لن نعجب من عدو كافر يستبيح دماء المسلمين بالتشوف للدماء والاعتداء, فذاك أمر ليس بغريب ولا جديد، ولكن أن يقتل المسلم أخاه ويتورط في دمه بلا حق فتلك –والله- المصيبة والفتنة التي حذر منها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبر بوقوعها بين يدي الساعة ..
أما بعد: نظرة يومية لنشرات الأخبار ومشاهدها تنبيك عن الأمر العظيم الذي انتشر اليوم في كثير من بلاد المسلمين, فارجع البصر في بغداد الرشيد -طهرها الله من رجس الاحتلال- لترى استرخاص الدماء والقتل والتفجير الجماعي، في حوادث وأحداث يومية، قتلا وسفكا وتفجيرًا وتدميرًا، ثم ارجع البصر أخرى لترى ألوانًا من العداوات والخلافات بين بعض المسلمين حصادها أنفس بريئة ودماء معصومة, ثم قف معي في جولة سريعة في سجوننا، لترى المئات ممن تورطوا في قضايا قتل، أزهقت بسببها الأنفس لأسباب تافهة، ومواقف شيطانية عابرة.
سبحان الله, هل أصبح الدم المسلم رخيصًا إلى هذا الحد؟
لن نعجب من عدو كافر يستبيح دماء المسلمين بالتشوف للدماء والاعتداء, فذاك أمر ليس بغريب ولا جديد، ولكن أن يقتل المسلم أخاه ويتورط في دمه بلا حق فتلك –والله- المصيبة والفتنة التي حذر منها النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبر بوقوعها بين يدي الساعة.
ففي الصحيحين عن أبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ وَيُقْبَضُ الْعِلْمُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ وَيُلْقَى الشُّحُّ وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ قَالُوا وَمَا الْهَرْجُ قَالَ: الْقَتْلُ".
وعن أبي موسى -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: "إن بين يدي الساعة لهرجا، قال قلت يا رسول الله ما الهرج؟ قال: القتل فقال بعض المسلمين يا رسول الله إنا نقتل الآن في العام الواحد من المشركين كذا وكذا فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس بقتل المشركين ولكن يقتل بعضكم بعضا حتى يقتل الرجل جاره وابن عمه وذا قرابته, فقال بعض القوم: يا رسول الله ومعنا عقولنا ذلك اليوم, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: لا، تُنزع عقول أكثر ذلك الزمان ويَخْلُف له هباءٌ من الناس لا عقول لهم, ثم قال الأشعري: وايم الله إني لأظنها مدركتي وإياكم، وايم الله ما لي ولكم منها مخرج إن أدركتنا فيما عهد إلينا نبينا -صلى الله عليه و سلم- إلا أن نخرج كما دخلنا فيها" أخرجه ابن ماجه وصححه الألباني.
إنها الفتنة -يا عباد الله- إذا أقبلت ضعفت الديانة، وقل التفكر والتعقل، وكثر إعجاب المرء بنفسه، واتهامه لغيره ومن ثمَّ سرعة إقدامه وجرأته, وصدق المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "إن السعيد لمن جُنّب الفتن, إن السعيد لمن جُنب الفتن, إن السعيد لمن جُنب الفتن" أخرجه أبو داود بسند صحيح.
عباد الله: لقد عظمت شريعتنا الغراء أمر الدماء, وبينت نصوص كثيرة محكمة قطعية عصمة الدم المسلم وتعظيمه، بل جعلت الشريعة حفظ النفس إحدى الضروريات الخمس التي اتفقت الشرائع السماوية على حفظها والمحافظة عليها، وهي حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ المال وحفظ العرض.
والدماء هي أول الحقوق التي يقضى فيها يوم القيامة.
فعن ابن مسعود -رضي الله عنه- قال: "أول ما يقضى بين الناس بالدماء" رواه البخاري ومسلم.
قال المهلب -رحمه الله-: أما قوله "أول ما ينظر فيه من أعمال الناس في الدماء" يعني أول ما ينظر فيه من مظالم الناس لعظم القتل عند الله وشدته.
هل تعلمون -يا عباد الله- أن هناك رجلاً واحدًا يتحمل كفلا من وزر كل نفس تقتل وتزهق من أول البشرية إلى قيام الساعة؟
نعم، إنه قابيل بن آدم، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها وذلك لأنه أول من سن القتل" متفق عليه.
يشير صلى الله عليه وسلم إلى ما جاء في قصتهما في سورة المائدة (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [المائدة:30].
ومما يدل على تعظيم الدماء وحرمتها أن قتل المسلمين وقتالهم من موجبات النار وهو من أنواع الكفر العملي، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار, قيل يا رسول الله: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه" رواه البخاري ومسلم من حديث أبي بكرة رضي الله عنه.
يكفي -يا عباد الله- أن المجرم القاتل تُوعِّد بوعيد عظيم لم يرد مثله في جميع أصحاب الكبائر قال تعالى (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [النساء: 93].
يكفي أن الكعبة على حرمتها وعظمتها تهون عند حرمة دم الرجل المسلم وقد نظر ابن عمر -رضي الله عنه- يوما إلى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك والمؤمن أعظم حرمة منك.
أخرجه الترمذي وابن حبان بإسناد حسن موقوفا على ابن عمر رضي الله عنهما.
بل إن ذهاب الدنيا كلها وزوالها أهون عند الله من قتل المسلم الذي يشهد أن لا إله إلا الله.
فقد أخرج الترمذي من حديث عبد الله ابن عمر -رضي الله عنهما- قال " زوال الدنيا كلها أهون على الله من قتل رجل مسلم" رواه الترمذي وقال حديث حسن.
قال ابن العربي -رحمه الله-: "ثبت النهي عن قتل البهيمة بغير حق والوعيد في ذلك فكيف بقتل الآدمي فكيف بالتقي الصالح" فتح الباري 12/189.
إن حرمة دم المسلم تستوجب تعذيب أهل الأرض جميعا في النار في حالة لو اتفقوا وتآمروا على قتل مسلم واحد فإنهم يستوجبون العذاب بالنار بذلك الفعل.
فعن أبي سعيد وأبي هريرة -رضي الله عنهما- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله تعالى في النار" رواه الترمذي وقال حديث حسن.
إن المسلم في فسحة من دينه حتى يعتدي على مسلم بالقتل.
فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لن يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما".
ثم قال ابن عمر: "إن من ورطات الأمور التي لا مخرج لمن أوقع نفسه فيها سفك الدم الحرام بغير حله", رواه البخاري.
فاتقوا الله -عباد الله- وحاذروا الفتن وأسبابها تسلموا وتغنموا في الدنيا والآخرة, نسأل الله –تعالى- أن يسلمنا في ديننا وأنفسنا وأموالنا وأن يسلم المسلمين منا إنه جواد كريم, بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من العلوم والحكمة, أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه.
عباد الله: إن المتأمل -عباد الله- في أحوال سلف هذه الأمة من الصحابة -رضي الله عنهم- والتابعين لهم بإحسان يجدهم قد نأو بأنفسهم عن الفتن واعتزلوها وتورعوا عن أذى المسلمين فضلا عن سفك دمائهم وانتهاكها.
قال مطرف بن عبد الله: إن الفتنة ليست تأتي تهدي الناس ولكن تأتي تنازع المؤمن عن دينه, ثم يقول: ولأن يقول الله لم لا قتلت فلانا أحب إلي من أن يقول لم قلت فلانا.
وعن عامر الشعبي -رحمه الله- قال لما قاتل مروان الضحاك بن قيس أرسل إلى أيمن بن صريم الأسدي فقال: إنا نحب أن تقاتل معنا, فقال الضحاك: إن أبي وعمي شهدا بدرا فعهدا إليّ أن لا أقاتل أحدا يشهد أن لا إله إلا الله فإن جئتني ببراءة من النار قاتلت معك قال اذهب ووقع فيه وسبه.
فأنشأ أيمن يقول:
ولست مقاتلا رجلا يصلي *** على سلطان آخر من قريشِ
له سلطانه وعليّ إثمي *** معاذ الله من جهل وطيشِ
أقاتل مسلما في غير شيء *** فليس بنافعي ما عشت عيشي
عباد الله: وإذا تبين لنا حرمة الدم المسلم ووجوب تعظيمه وصيانته وعدم التساهل في ذلك, فإن الواجب أن نذكّر بهذا أنفسنا وإخواننا وأبنائنا ونسائنا وكذا من تحت أيدينا من مكفول أو عامل, ونشيع هذا العلم العظيم لئلا يتساهل أحد في دم أحد سواء كان ذلك عن طريق التأويل أو التكفير أو كان عن طريق الاعتداءات والمنازعات والمضاربات البدنية التي تحدث بين الناس وتحدث أيضا بين الشباب في كثير من القضايا, فيجب أن ننتبه لذلك وأن نحذر من الاعتداء على الناس, ومثل ذلك أيضا التساهل في قيادة المركبات والتسبب في أنواع الحوادث التي تقتل البشر وتسفك دماءهم إذا كان ذلك بتعدٍّ وتفريط.
وهكذا يكون المسلم متورعا بعيدا عن هذه الأمور محافظا على دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم, والمؤمن كله خير وهو كالغيث أينما حلّ نفع لا يكون الناس منه إلا في أمن وخير والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
اللهم صل على محمد.
تم تحميل المحتوى من موقع
الجمهرة معلمة مفردات المحتوى الأسلامي