محتاج إليك؟ لديَّ حاجاتٌ وحاجاتٌ أفكِّر بها، أتمنى الجلوس معك لكي أخبرك بها، إذا لم تسمعها يا أبي فسوف أخبر غيرك بها.
أبتي، كم أنا محتاج للجلوس بين يديك والحديث معك! فأنا أعلم أن لديك الكثير والكثير لكي تدلني وترشدني، ولكن أرى حقي قليلا، وغيري أخذ الكثير. أبتي، كم تمنيت أن أكون أحد زملائك حتى تقبِّلني مثلما تقبلهم كلما التقيت بهم. أبتي، كم تمنيت أن تمسك بيدي وتأخذني معك المسجد، وكم تمنيت أن توصلني لمدرستي مثل أصحابي. أبتي، كم أنا محتاج لكي تسأل عني في مدرستي! وكلما فتح باب الفصل ظننته أنت، ولكن دون جدوى.
كم تمنيتُ أن تأتي لتسأل عني وعن تفوقي. أبتي، كم أنا محتاج لكي تطَّلِع على دفاتري وعلى كتبي المدرسية، وتطلع على تطلعاتي وتفوقي. أبتي، كم أنا محتاج إليك لكي أتعلم منك، فحينما يسأل أستاذي عن مسألة ويجيب أحد زملائي أن السبب والده في حَلها كم تمنيت أن تكون ذلك الأب.
أبتي، كما أنا محتاج لكي آكُل معك، وأتعلم منك كيف آكل، وكيف أشرب، وكيف أتحدث، وكيف... أبتي، كم أنا محتاج لكي أخرج معك وأتنزه وألعب وأمرح وأسبح معك، فغيري يقول ويقول: ذهبتُ مع أبي، ولعبت مع أبي، وجلست مع أبي، وذهبت أسرح في خيالي فأتمنى أحياناً أن يكون أباه أبي!.
أبتي، كم هو جميل حينما تحضنني إليك، وتمسح بيدك الجميلة على رأسي، كم أشعر بالأمن والأمان، والراحة، والثقة بالنفس. أبتي، كما أن محتاج لكلمة طيبة منك تحفزني وتشجعني بها، تخطط معي كي أصبح مثلك ناجحاً. أبتي، كم أشعر بالسعادة حينما تفاجئنا بهدية ولو كانت بسيطة، أأنت تعلم كم أنا محتاج لرعايتك واهتمامك؟.
أبتي، كما أنا محتاج للسفر معك، وكم تمنيت أن أكون رفيقاً لك لكي أسافر معك في كل سنة. أبتي، هي أخطاء أمارسها وأحتاج منك أن توجهني، فأنت تعلم يا أبي أن المجتمع الذي أعيش فيه نقيض من المتناقضات، وأنا أعيش في حيرة من أمري، أرجوك يا أبي أن تحاورني، أن تساعدني، كم أنا محتاج لكي تحفظني القراءة أو آية أستفيد منها حياتي وتكون لك رصيداً في حسناتك! أبتي، كم أنت قدوة لي! ولكن أحيانا تنسى أو تتناسى يا أبي، فأنت قدوة لي مهما كان أمري، أعتذر منك، أطلت عليك لتقرأ ما في نفسي، أردت يا أبي أن أخبرك بأن لك دوراً كبيراً في حياتي، فهل فهمت دورك يا أبي؟.
نعم -أحبتي في الله- هذا هو ما يتلقاه الآباء من بعض أبنائهم وبناتهم، وخاصة بعد بلوغ سن المرهقة، فهل سألوا أنفسهم كم من الوقت خصصوا لمتابعة هؤلاء الأبناء؟ كم خصصوا من الرعاية ورحابة الصدر وحسن التوجيه؟ والاهتمام بالتربية هي مهمة الأنبياء والرسل، تحتاج إلى جهد وكفاح، وإلى عقول منفتحة، وقلوب كبيرة، وإذا لم يكن الوالدان قدوة في دينهم وأخلاقهم فلن تؤثر نصائحهم، ولا يجنى من محاكاتهم إلا الشر والأسى.
كيف -عباد الله- نطلب من المراهق لساناً عفيفاً وهو يسمع كلمات نابية تنهال عليه من البيت من كل جانب؟ كيف نطلب من المراهق أن يقلع عن التدخين ووالده يدخن ليلاً ونهاراً؟
إِذَا كانَ رَبُّ البَيْتِ باِلدُّفِّ ضَارِبَاً *** فَشِيمَةُ أهْلِ البَيْتِ كُلِّهِمِ الرَّقْصُ
كيف تتربى الأجيال والأب مشغول مع أصحابه بالسهرات فلا يرجع إلى البيت إلا في ساعات متأخرة من الليل؟ كيف تستقيم الأجيال والأم تقضي معظم وقتها في ارتياد الأسواق أو الثرثرة مع الصديقات في الهاتف أو خلال الزيارات؟ كيف يستقيم الولد وهو يرى أمه تلجأ إلى الكذب وتحتال إلى الأب لأخذ أمواله وإنفاقها في غير وجهها الشرعي؟ كيف يستقيم المراهق أو المراهقة وهو يرى أباه يجمع الأصحاب غير الملتزمين بدينهم ويُمضِي الوقت في اللعب بالورق، أو شرب الدخان والشيشة؟!.
إن الأم التي تهدر الصلوات بحجة المشاغل الكثيرة، والأب الذي يتخلف عن صلاة الجماعة، لهما الأثر السيئ الممتد إلى ذلك الابن المراهق والبنت المراهقة؛ لسرعة تأثرهما بوالدِيهما وبعواطفهما المتأججة. فعلى الوالدين أن يتقيا الله في سلوكهما؛ ليصلح بذلك أبناؤهم، وتصلح بعد ذلك الأمة كلها بأقل تكاليف، "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته".
عباد الله: إن حسن اختيار الزوج لزوجته يهيئ للبيت المسلم بيئة صالحة، ومحضنا خصباً، فيضمن الإسلام بذلك سلامة البناء بسلامة أساسه، (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) [البقرة:221].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تنكح المرأة لأربع"، في أسرة مسلمة متماسكة قيمها كتاب الله وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، أم لا تغفل عن ذكر الله، أم تعرف أن حسن تبعلها لزوجها واجب أملاه عليها دينها، أم ألزمت نفسها مسئولية الرعاية لتقوم بها حق قيام.
وأب لا تلهيه تجارة أو بيع عن ذكر الله، استرعى وصية نبيه -صلى الله عليه وسلم-: "استوصوا بالنساء خيراً"، في تلك البيئة الممتلئة بلون الإيمان تتفتح شخصية الأطفال على نور الإسلام، ولذا تعين على الأب الذي يريد بيتاً كهذا أن يبحث عن حارسة تستمد تصبرها من الإسلام؛ ولهذا فإنه سيضحي بأشياء، سيضحي بالاهتمام الكاذب في المرأة، سيضحي بالمظهر البراق للجِيَف الطافية على وجه المجتمع ليبحث عن ذات الدين التي تعينه على بناء البيت المسلم، وكم كان السلف -رحمهم الله- يهتمون بذلك فكانوا يرون أن من حقوق أبناءهم عليهم حسن اختيار أمهاتهم.
جاء رجل إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يشكو إليه عقوق ابنه، فأَحْضَرَ عمرُ الولد وابنُه وأنَّبَهُ على عقوقه لأبيه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين، أليس للولد حقوقٌ على أبيه؟ فقال: بلى، أن ينتقي أمه، ويحسن اختيار اسمه، ويعلّمه الكتاب. فقال الولد: يا أمير المؤمنين، إنَّ أبي لم يفعل شيئاً من ذلك، أنا أُمي كانت زنجية لمجوسي، وقد سمَّاني جُعلاً "خنفساء"، ولم يعلّمني من الكتاب حرفاً واحداً، فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئتَ إليَّ تشكو عقوقَ ابنك، وقد عققته قبل أن يعقك؟ وأسأت إليه قبل أن يُسيء إليك؟.
ولهذا فإن العاقل اللبيب يدرك الخطورة من الزواج من امرأة ليست مسلمة، نحن نعلم أن الزواج بكتابية مباح، إلا أن ذلك مشروط بصيانة الرجل، وهيمنة هذا الدين الحنيف، أما إذا كانت تلك الكتابية ممن يحاربون المسلمين، أو يتطاولون على حضارتهم وعقيدتهم، فالأمر جد خطير، وهل هناك أخطر من أن تعلِّم المرأة طفلها أن الله ثالث ثلاثة؟ أو أن عزيراً ابن الله؟ وما بالُكَ إذا كانت الزوجةُ ملحدةً أو باطنيَّةً؟ وكيف يحصل للرجل بعد ذلك السكن النفسي الذي قال الله عنه: (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا؟) [الروم:21].
وهل تقر عينه بالذرية الطيبة التي يدعو لها الصالحون؟ (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) [الفرقان:74]؟ وهكذا لابد من التأنِّي بحسن الاختيار بين الزوجين، ولابد من تقديم شرط الدين، والخلق الحسن، والمنبت الطيب، لابد من الارتفاع فوق شروط المادة والمغريات، لابد من تقديم الجو الودود، والاحتماء بجو التفاهم، بعيدا عن الخلاف والشقاق؛ حتى لا تصبح الأسرة مجالاً للاختلاف، وتتحول إلى جحيم لا يطاق، لابد من تحكيم الشرع بعيداً عن الأهواء والنزوات خلال المعايشة، وأثناء متابعة التربية، لعل الله أن يصلح ما أعطاه.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، صلَّى اللهُ وسلَّمَ وبارَكَ عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.
أيها الأب: أنت مطالبٌ أن توفر لزوجتك السكن النفسي، والاطمئنان، والكسب الذي يكفل لها ولأبنائها الحياة الكريمة؛ لتؤدي مهمتها باطمئنان، فأيّ جسم نبت من حرام فالنار أولى به.
كان بعض السلف يقُلْنَ لأزواجهنَّ: إنك كاتب ولست برزاق... فلهذا لا يكفي منك أن يكون التوجيه فلسفة عارضة، أو ندوة طارئة حسب انفعالاتك ومزاجك، وتبعاً لسكونك وغضبك، بل إنه عملية مستمرة حتى تلقى الله -عز وجل-.
أيها الأب: قل لي بالله! ماذا تقرأ؟ وماذا تكتب؟ وماذا تشاهد وماذا تسمع؟ أقُلْ لك أيّ مُربٍّ أنت. واعلم أن ما حُرِّمَ كثيره فقليله حرام، ما نصيب القرآن من وقتك؟ وما هو علمك بالسنة حتى تربي عليها أبناءك؟ ما هي اهتماماتك؟ وماذا يشغل بالك؟ وهل لك في الهمة العالية نصيب؟ فمَن كان القرآن زاده والسنة شرابه كانت الجنة مآله ومصيره.
أيها المربي: إن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولبدنك عليك حقا، فهل أعطيت لكي ذي حق حقه؟.
أيها الأب المربي: ماذا تشغل في نفسك هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ؟) [التحريم:6]
أيها الأب المربي: وأنت مطالب بالملاحظة والمتابعة فأنت راعٍ ومسؤول عن رعيتك، وكم سمعنا أن بعض الآباء جلس عشرات الجلسات، لا تقلُّ الجلسة عن الساعات، في جلسات اللهو عند أصحابه، أو في القهاوي، أو على الأرصفة، أو في الاستراحة، أو في شقة مستأجرة؛ فهل يتبنى أبناءَه عشر هذا الوقت؟! فأين الملاحظة والمتابعة؟ يذهب للصباح لعمله، يعود وينام إلى العصر، يذهب مع أصحابه يتعشى خارج المنزل، يذهب ليسهر فلا يعود إلا الثانية أو الثالثة، الأطفال يذهبون المدرسة مع أبناء الجيران أو في وسيلة النقل، فقل لي بالله: متى تكون الملاحظة والمتابعة؟!.
ولا تنسى أيها الأب المربي أن تعلق السوط حيث يراه أهل البيت، فلا دلالَ مفرطا، ولا عقوبة مفرطة، ولكن حسب ما يقتضيه الحال، ويشرح البال
الْعَبْدُ يُقْرَعُ بِالعَصَا *** وَالحُرُّ تَكْفِيهِ الإِشَارَه
تدرَّجْ بالعقوبة، لمحْ بها، والجأ للضرب إذا لم يفد الأمر، ولكن بعد استنفاد وسائل العقوبة جميعاً، على أن يكون الضرب غير مبرح، ولا تضرب وأنت غضبان، ولا تضرب قبل سن العاشرة.
ورد في إحدى الجرائد المحلية أن أماً تغاضبت مع زوجها وذهبت إلى بيت أبيها تاركة أولادها معه عقوبة له حتى تؤدبه بطريقتها الخاصة، فكان الذي في الثانية من عمره يبكي تلك الليلة، تحَمَّله في الليلة الأولى، وعنَّف به في الليلة الثانية، فأخذ المكواة ثم ضرب بها ذلك الطفل حتى فارق الحياة.
أيها الأب المربي: إنها الجنة، فهل أعددتَ لها؟ هل بذلت وربيت وتعبت؟ لعل الله -عز وجل- أن يتداركك برحمته فيجمعك وأسرتك فيها، (وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) [الطور:21].
اللهم هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، أنت ولي ذلك والقادر عليه.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي