إن كل حاسة من الحواس، وكل نسمة من الهواء، وكل ذرة من العافية، لا تقدر بثمن, إن أموالَك كلَّها لا تساوي ليلةً واحدة تقضيها على السرير الأبيض, ولو أصيبت رجلك أو يدك بمرض -لا سمح الله وحفظك الله- وقرر الأطباء بتر هذه الرجل أو تلك اليد، ثم قيل لك إن هناك علاجًا في أقصى الدنيا، وقيمتُه جميعُ ما تملك، هل تدفع أو لا؟..
أخي الحبيب: هل تأملت في نفسك التي بين جنبيك؟ هل نظرت يومًا إلى يديك؟ كيف تحركها وتقبضها وتبسطها؟ هل نظرت إلى قدميك؟ كيف تمشي بها من هنا إلى هناك، دون أن تعصيك.
هل تأملت في قلبك الذي يضخ في اليوم آلاف اللترات، ويخفق في الدقيقة الواحدة الآلاف من الضربات.
هل تعلم أنك تتنفس في اليوم ثلاثة وعشرين ألف نفس دون توقف؟
هل تأملت هذا ثم سألت نفسك: من الذي أجرى نَفَسَك ودمك, وشقّ سمعك وبصرك, وحرّك يدك وقدمك؟ إنه الله جل جلاله.
إن نعمة الصحة والعافية، تاج على رؤوس الأصحاء، لا يعرفها إلا أهل المرض والبلاء.
وقد قيل: الصحة تاج فوق رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.
وفي الموضوع ثلاث وقفات:
1/ ما قيمة هذا التاج؟
أيها الحبيب المعافى: إن كل حاسة من الحواس، وكل نسمة من الهواء، وكل ذرة من العافية، لا تقدر بثمن, إن أموالَك كلَّها لا تساوي ليلةً واحدة تقضيها على السرير الأبيض, ولو أصيبت رجلك أو يدك بمرض -لا سمح الله وحفظك الله- وقرر الأطباء بتر هذه الرجل أو تلك اليد، ثم قيل لك إن هناك علاجًا في أقصى الدنيا، وقيمتُه جميعُ ما تملك، هل تدفع أو لا؟ بلى والله.
إن الصحة خير من المال، كما روى الإمام أحمد وابن ماجه وصححه الألباني عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ -رضي الله عنه- عن عمه -رضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا فِي مَجْلِسٍ فَجَاءَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- وَعَلَى رَأْسِهِ أَثَرُ مَاءٍ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُنَا: نَرَاكَ الْيَوْمَ طَيِّبَ النَّفْسِ، فَقَالَ أَجَلْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ أَفَاضَ الْقَوْمُ فِي ذِكْرِ الْغِنَى، فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنْ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنْ اتَّقَى خَيْرٌ مِنْ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنْ النَّعِيمِ"
إن تاج الصحة هو ثالث ثلاثة، تمثل الحياة بحذافيرها: الصحة والأمن والقوت, فعن عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ, عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا" رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
ومع أن المعافاة في الجسد ثلث الدنيا، وهي التاج والكنز, لكن الكثير من المغبونين يبيعونها بثمن بخس, ففي البخاري عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ".
2/ وسقط التاج:
فبينما الإنسان متمتعًا بتاج صحته، متلبسًا برداء عافيته؛ إذ سقط التاج، وانقطع العلاج، وانكشف اللباس، وظهر البأس, وكلّ ذلك بحكمة الله.
أيها المعافى في بدنه: لا تغترّ بصحتك وعافيتك؛ فإن الدنيا غرّارة، والنعم زوّالة.
يا بن آدم, يا ضعيف: من يمنعك من المرض؟ من يمنع الميكروبات الصغيرة والفيروسات الدقيقة من أن تتسلل إلى خلايا جسمك؟ من يمنعك من الله من أن يأخذ سمعك أو بصرك أو حواسك وأطرافك, (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ) [الأنعام:46].
فإن كنت في شك مما أقوله لك، فانظر حولك إلى المرضى والمصابين, ممن كانوا يتمتعون بالصحة، ويرفلون في ثياب العافية، وفي لحظة واحدة، تغيرت أحوالهم، وانقطعت آمالهم.
أعرف صديقًا كان من أنشط الشباب وأقواهم، حتى فجعت باتصاله وهو يقول: إنه أصيب فجأة بسرطان الدم، وما هي إلا أيام في المستشفى، ليتحول ذلك الجسم القوي إلى هيكل نحيل، أسأل الله أن يشفيه وجميع مرضانا ومرضى المسلمين.
والتقيت بشاب آخر مشلول، لا يتحرك منه إلا رقبته فقط، يقول لي: نحن نمارس حياتنا كإنسان يعيش بمن حوله، ولا يفعل شيئًا إلا بلسانه، يا فلان أعطني أطعمني اسقني، اذهب بي إلى دورة المياه وهكذا.
وشاب مشلول آخر يقول لي: أنا منذ أربعة عشر عامًا لم أحكَّ وجهي، أكلي وشربي أمامي لا أستطيع أن أتناوله، فسألته عما يتمناه في حياته، هل يتمنى أن تعود له صحته ليجمع المال، أو يتلذذ بالشهوات، أو يتمتع بالسهرات؟ لا، ذكر لي ثلاث أماني تقطع القلب، قال أتمنى أن أسجد لله سجدة، ولو لم أقم بعدها حيًّا، وأتمنى أن أقلب ورقة واحدة من المصحف، وأتمنى أن أضمّ والدتي في يوم عيد أو فرح.
أسألكم بالله: كم منا ممن لا يسجد لله وهو صحيح معافى، ولا يريد أن يتحرك عن فراشه لصلاة الفجر وهو غير مشلول؟ كم منا ممن هو عاقّ لوالديه وهو صحيح معافى؟ أين الشباب الذين غرتهم عافيتهم وحلم الله عليهم.
قبل سنوات، دخلت على شابين مشلولين من ضحايا التفحيط، بإحدى الغرف في مستشفى النقاهة, على السرير الأيمن شاب عمره -يوم أن دخل المستشفى- عشرون عامًا, ثم أمضى بعد الحادث أحد عشر عامًا على السرير, قد انثنت أطرافه، وانحرفت رقبته، وشلّت حركته، فلم يبق له من الحركة سوى نظرةٍ بالعين, والتفاتةٍ يسيرة بالعنق, وعلى السرير الآخر شاب دخل المستشفى وعمره أربعة وعشرون عامًا, أمضى في المستشفى بعد الحادث ثماني سنوات, كان بجوار هذا الشاب ممرض معه طعام سائل يرفعه بالملعقة، فإذا وصلت إلى فم الشاب المسكين حرك شفتيه ليشرب، ثم ينتظر الملعقة الأخرى.
أين الشباب الذي يغامرون بصحتهم في علاقات الزنا أو اللواط المحرمة, التقيت بأحد الشباب ممن كانوا بالأمس ضحية للشهوات, علاقات وسهرات, وجولات وسفريات, وفي لحظة واحدة، وجد هذا الشاب نفسه ضحية لمرض الإيدز؛ المرض الذي يسلطه الله –تعالى- على أهل الشهوات المحرمة, كنت أقول لهذا الشاب: هل بقي شيء من العلاقات المحرمة بعد إصابتك بالمرض؟ قال: لا، ليس عجزًا، ولكني كرهت نفسي، كرهت الحياة، كرهت النساء بسبب هذا المرض, فأين الشباب عن هذا الخطاب، أين أهل العافية ليتقوا الله وهم في صحتهم قبل أن يسقط التاج، ويكونوا في مثل حال هذا الشاب، ولات حين مندم.
هذه الحوادث تذكرني بما وقع في إحدى الدول عندما قبض على شاب سكران، فخيّره القاضي؛ إما بسجن خمسة أشهر في السجن أو العمل الاجتماعي مدة 240 ساعة, فاختار الحكم الثاني، فوضعوه في مستشفى الحوادث، يدفع كراسي المصابين والمشلولين، ويشغّل لهم المصعد، ويذهب بهم لدورة المياه -أعزكم الله- ويتحدث معهم، مشلول يقول له: إن شلله بسبب قائد سيارة سكران، وآخر يقول: إنه كان يقود دراجته بسرعة جنونية ومعه صاحبه فانزلقت الدراجة ومات صاحبه وأصيب هو بشلل رباعي، ومشلول آخر في دورة المياه لا يستطيع أن يقبض بأصابعه على (الاسفنجة) يقول: أتمنى أن أخسر كل ما لديّ من مال وأحصل على يد مثل يدك وأصابع متحركة مثل أصابعك, فينهار الشاب ويتصل بالقاضي ليقول: أنا على استعداد للسجن سنة كاملة وليس خمسة أشهر فقط، ولكن أخرجوني من هذا المستشفى، ويرفض القاضي، وتمضي الأيام ليخرج الشاب بعدها إنسانًا آخر.
أيها الحبيب المعافى: لا تغترّ بصحتك وشبابك, كم من مسرف على نفسه هجم عليه المرض وهو شاب، وكم من مسرف مضت سنوات عمره في الفساد والضياع، ولسان حاله كما يقول بعض الناس: احرق الروح قبل ما تروح، متع نفسك بالمحرم، قبل ما تشيب وتحرم.
وما علم المسكين أن المرض بالمرصاد، في هذا الحين أو بعد حين وهو أشد.
قال ابن رجب: وكان بعض العلماء قد جاوز المائة سنة وهو ممتع بقوته وعقله، فوثب يومًا وثبةً شديدةً فعوتب في ذلك، فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغَر فحفظها الله علينا في الكبَر، وعكس هذا أن بعض السلف رأى شيخًا يسأل الناس فقال: إن هذا ضعيف ضيَّع الله في صغره فضيَّعه الله في كبَره. اهـ
قبل فترة، كنت في زيارة لإحدى دور المسنين -طبعًا- هناك فئة دفعتها ظروف الحياة أو عقوق الولد لدخول الدار، لكن هناك فئة أخرى عجيبة، أقول لعدد منهم: أين أولادك؟ قال ليس عندي أولاد.
أين زوجتك؟ قال: لم أتزوج.
أين أهلك وقرابتك؟ هجروني منذ عشرات السنين.
سألت المشرف الاجتماعي: ما الخبر؟ قال لي: هذا النوع من الحالات من كبار السن أمرهم عجيب، أكثرهم كان صاحب تاريخ أسود، فجور وشهوات، وسهرات ومسكرات، سفرات ومغامرات، وأقول: وقد حدثني بعضهم بمغامراته شرقًا وغربًا، فلما سكنت فورة الشباب، وذبلت زهرة العمر، انتهى بهم المآل إلى هذه الدار، ليسددوا فاتورة الدشرة والضياع، فلا أهل لا ولد لا عمل لا مال، وبعضهم مصاب بالشلل، وآخر بمرض نفسي، وآخر كالطفل, نعوذ بالله من سوء الخاتمة، ونعوذ به من أن نردّ إلى أرذل العمر.
ونقول كما ثبت في صحيح مسلم من دعائه صلى الله عليه وسلم: اللهم إنا نعوذ بك مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ وَجَمِيعِ سَخَطِكَ.
والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية
3/ كيف نستثمر التاج؟
يا من يحمل تاج العافية فوق رأسه، كيف تستثمر هذا التاج.
إنَّ من خير ما نتذاكر به وصيةَ النبي -صلى الله عليه وسلم- التي رواها الحاكم والبيهقي وصححها الألباني عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"
وفي الصحيحين عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِمَنْكِبِي فَقَالَ: "كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ" وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرْ الصَّبَاحَ وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ.
إن في الموت والمعادِ لشغلًا *** وادكارًا لذي النُّهى وبلاغًا
فاغتنم نعمتين قبل المنايا *** صحة الجسم يا أخي والفراغا
إن من استثمار وشكر نعمة العافية والجوارح أن يعمل بها في طاعة الله, ليس من الشكر أن يخرج لنا أحد الفنانين -هداه الله- في إحدى الصحف، فيسأله الصحفي عن مرضه، فيقول: إنه أصيب بالتهاب في الحبال الصوتية، وأن والدته أحضرت له ماءً قرأ فيه أحد القراء فشفاه الله -سبحان الله- وهل يرضى الله الذي شفاك أن تسخّر هذا الصوت في معصيته؟ (قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) [الأعراف: 28].
إن مما يعيننا على اغتنام الصحة والعافية أن نعلم أننا سنسأل عنها يوم القيامة، كما قال تعالى: (ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [التكاثر:8].
قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار، يَسألُ اللهُ العبادَ فيم استعملوها، وهو أعلم بذلك منهم.
وقد روى الترمذي في هذا السؤال العظيم، حديثين صحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ كما أفاده الألباني.
الأول قال فيه النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يُؤْتَى بِالْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أَجْعَلْ لَكَ سَمْعًا وَبَصَرًا وَمَالًا وَوَلَدًا، وَسَخَّرْتُ لَكَ الْأَنْعَامَ وَالْحَرْثَ، وَتَرَكْتُكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ، فَكُنْتَ تَظُنُّ أَنَّكَ مُلَاقِي يَوْمَكَ هَذَا؟ قَالَ فَيَقُولُ: لا، فَيَقُولُ لَهُ: الْيَوْمَ أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي"
أما الثاني فقد قَالَ فيه صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؛ يَعْنِي: الْعَبْدَ مِنْ النَّعِيمِ، أَنْ يُقَالَ لَهُ: أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، وَنُرْوِيَكَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ"
نعم، إذا شربت كأس الماء هل تقول: الحمد لله؟ وتستشعر عظيم فضل الله عليك بكأس الماء؟
ذكر أهل السير أن ابن السَّمَاك دخل على هارون الرشيد، وهو يشرب فقال له: أستحلفك بالله، لو أنك مـُنعت هذه الشربة من الماء، فبكم كنت تشتريها؟ قال: بنصف ملكي، قال: اشرب هنأك الله، فلما شرب قال: أستحلفك بالله –تعالى- لو أنك منعت خروجها من جوفك بعد هذا، فبكم كنت تشتريها؟ "يعني كما يقع لبعض المرضى من الحصر والألم الشديد وتوضع لهم الأنابيب والقسطرة ليخرج البول" قال هارون: بملكي كله.
فقال: يا أمير المؤمنين إن ملكا تربو عليه شربةُ ماء، وتفضله بولةٌ واحدة، لخليق ألا يُنافس فيه، فبكى هارون الرشيد، حتى ابتلّت لحيته.
فقال الوزير الفضل بن الربيع: مهلًا يا ابن السماك فأمير المؤمنين أحق من رجا العاقبة عند الله بعدله في ملكه -يعني لا تزعل طويل العمر- فقال ابن السماك: يا أمير المؤمنين، إن هذا ليس معك في قبرك غدًا، فانظر لنفسك، فأنت بها أخبر، وعليها أبصر.
وأما أنت يا فضل، فمن حق الأمير عليك، أن تكون يوم القيامة من حسناته، لا من سيئاته، فذلك أكفأ ما تؤدي به حقه عليك, لاشيءَ أجلُّ من العافية، ولا يدوم ملك إلا بالعدل، ولا ينفع نفسًا إلا ما قدمت، (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئًا) [الدخان:41] ويوم (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُم) [الروم:57].
وأخيرًا أيها الحبيب المعافى: إن من استشعار تاج الصحة، واستثمار نعمة العافية، التوبةَ الفورية قبل أن يسقط التاج.
إن واعظ التاج يقول: يا عبد الله, كيف تعصي الله رب الناس، وإحسانه إليك على مدى الأنفاس, أعطاك السمع والبصر والحواس، ومتعك بالصحة وألبسك من العافية أتم لباس، ثم أحاطك بمدد من الملائكة الحرّاس، يحفظون عليك صحتك، ويدرؤون الأذى عنك (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) [الرعد:11].
ثم أمرك بشكره، لا لحاجته إليك، ولكن لتنال به المزيد من فضله، فكفرت نعمته واستعنت بها على معصيته, دعاك إلى بابه فما وقفت عليه ولا طرقته، فتحه لك فما دخلته، أرسل إليك رسوله فعصيته, ومع هذا فلم يعاجلْك بالعقوبة، ولم يؤيسْك من رحمته، بل قال: متى ما تبت قبلتك، لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا، لأتيتك بقرابها مغفرة, لو بلغت ذنوبك عنان السماء, ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي, عبادي يبارزونني بالعظائم، وأنا أكلؤكم على فرشهم، إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إلي صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، وأنا الغني عنهم، ويتبغضون إلي بالمعاصي، وهم أفقر شيء إلي.
فإلى كل معافى نقول: بادر بالتوبة واستثمر تاج الصحة في العمل الصالح, وإلى كل مريض نقول: لا تحزن، اصبر واحتسب، فالمرض خير للمؤمن، والابتلاء دليل محبة الله للعبد، إن الأمراض رحمات وكفارات، ومذهبة للسيئات، بل قد يكون المرض خيرًا لبعض الناس من الصحة.
فعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَعْرَابِيٌّ أَعْجَبَهُ صِحَّتُهُ وَجَلَدُهُ، قَالَ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: مَتَى أَحْسَسْتَ أُمَّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ أُمُّ مِلْدَمٍ؟ قَالَ: الْحُمَّى، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ الْحُمَّى؟ قَالَ: سَخَنَةٌ تَكُونُ بَيْنَ الْجِلْدِ وَالْعِظَامِ، قَالَ: مَا بِذَلِكَ لِي عَهْدٌ، قَالَ: فَمَتَى أَحْسَسْتَ بِالصُّدَاعِ، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ الصُّدَاعُ؟ قَالَ: ضَرَبَانٌ يَكُونُ فِي الصُّدْغَيْنِ وَالرَّأْسِ، قَالَ: مَا لِي بِذَلِكَ عَهْدٌ، قَالَ: فَلَمَّا قَفَّا أَوْ وَلَّى الْأَعْرَابِيُّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَلْيَنْظُرْ إِلَيْهِ" رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وقال عنه الألباني حسن صحيح, وفي رواية صحيحة أخرى عند الطبراني: "إن أم مِلْدَم تخرج خبثَ ابنِ آدم كما يخرج الكيرُ خبثَ الحديد".
وعلى كل حال: المؤمن يسأل الله العافية ولا يتمنى المرض ولا يحبه، فإذا ابتلي بالمرض كان من الصابرين الراضين، وهو مأجور في كلا الحالين، وليس ذلك إلا للمؤمنين.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي